زاد الواعظين

القائمة الرئيسية

  • الرئيسية
  • السنة الأولى 1437هـ
    • عدد المحرم 1437هـ
    • عدد صفر 1437هـ
    • عدد ربيع الأول 1437هـ
    • عدد ربيع الآخر 1437هـ
    • عدد جمادى الأولى 1437هـ
    • عدد جمادى الآخرة 1437هـ
    • عدد رجب 1437هـ
    • عدد شعبان 1437هـ
    • عدد رمضان 1437هـ
    • عدد شوال 1437هـ
    • عدد ذو القعدة 1437هـ
    • عدد ذو الحجة 1437هـ
  • السنة الثانية 1438هـ
  • السنة الثالثة 1439هـ
  • زاد الواعظين

 كتاب الواعظ فيس بوك  كتاب الواعظ تويتر

  1. الرئيسية
  2. السنة الأولى 1437هـ
  3. عدد جمادى الآخرة 1437هـ

عدد جمادى الآخرة 1437هـ

الذوق واللياقة - افتتاحية العدد

التفاصيل
كتب بواسطة: فضيلة الشيخ أحمد سليمان
المجموعة: عدد جمادى الآخرة 1437هـ
الزيارات: 8889

الذوق واللياقة

الذوق واللياقة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد

فإن المتأمل في حياة المسلمين في بلادنا ليصيبه العجب من تغير الأخلاق وضياع الآداب حتى تعودنا على سماع القبيح ورؤية الرقص والتلويح، فقلت في نفسي أمن يفعل ذلك رجل صحيح؟! نعم، ولكنه مسخ قبيح المرآة  خفيف الركانة، ضعيف الرزانة، منحل العقيدة، لا تزيده الموعظة إلا خسارًا ولا تفيده العذيلة إلا إصرارًا، عقله ضعيف ورأيه سخيف وحلمه خفيف وجهله شديد، فمن هذا حاله فلا غرو أن تخرج منه الغباوة وتكثر منه الشقاوة وإنهم والله حثالة  عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً))(1)

أصحاب الأخلاق السيئة تشقى بهم البلاد ويئن منهم العباد والدواب

قال أبوحَازِمٍ: ((السَّيِّئُ الْخُلُقِ، أَشْقَى النَّاسِ بِهِ نَفْسُهُ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، هِيَ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، ثُمَّ زَوْجَتُهُ، ثُمَّ وَلَدُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَدْخُلُ بَيْتَهُ وَإِنَّهُمْ لَفِي سُرُورٍ، فَيَسْمَعُونَ صَوْتَهُ، فَيَنْفِرُونَ عَنْهُ فَرَقًا مِنْهُ، وَحَتَّى إِنَّ دَابَّتَهُ لَتَحِيدُ مِمَّا يَرْمِيهَا بِالْحِجَارَةِ، وَإِنَّ كَلْبَهُ لَيَرَاهُ فَيَنْزُو عَلَى الْجِدَارِ، وَحَتَّى إِنَّ قِطَّهُ لَيَفِرُّ مِنْهُ))(2)

إن مظاهر سوء الخلق تفشت في المجتمعات: ما بين ضجيج بالسيارات والضرب بالمنكرات في الأتراح واللغو ورفع الصوت بالهتافات ودق الهاتف بالمعازف في مواضع العبادات ولأجل عيد الميلاد  تغلق الطرقات حتى في المساجد ارتفعت الأصوات وبعد منتصف الليل تتعالى الصيحات والتأوهات والسخافات

قال الْعُتْبِيُّ: " كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] وَقَالَ: مَا فِي الْأَرْضِ آدَمَيٌّ إِلَّا وَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ شَبَهِ الْبَهَائِمِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَصِرُ اهْتِصَارَ الْأَسَدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوَ الذِّئْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْبَحُ نُبَاحَ الْكَلْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ كَفِعْلِ الطَّاوُسِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْبِهُ الْخَنَازِيرَ الَّتِي لَوْ أُلْقِيَ لَهَا الطَّعَامُ الطَّيِّبُ عَافَتْهُ فَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ رَجِيعِهِ، وَلَغَتْ فِيهِ فَكَذَلِكَ تَجِدُ مِنَ الْآدَمَيِّينَ مَنْ لَوْ سَمِعَ خَمْسِينَ حِكْمَةً لَمْ يَحْفَظْ وَاحِدَةً مِنْهَا وَإِنْ أَخْطَأَ رَجُلٌ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ حَكَى خَطَأَ غَيْرِهِ تَرَوَّاهُ وَحَفِظَهُ.

قال الخطابي معلقا على قوله: وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّكَ إِنَّمَا تُعَاشِرُ الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعَ فَلْيَكُنْ حَذَرُكَ مِنْهُمْ وَمُبَاعَدَتُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ

وقال أيضا: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الشَّرُّ فِي النَّاسِ طِبَاعٌ، وَحُبُّ الْخِلَافِ لَهُمْ عَادَةٌ، وَالْجَوْرُ فِيهِمْ سُنَّةٌ وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يُؤْذُونَ مَنْ لَا يُؤْذِيهِمْ وَيَظْلِمُونَ مَنْ لَا يَظْلِمُهُمْ وَيُخَالِفُونَ مَنْ يَنْصَحُهُمْ. . . .

وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَتَى يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ مِنَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ. قِيلَ: وَمَتَى يَكُونُ كَذَلِكَ؟ قَالَ: إِذَا مَاتَ. قَالَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَهُوَ حَيُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَيِّرًا فَالْأَشْرَارُ يُعَادُونَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شِرِّيرًا يَمْقُتُونَهُ

ولهذا فالعاقل هو من يصلح نفسه ويهذب أخلاقه وإن فسد أهل الزمان قال  يُونُس بْن عَبْدِ الْأَعْلَى،: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ((يَا أَبَا مُوسَى رِضَاءُ النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ لَيْسَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّاسِ سَبِيلٌ. فَانْظُرْ مَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ وَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ فِيهِ))(3)

"فالخلق الحسن صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمهلكات الدامغة والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن"(4)

ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ))(5)

فاللهم حسن أخلاقنا وأصلح أحوالنا

والحمد لله رب العالمين

كتبه

أحمد بن سليمان

---

(1) صحيح البخاري (6434)

(2) مساوئ الأخلاق (9)

(3) انظر العزلة في مواضع منه للخطابي

(4) إحياء علوم الدين

(5) صحيح مسلم" 201"

قبسات من مشكاة النبوة - حديث سيد الاستغفار

التفاصيل
كتب بواسطة: اللجنة العلمية
المجموعة: عدد جمادى الآخرة 1437هـ
الزيارات: 12049

 

قبسات من مشكاة النبوة

(حديث سيد الاستغفار)

قبسات من مشكاة النبوة - حديث سيد الاستغفار

عناصر الخطبة:

لفظ الحديث             أهمية الحديث في واقعنا.

