المجموعة: عدد رمضان 1437هـ
الزيارات: 10888

 

الوقفات التربوية مع العشر الليالي الذهبية

الوقفات التربوية مع العشر الليالي الذهبية

عناصر الخطبة:

مقدمة

العناية بالعشر

الاعتكاف

ليلة القدر

إلى مَن يشتكي من الحرمان

مقدمة : لقد قارب الضيف الكريم أن يفارقنا، بعد أن جعل أرواح المؤمنين تخفق إيمانا وخشية وتوبة وخشوعا، وأكسبها اخباتا وذلة وخضوعا، لرب كريم رحيم غفور، تعاظمت فيه مننه وعطاياه، وتكاثرت في أيامه منحه وهداياه، فالموفق من قَبِل الهدايا وتعَرَّض للنفحات والعطايا، والمخذول من انشغل عن تلك العطايا بفعل الذنوب والرزايا، ومع ذلك فلا زالت الفرص قائمة والأبواب مُشْرَعة، ليستدرك المتخلف ويلتحق المحروم ويستيقظ الغافل، وقد دخلت العشر الأواخر بما تحمله من مفاخر ، فهل من مشمّر على ساعد الجد والاجتهاد ؟، لاستثمار ما بقي من موسم التحصيل والإمداد، ليملأ خزائنه بكل ما لذ وطاب، من موجبات الأجر والثواب، ليختم له بالعزة والكرامة وينجو من الحسرة والندامة .

معا نقف عدة وقفات مع عشرٍ كلها نفحات وبركات نبحث سويا عن الرُّقي في الدرجات وعن الرضا من رب الأرض والسماوات، فأعط هذه العشر حصتها من التكريم، لتقابلك تكريما بتكريم، فليكن لك حظ وافر منها، مقتديا بخير الخلق -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي كان إذا دخل العشر الأواخر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.

- الوقفة الأولى عناية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجتهاده في تلك العشر وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.(1)

وقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- : كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.(2)

وقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْلِطُ الْعِشْرِينَ بِصَلاَةٍ وَنَوْمٍ، فَإِذَا كَانَ الْعَشْرُ شَمَّرَ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ .(3)

قال ابن رجب -رحمه الله- : كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخصّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر.(4)

- صور من اجتهاده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العشر الأخير

1- إحياء الليل :

نعم إحياء الليل. بماذا ؟ ليس بالسهر اللاهي، ولا الحديث البالي، أو اللعب والتسالي، ولكنه إحياء بالعبادة والصلاة وطول القيام وقراءة القرآن : (( يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا )).(5)

وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ، وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلَّا رَمَضَانَ.(6)

وعند النسائي عنها قالت : لَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَّاحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ.(7)

فيحمل قولها (( أحيا الليل )) على أنه يقوم أغلب الليل، أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله لكن يتخلل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل.

فأحيي ليلَك أيها العبد بالتملق بين يدي ربك يغفر لك ذنبك ويستر عيبك ويحيي قلبك

قال ابن القيم -رحمه الله- : إِذا طلعَ نجمُ الهمة فِي ظلام ليلِ البطالة وَردفهُ قمرُ الْعَزِيمَة أشرقتْ أَرض الْقلب بِنور رَبهَا.(8)

يا رفقة الليل طاب السيرُ فاغتنموا ... المسرى فمن نام طولَ الليل لم يصلِ(9)

يا من يتحجج بكثرة المشاغل اسمع ما يقول عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عندما سئل عن قلة نومه : مالي وللنوم فلو نمت بالنهار ضيعت المسلمين ولو نمت بالليل ضيعت نفسي.(10)

2- إيقاظ الأهل : (( وأيقظ أهله ))

وهذه رسالة تربوية إصلاحية، تؤكد عظم دور الأب والراعي في نصح أهله، وتربيتهم على الخير، وأنه مسئول عن ذلك، وأنه ما ينبغي الاستئثار بالخير دونهم، بل يشرك أهله وبنيه في ذلك الفضل الكبير (( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )).(11)

فهذا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان حريصا على إيقاظ أهله ليشركوه في الخير، عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.(12)

وفي لفظ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكُلَّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيقُ الصَّلَاةَ.(13)

ومن المعلوم أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يوقظ أهله في سائر السنة، ولكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل،

فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: (( سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ؟)).(14)

وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ.(15)

وعن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: (( أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟)).(16)

 لكن إيقاظه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة.

وحث -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزوجين على أن يعين بعضهما الآخر على القيام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ، نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى، نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ)).(17)

قال سفيان الثوري -رحمه الله- : أحبُّ إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.(18)

 3- الجدّ والاجتهاد

والجِدّ هو: بذل الجهد في فعل الطاعات، وذلك يستدعي أن يأتي الطاعة بنشاط ورغبة، وصدق ومحبة، ويستدعي أن يبعد عن نفسه الكسل والخمول والتثاقل، فمن جدَّ وجد ومَن زرع حصد وليس مَن سهر وتعب كمن رقد، ولا يدرك البطَّال منازل الأبطال.