معنى سيد الاستغفار وسبب التسمية              المحاور الرئيسية للحديث

عن شَدَّاد بْن أَوْسٍ -رضي الله عنه-،: عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: (( سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ )). قَالَ: (( وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ)). (1)

و فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (( أَلَا أَدُلُّك عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ  )). (2)

وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رضي الله عنه-، عَنْ النَّسَائِيّ (( تَعَلَّمُوا سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ )). (3)

- أهمية الحديث في واقعنا

1- حاجتنا جميعا إلى معرفة كيفية التذلل والخضوع لله تعالى وكيفية تعظيمه وإجلاله من خلال معرفة معاني هذا الحديث.

2- كثرة الذنوب وتنوعها حتى قست القلوب وعلاها الران بسبب الذنوب فنحتاج إلى سبب قوي للتخلص منها.

3- التذكير بأهمية الأذكار في حياتنا وأنها سبب عظيم لتحصيل الجنة.

صيغ الاستغفار:

للاستغفار صيغ عديدة، منها:

- أستغفر الله.

عَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا. (4)

- ومن صيغه: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه.

عن بِلَال بْن يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي -رضي الله عنه-، أنه سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: ((مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ)). (5)

- ومنها: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليك.

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: ((سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ)). (6)

- ومن صيغه: أستغفر الله وأتوب إليه.

عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: ((وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)). (7)

- لماذا سمي هذا الدعاء بسيد الاستغفار؟

1-  لما اشتمل عليه من المعاني العظيمة.

قَالَ بن أَبِي جَمْرَةَ -رحمه الله-: جَمَعَ -صلى الله عليه وسلم-، فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَدِيعِ الْمَعَانِي وَحُسْنِ الْأَلْفَاظِ مَا يَحِقُّ لَهُ أَنَّهُ يُسَمَّى سَيِّدَ الِاسْتِغْفَارِ فَفِيهِ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ وَالْإِقْرَارُ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ بِمَا وَعَدَهُ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ مَا جَنَى الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِضَافَةُ النَّعْمَاءِ إِلَى مُوجِدِهَا وَإِضَافَةُ الذَّنْبِ إِلَى نَفْسِهِ وَرَغْبَتُهُ فِي الْمَغْفِرَةِ وَاعْتِرَافُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا هُوَ. (8)

2- جمع معاني التوبة كلها لذلك فالدعاء به أجزل إثابة وأعجل إجابة.

قَالَ الطِّيبِيُّ -رحمه الله-: لَمَّا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ جَامِعًا لِمَعَانِي التَّوْبَةِ كُلِّهَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ السَّيِّدِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الرَّئِيسُ الَّذِي يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ. (9)

- معنى ( سيد الاستغفار )

 أي أفضل أنواع الأذكار التي تطلب بها المغفرة فهذا هو الذكر الجامع لمعاني التوبة كلها.(10)

- المحاور الرئيسية للحديث:

- في قوله(( اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ))

1- الاعتراف بالربوبية والألوهية لله ربّ البرية

قال ابن القيم -رحمه الله-: فَتَضَمَّنَ هَذَا الِاسْتِغْفَارُ الِاعْتِرَافَ مِنَ الْعَبْدِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ خَالِقُهُ، الْعَالِمُ بِهِ، إِذْ أَنْشَأَهُ نَشْأَةً تَسْتَلْزِمُ عَجْزَهُ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ وَتَقْصِيرَهُ فِيهِ، وَالِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ الَّذِي نَاصِيَتُهُ بِيَدِهِ وَفِي قَبْضَتِهِ، لَا مَهْرَبَ لَهُ مِنْهُ، وَلَا وَلِيَّ بِهِ سِوَاهُ. (11)

اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي

الربوبية إفراد الله بالخلق والملك والتدبير. قال تعالى{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3]

( لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ): لهذه الكلمة المباركة أثر كبير في مغفرة الذنوب. .

ولهذا توسَّل بها يونس عليه السلام في بطن الحوت، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

إنها الكلمة التي أنجت صاحبها من النار بعد أن أيقن الهلاك والبوار، فعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ -رضي الله عنهما-، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (( إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ ))، قَالَ: (( فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ )). (12)

ولهذا كان هذا الدعاء هو سيد الاستغفار لاشتماله على كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ).

- ( خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ )

خلقتني: أوجدتني من العدم. وأنا عبدك: قدراً وشرعاً.

تَجري عليَّ أقدارك، ولا حيلة لي في دفع ما قضيت به عليَّ، وأنا عبدك شرعاً، تأمرني بما شئت، وتنهاني عما شئت، فالحلال ما أحللت، والحرام ما حرَّمت، والدين ما شرعت.

وأشرف شيء للإنسان أن يكون عبداً لله؛ فلا انفكاك للعبد من رتبة العبودية؛ فإما أن يكون عبدا لله، أو للشيطان، قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]

وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي مِثْلِ هَذَا:

وَمِمَّا زَادَنِي عَجَبًا وَتِيهًا. . . وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي. . . وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا (13)

2- ومن الفوائد: التقديم بين يدي المسألة

فمن السنة أن يبدأ الداعي بالثناء على الله بما هو أهله ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يشرع في الدعاء

عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: ((عَجِلْتَ أَيُّهَا المُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ)). (14)

- ((وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ))

فيه معنيان:

1- قَالَ الْخَطَّابِيُّ -رحمه الله-: يُرِيدُ أَنَا عَلَى مَا عَاهدْتُكَ عَلَيْهِ وَوَاعَدْتُكَ مِنَ الْإِيمَانِ بِكَ وَإِخْلَاصِ الطَّاعَةِ لَكَ مَا اسْتَطَعْتُ مِنْ ذَلِكَ.

2- وَقَالَ ابن بَطَّالٍ -رحمه الله-: ( العَهْد ) يُرِيدُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بربكم فَأَقَرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.

وَأراد بِالْوَعْدِ: مَا قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-، أنَّ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَأَدَّى مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. (15)

- فيه ملمح إيماني، كأنَّ الذي ارتكب المعصية خدش إيمانَه؛ بما استدعى تجديد العهدِ مع الله، جَلَّت قُدرته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ

يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)). (16)

فسلبه اسم الإيمان المطلق (الكامل) وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان (أصل الإيمان) لذلك احتاج أن يجدد العهد مع الله.

وسئل جعفر بن محمد -رحمه الله-: عن هذا الحديث فخطَّ دائرة في الأرض وقال: هذه دائرة الإيمان، ثم خطَّ دائرةً أخرى خارجة عنها، وقال: هذه دائرة الإسلام، فإذا زنى العبد خرج من هذه ولم يخرج من هذه. (17)

- وفِي قَوْلِهِ (( مَا اسْتَطَعْتُ ))

- اعتراف العبد بالعجز

أي أَلتزم ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي.

واشْتِرَاطُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي ذَلِكَ مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ وَالْقُصُورِ عَنْ كُنْهِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّهِ تَعَالَى، وهذا إِعْلَامٌ لِأُمَّتِهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلَّهِ وَلَا الْوَفَاءِ بِكَمَالِ الطَّاعَاتِ وَالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ فَرَفَقَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وُسْعَهُمْ. (18)

- وفي قوله(( أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ))

أعوذُ: أَلجأُ. وإنما يستعيذ المسلمُ بالله من شرِّ ما يصنع لأنه لا عاصم مما يسخط الله من الشر والفساد إلا الله.

قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178].

- الذنوب شر وأيما شر

فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول في خطبة الحاجة: (( وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا )). (19)

وهل ظهر الفساد في الأرض وسلبت بركتها إلا بسبب الذنوب {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]

وهل تنزل النقم إلا بسبب الذنوب { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]

 وهل تزول النعم إلا بسبب الذوب والمعاصي{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]

وهل تزول الدول وتهلك الأمم إلا بسبب الذنوب والمعاصي، فعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ -رضي الله عنها-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: ((لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ)) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ)). (20)

وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه-، قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَدَائِنُ قُبْرُسَ، وَقَعَ النَّاسُ يَقْتَسِمُونَ السَّبْيَ، وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ وَيَبْكِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَتَنَحَّى أَبُو الدَّرْدَاءِ، ثُمَّ احْتَبَى بِحَمَائِلِ سَيْفِهِ، فَجَعَلَ يَبْكِي، فَأَتَاهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ؟ أَتَبْكِي فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ؟ وَأَذَلَّ فِيهِ الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ، فَضَرَبَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا جُبَيْرُ بْنَ نُفَيْرٍ، مَا أَهْوَنَ الْخَلْقَ عَلَى اللَّهِ إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ، بَيْنَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى النَّاسِ، لَهُمُ الْمُلْكُ حَتَّى تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ، فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى، وَإِنَّهُ إِذَا سُلِّطَ السِّبَاءُ عَلَى قَوْمٍ فَقَدْ خَرَجُوا مِنْ عَيْنِ اللَّهِ، لَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ. (21)

وبالجملة: فَكُلُّ نَقْصٍ وَبَلَاءٍ وَشَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَسَبَبُهُ الذُّنُوبُ، وَمُخَالَفَةُ أَوَامِرِ الرَّبِّ، فَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَرٌّ قَطُّ إِلَّا الذُّنُوبَ وَمُوجِبَاتِهَا. (22)

وفي قوله (( أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ ))

- الاعتراف بالنعمة من شكر الله، فالشكر يكون بثلاثةٍ: بالاعتراف بها باطناً، والتحدُّث بها ظاهراً، وتسخيرها في مرضاة مسديها. فكل نعمة إنما هي من الله. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} [النساء: 79].

وقال تعالى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53]

 وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (( أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ )). (23)

وفي قوله (( أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي ))

- مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس

ففي هذا اعْتِرَافٌ بِإِنْعَامِ الرَّبِّ وَذَنْبِ الْعَبْدِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنِّي أُصْبِحُ بَيْنَ نِعْمَةٍ تَنْزِلُ مِنْ اللَّهِ عَلَيَّ وَبَيْنَ ذَنْبٍ يَصْعَدُ مِنِّي إلَى اللَّهِ فَأُرِيدُ أَنْ أُحْدِثَ لِلنِّعْمَةِ شُكْرًا وَلِلذَّنْبِ اسْتِغْفَارًا. (24)

فجمع -صلى الله عليه وسلم-، في هذه الجملة بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.

فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً.

وأقرب باب يدخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرف، والإفلاس المحض، دخولَ من كسر الفقر والمسكنة قلبَه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأنَّ في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة، وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته. (25)

(( وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي ))

- الاعتراف بالذنب سبب لتكفيره.

اعترف آدم وزوجه عليهما السلام بالذنب، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23]. فقبل الله توبتهما.

واعترف بذنبه الكليم عليه السلام فغفر الله له { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].

وقال تعالى عن داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } [ص: 24].

وقال عن يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87].

ولما أرادت بلقيس أن تتوب قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

فإذا صحَّ اعتراف العبد بذنبه وتاب توبة نصوحا قَبِل الله توبته، كما ورد في حديث الإفك الطويل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال لعائشة -رضي الله عنها-، (( يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)). (26)

قوله (( فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ )).

هذه الجملة مشتملة على شيئين من أسباب مغفرة الذنوب:

الأول: الدعاء بالمغفرة. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].

والثاني: الاعتراف بأنه لا يغفر الذنب أحد سوى الله.

فليس سوى الله من يمنح صكوك الغفران! قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: (( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّ ي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ )). (27)

وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي، قَالَ: (( قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ )). (28)

ففي هذا اعْتِرَافٌ بِذَنْبِهِ أَوَّلًا ثُمَّ طَلَبُ غُفْرَانِهِ ثَانِيًا. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْخِطَابِ وَأَلْطَفِ الِاسْتِعْطَافِ. (29)

فأحسن الظن بربك مهما عظم ذنبك، فإنه سبحانه لا يستعظم عليه ذنب، ولا تكبر عليه معصية

قال ابن القيم -رحمه الله-: فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، وَمِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا إِذَا فَرَّ عَبْدٌ إِلَيْهِ، وَهَرَبَ مِنْ عَدُوِّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ طَرِيحًا بِبَابِهِ، يُمَرِّغُ خَدَّهُ فِي ثَرَى أَعْتَابِهِ بَاكِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، ارْحَمْ مَنْ لَا رَاحِمَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا نَاصِرَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُؤْوِيَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُغِيثَ لَهُ سِوَاكَ. مِسْكِينُكَ وَفَقِيرُكَ، وَسَائِلُكَ وَمُؤَمِّلُكَ وَمُرَجِّيكَ، لَا مَلْجَأَ لَهُ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، أَنْتَ مَعَاذُهُ وَبِكَ مَلَاذُهُ.

يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ. . . وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أَحَاذِرُهُ

لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ. . . وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ(30)

ثمرة الدعاء بسيد الاستغفار في الصباح والمساء

قال -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). موقن بها: مؤمن بما جاء فيها.

---

(1) رواه البخاري (6306)

(2) الترمذي (3393)

(3) النسائي (10228)

(4) رواه مسلم (591)

(5) رواه أبو داود (1517) والترمذي (3577) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/ 248)

(6) رواه مسلم (484)

(7) رواه البخاري (6307)

(8) فتح الباري لابن حجر (11/ 100)

(9) فتح الباري لابن حجر (11/ 99)

(10) فيض القدير (4/ 119)

(11) مدارج السالكين (1/ 237)

(12) رواه الترمذي (2639) وصححه الألباني في  سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 262)

(13) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 475)

(14) رواه الترمذي (3476) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 293)

(15) فتح الباري لابن حجر (11/ 99)

(16) رواه البخاري (2475) ومسلم (57)

(17) روضة المحبين   (ص: 360)

(18) فتح الباري لابن حجر (11/ 100)

(19) رواه الترمذي (1105)، وصححه الألباني في تخريج الكلم الطيب (ص: 159)

(20) رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)

(21) رواه سعيد بن منصور في سننه (2660) وإسناده صحيح

(22) مدارج السالكين(1/ 424)

(23) رواه البخاري (846) ومسلم (71)

(24) مجموع الفتاوى (8/ 73)

(25) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 7)

(26) رواه البخاري (2661)

(27) رواه مسلم (771)

(28) رواه البخاري (834)

(29) سبل السلام (2/ 710)

(30) مدارج السالكين (1/ 429)

الكسب الحرام - أسبابه وأضراره

التفاصيل
كتب بواسطة: اللجنة العلمية
المجموعة: عدد جمادى الآخرة 1437هـ
الزيارات: 20420

الكسب الحرام ( أسبابه وأضراره)

الكسب الحرام  أسبابه وأضراره

مقدمة              أسباب الكسب الحرام                     أضرار الكسب الحرام.

مقدمة.

 اعلم أن طلب الحلال واجب على كل مسلم، وقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.

قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ))  {البقرة: 168 }

وقال: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69]

 {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل: 114]   {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل: 114، 115]

ولقد نهى الإسلام عن الكسب الحرام لأنه شؤم وبلاء على صاحبه، فبسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء، بله إن وبال الكسب الحرام يكون على الأمة كلها فبسببه تفشو مساوئ الأخلاق من سرقة وغصب ورشوة وربا وغش واحتكار وتطفيف للكيل والميزان وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل، وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

ولقد أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- بأنه سوف يأتي على الناس زمان يتهاونون فيه في قضية الكسب فلا يدققون ولا يحققون في مكاسبهم. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ)) (1)

بل إن بعض الناس لطمعه يفتات على ربه فيجعل الحرام حلالا والحلال حراما، قال تعالى: (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59]

 عن ابنِ عباسِ، قال: كان أهلُ الجاهليّة  يأكلُون أشياءَ ويتركُونَ أشياءَ تقذُّراً، فبَعَث الله عزّ وجلّ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل كتابَه، وأحَلَّ حلالَه وحَرَّم حرامَه، فما أحَلَّ فهو حَلالٌ، وما حَرَّمَ فهو حَرامٌ، وما سَكَتَ عنه فهو عَفْوٌ، وتلا: (( قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا )) إلى آخر الآية [الأنعام: 145] (2)

أسباب الكسب الحرام:

1- عدم الخوف والحياء من الله.

الخوف والحياء من الله تعالى وحسن مراقبته سياجات كلها تقي المسلم وتحميه من الوقوع في الحرام، ولقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الحياء الحقيقي تعريفا جامعاً مانعاً فقال، عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وسلم: (( اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ ِللهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّاْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاء )) ِ. (3)

فإذا نزع الحياء من المرء فانه لا يبالي أكان مكسبه من حلال أم من حرام؟.

عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، -رضي الله عنه- حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ )).(4)

إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستح فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاء

قَالَ مَالِكٌ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ قَوْمًا يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةٌ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالْفِكْرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. (5)

     قَالَ: قَالَ عُمَرُ: (( تَرَكْنَا تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الرِّبَا )) (6)

ولقد بلغ الأمر عند السلف أنهم إذا جلس الواعظ للناس قال العلماء: تفقّدوا منه ثلاثاً: فإن كان معتقداً لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيء الطُعمة فعن الهوى ينطق، فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه.

ولقد -صلى الله عليه وسلم-: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ر -رضي الله عنه- هُ، قَالَ: قَالَ  -صلى الله عليه وسلم- (( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))، وَعَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَهُ (( إِلَّا النُّهْبَةَ )) (7)

الانتهاب الذى أجمع العلماء على تحريمه هو ما كانت العرب عليه من الغارات وانطلاق الأيدي على أموال الناس بالباطل، فهذه النهبة لا ينتهبها مؤمن (8).

قَالَ أَبُو حَسَّانٍ عِيْسَى بنُ عَبْدِ اللهِ البَصْرِيُّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ عَرَفَةَ يَقُوْلُ: قَالَ لِي ابْنُ المُبَارَكِ -رحمه الله-: اسْتَعَرتُ قَلَماً بِأَرْضِ الشَّامِ، فَذَهَبتُ عَلَى أَنْ أَرُدَّهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَرْوَ، نَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ مَعِي، فَرَجَعتُ إِلَى الشَّامِ حَتَّى رَدَدْتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ. (9)

وروي عن امرأة صالحة أنه قد أتاها نعي زوجها ( خبر وفاته ) وهي تعجن العجين فرفعت يدها، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شريك ( تعني الورثة ).

2- الحرص على المكسب السريع.