أوْرَدَهَا سَعْدٌ وسَعْدٌ مُشْتَمِلْ ... مَا هكَذَا يا سعدُ تُورَدُ الإبل

فالأمر جدّ وما هو بالهزل قال تعالى { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } [البقرة: 63] وقال سبحانه {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145] وقال {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]

وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ )).(19)

 4- شدَّ المئزر :

ومعنى ( شد المئزر ) - قيل هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غيره ومعناه التشمير في العبادات. يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت.

- وقيل هو كناية عن اعتزال النساء للاشتغال بالعبادات.(20)

قومٌ إذا حاربُوا شدّوا مآزرَهُم       دونَ النّساء ولَوْ باتَتْ بأطْهارِ(21)

وهذه رسالة تربوية مهمة ألا وهي : ترك المباح لتحصيل الأرباح

قال ابن رجب -رحمه الله- :

والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن ههنا كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه، ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.(22)

- فماذا نقول للمغموس في الشهوات ولا يعبأ بفوات الفرص وضياع المهمات

الاعتكاف والخلوة بالحبيب

الاعتكاف الدافئ الذي يورثك اليقين، وتزكو به النفس، وتتهذب الأخلاق، وهو جزء من الجد المضاعف، والاهتمام بالعشر الأواخر الفاضلات، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- : أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.(23)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا.(24)

وسبب اعتكافه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

قال ابن رجب -رحمه الله- : إنما كان يعتكف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعاً لأشغاله، وتفريغا للياليه، وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه.(25)

- انقطِع لربك، فرِّغ نفسك لربك (( فإذا فرغت فانصب ))

قال الزهري -رحمه الله- : عجبا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله!.(26)

معنى الاعتكاف وحقيقته

قال ابن رجب -رحمه الله- :

معنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق

وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.(27)

المحب الصادق في المحبة يعكف قلبه على مَن يحبه

قال ابن تيمية -رحمه الله- :   

لما كان المرءُ لا يَلزم ويواظب إلا من يحبُّه ويعظمُه؛ كما كان المشركون يعكُفون على أصنامهم وتماثيلهم، ويعكُف أهلُ الشهوات على شهواتهم؛ شرع الله سبحانه لأهل الإِيمان أن يعكُفوا على ربهم سبحانه وتعالى.(28)

وقال ابن القيم -رحمه الله- : 

من لم يَعْكُف قلبُه على الله وَحده عكف على التماثيل المتنوعة كَمَا قَالَ إِمَامُ الحنفاء لِقَوْمِهِ {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فاقتسم هُوَ وَقَومه حَقِيقَةَ العكوف فَكَانَ حَظّ قومه العكوف على التماثيل وَكَانَ حَظُه العكوف على الربِّ الْجَلِيل.(29)

- إنها ليلة القدر ليلةٌ ذات مقدار وقدر

نعم إنها ليلة القدر التي من قامها إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.

- إنها ليلة القدر التي إن وُفقتَ لقيامها كُتب لك كأنك عبدتَ الله أكثر من ( 83 ) عاما.

- إنها ليلة القدر، ليلة عتق و مباهاة، وخدمة و مناجاة، و قربة و مصافاة.

- إنها ليلة القدر التي أنزل الله فيها كتابه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]

- إنها الليلة المباركة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]

- أنها الليلة المشهودة { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]

أَيْ: يَكْثُرُ تَنزلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ.(30)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : (( إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى )).(31)

- إنها ليلة الأمن والسلام {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]

فهِيَ سَالِمَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى، وتُسلمُ الْمَلَائِكَةُ فيها عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ.(32)

 - إنها ليلة تقدير الآجال والأرزاق{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]

أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السَّنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير.(33)

ليلة القدر والدعاء

قال سفيان الثوري -رحمه الله- :الدعاء في تلك الليلة ( ليلة القدر ) أحبّ إليّ من الصلاة، فإن جمع بين الصلاة والتلاوة والدعاء كان أفضل.(34)

فيستحب الإكثار من الدعاء في هذه الليلة وخاصة ما ورد عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- أنها قالت : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ : ((قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى )).(35)

قال ابن رجب -رحمه الله- : العفو من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يُحبُ العفو ؛ فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض.

قال : وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر .

إن كنت لا أصلح للقرب ... فشأنك عفوٌ عن الذنب.(36)

لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] لبرز لهم التوقيع عليها: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].(37)

ختامه مسك

الأعمال بالخواتيم ، السباق أوشك على الانتهاء والعبرة بالنهايات

اجتهد أبو موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قبل موته اجتهادا شديدا فقيل له لو رفقت بنفسك بعض الرفق ؟! فقال : إنَّ الخيل إذا أُرسلتْ فقاربتْ رأس مجراها أخرجتْ جميعَ ما عندها، والذي بقيَ مِن أَجَلى أقلّ من ذلك، فلم يزل على ذلك حتى مات.