بعض الناس يستعجلون في قضية الرزق فهم يريدون الحصول على المال من أي جهة وبأي طريق حتى لو كان من حرام، فالمكسب السريع عندهم هو الغاية المرجوة والهدف المنشود، وقد يتأخر الرزق عن بعض الناس لحكمة يعلمها مقدر الأرزاق ومقسمها؛ فيحمله استبطاء الرزق على أن يطلبه بمعصية الله و ولقد حذ ر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك فقال فيما رواه عنه ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى الْجَنَّةِ، إِلَّا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا عَمَلٌ يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، إِلَّا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، لَا يَسْتَبْطِئَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ رِزْقَهُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلْقَى فِي رُوعِيَ أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنِ اسْتَبْطَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رِزْقَهُ، فَلَا يَطْلُبْهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ )). (10)

    عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ؟ قَالَ: (( زَهْرَةُ الدُّنْيَا )) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلْ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ، فَقَالَ: (( أَيْنَ السَّائِلُ؟ )) قَالَ: أَنَا - قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ - قَالَ: (( لاَ يَأْتِي الخَيْرُ إِلَّا بِالخَيْرِ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلَّا آكِلَةَ الخَضِرَةِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا، اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ. وَإِنَّ هَذَا المَالَ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، فَنِعْمَ المَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ )) (11)

فليعلم العاقل أن الدنيا زائلة وأن موقوف ومسئول بين يدي الله تعالى عن كل ما اكتسبه وكل ما أنفقه. عن معاذ -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: قَالَ: (( لاَ تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ، عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ كَيْفَ عَمِلَ فِيهِ. )) (12)

  فلا يبع العاقل دينه من أجل نعيم زائل يزول مع أول صبغة في النار   عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ النَّارِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، وَاللهِ، يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، وَاللهِ، يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ. (13)

3- الطمع وعدم القناعة.

ففي الحرص لا يخلو المرء من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل، وقديما قيل   أذل الحرص أعناق الرجال.

 وقال ابن أدهم -رحمه الله-: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع   والطمع يُعمي الإنسان عن حقائق الأمور ويُخفي عنه معالمها. وأنشد أحدهم:

جمع الحرام على الحلال ليكثره * * * دخل الحرام على الحلال فبعثره

وقال عَامِرُ بنُ شَرَاحِيْلَ الشَّعْبِيُّ -رحمه الله-: حكى أن رجلا صاد قنبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك وآكلك قالت والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي أما واحدة فأعلمك وأنا في يدك وأما الثانية فإذا صرت على الشجرة وأما الثالثة فإذا صرت على الجبل قالت هات الأولى قالت لا تلهفن على ما فاتك فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هات الثانية لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالا قال فعض على شفته وتلهف وقال هات الثالثة قالت أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك بالثالثة ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون أنا لحمي ودمي وريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالا ثم طارت فذهبت وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون.

وقال أبو عمرو ابن السماك -رحمه الله-: إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك(14)

عنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (( مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ، أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ، وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ )). (15)

وقال ابن عبد القدوس -رحمه الله-:

لا تَحرِصَنَّ فَالحِرص لَيسَ بِزائِد ‍* * * في الرِزقِ بَل يَشقى الحَريص وَيَتعَب

وَيَظل مَلهوفاً يَروح تحيلا ‍* * * وَالرِزقُ لَيسَ بِحيلَة يُستَجلَب

كَم عاجِز في الناسِ يَأتي رِزقُه * * * رَغداً وَيحرم كيس وَيَخيب

وليعلم العاقل أن الحرام لا يدوم وأن ما جمع من حرام سوف يذهب مع الرياح، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ رَجُلاً حَمَلَ مَعَهُ خَمْرًا في سَفِينَةٍ يَبِيعُهُ وَمَعَهُ قِرْدٌ قَالَ فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَاعَ الْخَمْرَ شَابَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ بَاعَهُ قَالَ فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ فَصَعِدَ بِهِ فَوْقَ الدَّقَلِ قَالَ فَجَعَلَ يَطْرَحُ دِينَارًا فِى الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِى السَّفِينَةِ حَتَّى قَسَمَهُ. )) (16)

ومقابل هذه القصة قصة أخرى رواها لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القناعة وعدم الطمع، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: : (( اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ  وَتَصَدَّقَا )). (17)

أيا من عاش في الدنيا طويلا * * * وأفنى العمر في قيل وقال

وأتعب نفسه فيما سيفنى * * * وجمّع من حرام أو حلال

هب الدنيا تقاد إليك عفوا * * * أليس مصير ذلك للزوال

4- الجهل بخطورة الكسب الحرام وحكمه.

كثير من الناس يجهل خطورة الكسب الحرام وحكمه وأثره السيئ عليه، ويتهاون في معرفة ما يحصله من أموال، وما يتناوله من طعام.

  عَائِشَةَ  -رضي الله عنها-، قَالَتْ: (( كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الغُلاَمُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ )). (18)

  فعل ذلك لئلا يتغذى بطنه بحرام. وهذا مال حرام؛ لأنه عوض عن حرام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه))

وفي هذا الحديث دليلٌ على شدة ورع أبي بكر رضي الله عنه، فهو جدير بهذا. (19)

  عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، -رضي الله عنه- قَالَ: (( كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- مَمْلُوكٌ يَغُلُّ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ لَيْلَةً بِطَعَامٍ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ الْمَمْلُوكُ: مَا لَكَ كُنْتَ تَسْأَلُنِي كُلَّ لَيْلَةٍ وَلَمْ تَسْأَلْنِي اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ الْجُوعُ، مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهَذَا؟ قَالَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَقِيتُ لَهُمْ فَوَعَدُونِي، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الْيَوْمُ مَرَرْتُ بِهِمْ فَإِذَا عُرْسٌ لَهُمْ فَأَعْطَوْنِي، قَالَ: إِنْ كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي حَلْقِهِ فَجَعَلَ يَتَقَيَّأُ، وَجَعَلَتْ لَا تَخْرُجُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَدَعَا بِطَسْتٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ يَشْرَبُ وَيَتَقَيَّأُ حَتَّى رَمَى بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ، قَالَ: لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ نَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ ))، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي مِنْ هَذِهِ اللُّقْمَةِ )). (20)

  عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ قَالَ: لِلَّذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا اللَّبَنُ؟ " فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ، قَدْ سَمَّاهُ، فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وَهُمْ يَسْقُونَ، فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِي، وَهُوَ هَذَا، فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ، فَاسْتَقَاه )).(21)

وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.

أضرار الكسب الحرام:

1- ظلمة القلب وكسل الجوارح عن الطاعة.

الكسب الحرام له آثار وأضرار وخيمة على صاحبه فهو يؤدي إلى ظلمة القلب وكسل الجوارح عن طاعة الرب، ونزع البركة من الرزق والعمر.

  عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ  -صلى الله عليه وسلم-: (( أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ أُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ فِي كَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلاَ يَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْشَ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِي كَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الحَوْضَ، يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلاَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ )). (22)

  خرج الأمير شروان للصيد فأدركه العطش فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي فطلب منه ماء فقال ليس عندنا ماء قال ادفع لي رمانة فدفعها إليه فاستحسنها فنوى أخذ البستان ثم قال ادفع لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها حامضة فقال أما هي من الشجرة الأولى قال نعم قال كيف تغير طعمها قال لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه ثم قال ادفع لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها أحسن من الأولى فقال كيف صلحت قال بصلاح نية الأمير. (23)

 2- غضب الجبار ودخول النار.

الكسب الحرام يستوجب غضب الجبار ودخول النار، عن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

  عَنْ أَبِي  امامة، -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ )) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (( وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ )). (24)

فهذا الرجل الذي حلف وهو كاذب يلقى الله وهو عليه غضبان والعياذ بالله ويحرم الله عليه الجنة ويدخله النار نسأل الله العافية حتى قالوا يا رسول الله وإن كان شيء يسيرا قال: وإن كان قضيبا من أراك قضيب ما يملأ اليد من علف أو أعواد أو ما أشبه ذلك يعني حتى ولو كان كذلك أو إن القضيب هو العود الواحد من الأراك يعني من المساويك حتى لو أن الإنسان حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم ولو عودا من أراك فإنه يحصل على هذا الوعيد الشديد(25)

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (( الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ )). (26)

عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ مِنَ الْحَرَامِ )). (27)

3- عدم قبول الدعاء.

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ))  وَقَالَ: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ))   ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ )). (28)

 فالكسب الحرام سبب في منع قبول الدعاء واستجابة الرجال ورفع العمل الصالح لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.

4- عدم قبول العمل الصالح.

عن  عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، -رضي الله عنه- قَالَ: (( لَمَّا قُتِلَ نَفَرٌ يَوْمَ خَيْبَرَ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، وَفُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى ذَكَرُوا رَجُلًا، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ   -صلى الله عليه وسلم-: (( كَلَّا إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي عَبَاءَةٍ غَلَّهَا، أَوْ بُرْدَةٍ غَلَّهَا ))، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ، فَنَادِ فِي النَّاسِ، أَنَّهُ  لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةُ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ ))، قَالَ فَخَرَجْتُ، فَنَادَيْتُ فِي النَّاسِ )). (29)

قال أحدهم:

رأيتُ حَلالَ المالِ خيرَ مغَبةٍ * * * وأجدرَ أن يبقى على الحدَثَانِ

وإِياكَ والمالَ الحرامَ فإِنه * * * وبالٌ إِذا ما قدّم الكفانِ

ولقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-:

 عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رضي الله عنه-، قَالَ: (( لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِلاَّ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ، الْقَبْرِ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا )). (30)

ولتجعل شعارك: أما الحرام فالممات دونه.

فاللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه، وجنبنا الحرام وبغضنا فيه.

---

(1) أخرجه  البخاري ( 2059)

(2) أخرجه أبو داود (3800).

(3) أخرجه أحمد   (3671)   و الترمذي  (2458 ). و قال الألباني: حديث حسن   المشكاة ( 1608 )

(4) أخرجه  البخاري ( 6120)

(5)  الزهد لأبي داود (   414)

(6) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (   14683)

(7) أخرجه البخاري (  2475)

(8) شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/ 603)

(9) صفة الصفوة لابن الجوزي 2/239 ).

(10) أخرجه  الحاكم ( 2136) وصححه الألباني في الصحيحة  (   2607)

(11) أخرجه  البخاري (   6427)

  الرّبيع  وَهُوَ النَّهر الصَّغِير، قَوْله: (حَبطًا): انتفاخ الْبَطن من كَثْرَة الْأكل، يُقَال: حبطت الدَّابَّة إِذا أَصَابَت مرعى طيبا فأمعنت فِي الْأكل حَتَّى تنتفخ فتموت، قَوْله: أويلم يقرب أَن يقتل. قَوْله: إلاّ آكِلَة الخضرة والخضرة ضرب من الْكلأ، والبقل. قَوْله: وهما جانبا الْبَطن من الْحَيَوَان،. قَوْله: فاجترت وَهُوَ أَن يجر الْبَعِير من الكرش مَا أكله إِلَى فَمه فيمضغه مرّة ثَانِيَة، قَوْله: أَي: أَلْقَت مَا فِي بَطنهَا رَقِيقا، وَالْغَرَض من هَذَا أَن جمع المَال غير محرم لَكِن الاستكثار مِنْهُ ضار بل يكون سَببا للهلاك قَوْله: فَنعم المعونة هُوَ أَي: المَال يَعْنِي: حَيْثُ كَانَ دخله وخرجه بِالْحَقِّ فَنعم العون للرجل فِي الدَّاريْنِ. عمدة القاري شرح صحيح البخاري (23/ 41)

(12) مصنف ابن أبي شيبة ( 35839) وقال الألباني صحيح بشواهده في مشكاة المصابيح (   5197)

(13) أخرجه  مسلم   (7190)  

(14) ( إحياء علوم الدين للغزالي 3/240 ).

(15) أخرجه أحمد   (15876)، و التِّرمِذي (2376  ). وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (   5181)

(16) أخرجه أحمد   (8041).

(17) أخرجه البخاري (  3472)

(18) أخرجه  البخاري ( 3842 )

(19) شرح رياض الصالحين (3/ 506) 

(20) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 31)

(21)  أخرجه البيهقي (   5387)

(22) أخرجه  الترمذي   ( 614) وصححه الألباني في  التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (   172)

(23) ( نزهة المجالس ومنتخب النفائس، للصفوري صـ 7 ).

(24) أخرجه  مسلم (   218)

(25) شرح رياض الصالحين (6/ 456)

(25) أخرجه  أحمد   (   7293) وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (   4886)

(27) أخرجه الطبراني المعجم الأوسط (5961)وصححه الألباني في  مشكاة المصابيح (  2787)

(28) أخرجه مسلم (1015)

(29) أخرجه  ابن حبان   ( 4849)وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان ( 4829)

(30) أخرجه  مسلم   ( 2722)

خطورة الربا

التفاصيل
كتب بواسطة: اللجنة العلمية
المجموعة: عدد جمادى الآخرة 1437هـ
الزيارات: 14113

خطورة الربا

خطورة الربا

عناصر الخطبة.