وَكَانَ الحسن البصري -رحمه الله- يَقول فِي مَوْعِظَتِهِ : المُبادرَةَ المبادرَةَ فَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْفَاسُ لَوْ حُبِسَت انْقَطَعَتْ عَنْكُمْ أَعْمَالُكُمُ الَّتِي تَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وجل، رحم الله امرأ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَبَكَى عَلَى عَدَدِ ذُنُوبِهِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (( إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عدا )) يَعْنِي الْأَنْفَاسَ. وآخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ فِرَاقُ أَهْلِكَ ، آخِرُ الْعَدَدِ دُخُولُكَ فِي قبرك.(38)

- يا مَن يشتكي من الحرمان : تخلَّص لتصلح

رَبِحَ الْقَوْمُ وَخَسِرْتَ، وَسَارُوا إِلَى الْمَحْبُوبِ وَمَا سِرْتَ، وَأُجِيرُوا مِنَ اللَّوْمِ وَمَا أُجِرْتَ، ذُنُوبُكَ طَرَدَتْكَ عَنْهُمْ، وَخَطَايَاكَ أَبْعَدَتْكَ مِنْهُمْ، قُمْ فِي اللَّيْلِ تَرَى تِلْكَ الرُّفْقَةَ، وَاسْلُكْ طَرِيقَتَهُمْ وَإِنْ بَعُدَتِ الشُّقَّةُ، وَابْكِ عَلَى تَأَخُّرِكَ وَاحْذَرِ الْفُرْقَةَ.(39)

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ -رحمه الله- : مَنْ صَفَى صُفِيَ لَهُ وَمَنْ كَدَرَ كُدِرَ عَلَيْهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي ليله كوفىء فِي نَهَارِهِ وَمَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَاره كوفيء فِي لَيْلِهِ.(40)

قَالَ ابن الجوزي -رحمه الله- : مَا يُؤَهِّلُ الْمُلُوكُ لِلْخَلْوَةِ بِهِمْ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يُؤَهِّلُونَهُ وَلَا يَرْضَوْنَهُ لِذَلِكَ.

قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : مَا نَسْتَطِيعُ قِيَامَ اللَّيْلِ، قَالَ: أَبْعَدَتْكُمْ ذُنُوبُكُمْ.

وَقِيلَ لِلْحَسَنِ -رحمه الله- : أَعْجَزَنَا قِيَامُ اللَّيْلِ، قَالَ: قَيَّدَتْكُمْ خَطَايَاكُمْ. وَقَالَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ.

وَقَالَ الثوري -رحمه الله- : أَذْنَبْت ذَنْبًا فَحُرِمْت بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ.

وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رحمه الله- : إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَاعْلَمْ أَنَّك مَحْرُومٌ مُكَبَّلٌ كَبَّلَتْك خَطِيئَتُك.(41)

---

(1) رواه البخاري (2024) ومسلم (1174) واللفظ له

(2) رواه مسلم (1175)

(3) رواه أحمد (6/ 146)

(4) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 184)

(5) رواه البخاري (3569) ومسلم (738) من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-

(6) رواه مسلم (746)

(7) رواه النسائي (1337)

(8) الفوائد لابن القيم (ص: 51)

(9) بدائع الفوائد (3/ 232)

(10) إحياء علوم الدين (1/ 350)

(11) رواه البخاري (2409) ومسلم (1829) من حديث ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-.

(12) رواه الترمذي (795) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/ 295)

(13) رواه الطبراني في الأوسط (7425)

(14) رواه البخاري (1126)

(15) رواه البخاري (512) ومسلم (512)

(16) رواه البخاري (1127)

(17) رواه أبو داود (1308) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 657)

(18) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 186)

(19) رواه مسلم (2664)

(20) شرح النووي على مسلم (8/ 71)

(21) ديوان الأخطل (ص: 110)

(22) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 186)

(23) رواه البخاري (2026) ومسلم (1172)

(24) رواه البخاري (2044)

(25) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 190)

(26) فتح الباري لابن حجر (4/ 285)

(27) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 190)

(28) شرح عمدة الفقه (2/ 707)

(29) الفوائد لابن القيم (ص: 196)

(30) تفسير ابن كثير (8/ 444)

(31) رواه أحمد (2/ 519) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 961)

(32) تفسير ابن كثير (8/ 444)

(33) تفسير ابن كثير (8/ 444)

(34) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 204)

(35) رواه الترمذي (3513) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 814)

(36) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 206)

(37) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 205)

(38) إحياء علوم الدين (4/ 460)

(39) التبصرة لابن الجوزي (1/ 120)

(40) ذم الهوى ( ص: 185)

(41) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 504)