الربا من أكبر الكبائر      أسباب الوقوع في الربا

آثار التعامل بالربا        الربا من أكبر الكبائر

 إنَّ المالَ عَصَبُ الحياةِ، وشِرْيانُ المعيشةِ، وهوَ في الإسلامِ وسيلةٌ لقضاءِ الحاجاتِ، وتَسْييرِ أُمورِ الحياةِ، وليس غايةً مِنَ الغايات؛ بحيثُ يُفْنِي المرءُ حياتَه في جَمْعِهِ وتَكْديسِهِ، والخوضِ فيه لمُتَعِهِ ولذَّاتِهِ، ولقدْ جعلَ الإسلامُ حِفْظَه مَقْصِداً مِنَ المقاصدِ الشرعيَّةِ الخمسةِ، ونهىَ عَنِ اكتسابِه بأيِّ سبيلٍ مِنْ سُبُلِ الحرامِ، ونهىَ عَنْ إضاعتِهِ وعَنْ أكْلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، والإنسانُ مُؤْتَمنٌ عليه ومُستَخْلَفٌ فيه، قالَ تباركَ وتعالَى: (( وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ )) { الحديد: 7 }، ولأنَّ الرِّبا أحدُ وجوهِ الكسبِ الحرامِ فقدْ حرَّمَهُ الإسلامُ، وعَدَّهُ كبيرةً مِنْ كبائرِ الذنوبِ والآثامِ؛ فقَرَنَهُ بالشِّرْكِ والسحرِ وقتلِ النفسِ بغيرِ حقٍّ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَ-رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ))(1)

 فاتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه احذروا ما حذركم الله منه إن كنتم مؤمنين واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله تعالى ومقته.

 إن الربا من أكبر الكبائر التي حذر الله تعالى عنها في كتابه وحذر رسول الله عنها في سنته وأجمع المسلمون على تحريمها (( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) [النساء: 161]

وَقَوْلُهُ: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنِ الرِّبَا أي اليهود فَتَنَاوَلُوهُ وَأَخَذُوهُ، وَاحْتَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَصُنُوفٍ مِنَ الشُّبَهِ، وَأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. (2)

 والربا قد نهى الله عَنهُ وتوعد بمحاربة من لم يتب مِنْهُ.

 قال الله تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ )) [البقرة: 278، 279]

 والربا الوجه الآخر المقابل للصدقة الوجه الكالح الطالح لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود عرضه عرضاً منفراً، يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع، وفساد في الأرض وهلاك للعباد ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا. (3)

 قال الله تعالى ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )) [آل عمران: 130 - 132]

فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين، على المعسر ولم يحصل منه شيء، قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة، ويزيد ما في ذمتك، فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك، اغتناما لراحته الحاضرة، ، فيزداد بذلك ما في ذمته أضعافا مضاعفة. (4)

قال الله تعالى: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) [البقرة: 275، 276].

لما حث الله على الصدقات وواعد عليها بعظيم الأجر ومضاعفة الثواب ذكر المرابين الذين يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدُّون طرق البر، ويصدون عن سبيل المعروف فبدل أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات، فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم يقومون، ويقعدون، ويغفون ويُصرعون، حالهم حال من يصرع في الدنيا بمس الجنون، علامة يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم. (5)

قال كعب الأحبار -رحمه الله-في بعض الصحف المنزلة: إن الله تعالى يأذن بالقيام يوم القيامة للبر والفاجر إلا الآكل الربا فإنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. (6)

  عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: ((لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ )) قَالَ: قُلْتُ: وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ )). (7)

 عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه-قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (( رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَ)). (8)

 ولقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم-الربا تحت قدمه حيث قال: (( وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَضَى فِي الرِّبَا)). (9)

2- أسباب الوقوع في الربا:

1- ضَعْفُ إيمانِهِ باللهِ عزَّ وجلَّ، إذْ إنَّ الإيمانَ الصادِقَ يملأُ قلبَ صاحِبهِ قَناعَةً بما قَسَمَ اللهُ، وخوفاً مِنْ سُخْطِ اللهِ قالَ اللهُ سبحانَه: ((وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )) {التغابن: 11 }، وإذا خَوَى قلبُ العبدِ مِنَ الإيمانِ اندفَعَ إلى طَرْقِ أبوابِ الحرامِ غَيْرَ آبهٍ بعظيمِ جُرْمِهِ، ولا مُكْتَرِثٍ بشناعَةِ فِعْلِهِ.

2- ضَعْفُ يَقينِهِ بالقِسْمَةِ الإلهيَّةِ العادِلَةِ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلَقَ فسَوَّى وقدَّرَ فهدَى وقَسَمَ كلَّ شيءٍ بحِكَمةٍ ومِقْدارٍ، كما قالَ سبحانَه وتعالَى: (( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) { الزخرف: 32 } ورِزْقُ اللهِ لا يَجْلِبُهُ حِرْصُ حريصٍ، ولا يَمْنعُهُ كُرْهُ كارِهٍ؛ بلْ قالَ اللهُ تعالىَ في كتابِهِ: (( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا ُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)) [الذاريات: 22، 23]

 عن ابْنَ مَسْعُودٍ، -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبْعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلاَّ قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبْعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوْعِي، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلْكُمَ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ فَإِنَّهُ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَ الله إِلاَّ بِطَاعَتِهِ)). (10)

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله)). (11)

 3 - استعجالُ الرِّزْقِ وقِلَّةُ الصبرِ، ولهذا أرشَدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-إلى الصبرِ واليقينِ بموعودِ ربِّ العالمَينَ فقالَ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: (( أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ)). (12)

4-حُبَّ التَّرفِ والبحْثَ عَنِ الكمالِيَّاتِ في المسْكنِ والمرْكَبِ والملْبَسِ ونحوِها دفَعَ كثيراً مِنَ الناسِ إلى أكْلِ الربا والتعاملِ بهِ، دونَ التفكُّرِ في سُوءِ العاقِبَةِ، أوِ الحذَرِ مِنْ عذابِ الآخرَةِ.

 عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: (( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ )). (13)

3- آثار التعامل بالربا.

 الربا سَببٌ لبلايا كثيرةٍ، والتعامُلَ به جَلْبٌ لِشُرورٍ مستطيره:

 1- أنَّ صاحِبَ الربا مَطْرودٌ مِنْ رحَمةِ اللهِ؛ محارَبٌ مِنَ اللهِ ورسولِهِ، وذلكَ صَريحُ قولِ اللهِ تعالَى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ ورسولهِ )) {البقرة: 278-279 }

 2- أنَّ الربا يَمْحَقُ بركةَ المالِ ويَذْهَبُ بها؛ كما قالَ اللهُ تعالَى: ((يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ )) { البقرة: 276 }

 عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: (( مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ)). (14)

 3- حُلولُ اللَّعْنَةِ علَى كلِّ مَنْ يتعاَملُ به.

 عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: (( لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ سَوَاء )). (15)

 هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابي والشهادة عليهما وفيه تحريم الإعانة على الباطل. (16)

4 -الربا يَجُرُّ علَى الأُمَّةِ الضعفَ والذُّلَّ والهَوانَ، ويُهَوِّنُ مِنْ شأنِها في أعْيُنِ أعدائِها المتربِّصينَ بها، ويُسلِّطُهم عليْها.

 عَنِ ابْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ: (( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُم)). (17)

 5-وكَفَى عقوبةً ونَكَالا ً لآكِلِ الربا أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ توعَّدَهُ بالخلودِ في النَّارِ إنْ لمْ ينْتَهِ عَنْه ويَتُبْ مِنْه، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: (( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)){ البقرة: 275 }

6- انتشار البطالة وذلك لأن أصحاب الأموال لا يستعملونها في المشاريع مما يؤدي الي شيوع البطالة وقد حث الإسلام علي العمل.

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)). (18)

والمرابون قد استغلوا حوائج الناس فأقرضوهم بالربا وعطلوا منفعة هذا المال وَشَرُّ الْمَكَاسِبِ الرِّبَا وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.

7-انتشار الحسد والبغضاء لأن المرابي قد استغل حاجة الفقراء ولهذا يتمني الفقير الهلاك له والإسلام قد سد هذه الأبواب.

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَ-رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: (( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا )). (19)

8- منع نزول المطر: عن عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ مُوسَى -صلى الله عليه وسلم-: (( يَا رَبِّ، هَذَا الْغَيْثُ لَا يَنْزِلُ، وَيَنْزِلُ فَلَا يَنْفَعُ، قَالَ: كَثْرَةُ الزِّنَا، وَظُهُورُ الرِّبَا )). (20)

 قَالَ زُرَيْبُ بْنُ بَرْثَمْلاَ-رحمه الله-: (( يَا عُمَرُ إِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فَالْهَرَبَ الْهَرَبَ، إِذَا اسْتَغْنَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَانْتَسَبُوا إِلَى غَيْرِ مَنَاسِبِهِمْ، وَانْتَمُوا إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِمْ، وَلَمْ يَرْحَمْ كَبِيرُهُمْ صَغِيرَهُمْ، وَلَمْ يُوَقِّرْ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَتُرِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَتُرِكَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، وَتَعَلَّمَ عَالِمُهُمُ الْعِلْمَ لِيَجْلِبَ بِهِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَكَانَ الْمَطَرُ قَيْظًا، وَالْوَلَدُ غَيْظًا، وَطَوَّلُوا الْمَنَائِرَ، وَفَضَّضُوا الْمَصَاحِفَ، وَزَخْرَفُوا الْمَسَاجِدَ، وَأَظْهَرُوا الرُّشَا، وَشَيَّدُوا الْبِنَاءَ، وَاتَّبَعُوا الْهَوَى، وَبَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا، وَاسْتَخَفُّوا بِالدِّمَاءِ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَبَيْعَ الْحُكْمُ، وَأُكِلَ الرِّبَا فَخْرًا، وَصَارَ الْغِنَى عِزًّا، وَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَامَ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَرَكِبَتِ النِّسَاءُ السُّرُوجَ )). (21)

8-مسخ أكلة الربا إلي قردة وخنازير: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-قَالَ: (( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَعِبٍ وَلَهْوٍ، فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ بِاسْتِحْلَالِهِمُ الْمَحَارِمَ، وَاتِّخَاذِهِمُ الْقَيْنَاتِ، وَشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ، وَأَكْلِهِمُ الرِّبَا، وَلُبْسِهِمُ الْحَرِير)). (22)

 فلْنتَّقِ اللهَ بامتثالِ أوامِرِهِ، واجتنابِ زواجِرِهِ، ولْنُحافِظْ علَى الإسلامِ وشعائرِهِ، ولنَتْرُكِ الرِّبا وأبوابَه، ولنَهْجُرِ الحرامَ وأسبابَه؛ فإنَّ الدَّنيا حلالُها حِسابٌ، وحَرامُها عَذابٌ، واليومَ عمَلٌ ولا حِسابٌ وغداً حِسابٌ ولا عَمَلٌ، ونِعْمَ المالُ الصالِحُ للعبدِ الصالِحِ.

---

(1) أخرجه البخاري (2766)

(2)تفسير ابن كثير (2/ 467)

(3) ظلال القرآن (1/ 318)

(4) تفسير السعدي (ص: 148)

(5) أيسر التفاسير للجزائري (1/ 140 )

(6) فيض القدير (4/ 51)

(7) أخرجه مسلم ( 1597)

(8) أخرجه البخاري ( 2085 )

(9) أخرجه الترمذي (3087) وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (3933)

(10)مصنف ابن أبي شيبة ( 35473) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 2866 )

(11) أخرجه ابن حبان ( 3238) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته ( 1630)

(12) أخرجه ابن ماجه ( 2144 ) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 2866)

(13) أخرجه للحاكم ( 7288)وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح ( 4381)

(14) أخرجه ابن ماجه ( 279) وصحيحه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (5518)

(15) أخرجه مسلم ( 1598 )

(16) شرح النووي على مسلم (11/ 26)

(17) أخرجه أبي داود (3462) وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته ( 423)

(18) أخرجه أحمد ( 12902 )وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته ( 1424)

(19) أخرجه البخاري ( 6066)

(20) المطر والرعد والبرق لابن أبي الدنيا (ص: 80)

(21)كرامات الأولياء للالكائي من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (9/ 138)

(22) أخرجه أحمد ( 22790) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 136)

حادي الأرواح إلى معرفة المشروع والممنوع من المزاح

التفاصيل
كتب بواسطة: اللجنة العلمية
المجموعة: عدد جمادى الآخرة 1437هـ
الزيارات: 10920

حادي الأرواح إلى معرفة المشروع والممنوع من المزاح

حادي الأرواح إلى معرفة المشروع والممنوع من المزاح

مقدمة

فإن من عظمة هذا الدين وشموليته وسعته أنه ما ترك شيئاً في حياة المسلم إلا ونظمه ورتبه، وجعل له قواعد وضوابط يسير عليها ويلتزم بها، وذلك كله بأمر الله جل وعلا وهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإن مما يشتهر عند غير المسلمين وبعض المسلمين للأسف أيضاً أن دين الإسلام دين كبت وحبس للنفس، فلا ضحك ولا مزاح، ولا لهو ولا متعة. ولئن اشتهر هذا عند غير المسلمين فإنه قد يعذر الكثير منهم في تصوره هذا الذي قد يكون بسبب جهله بالدين الإسلامي العظيم أو بسبب التشويه المتعمد من قبل وسائل الإعلام الغربية التي ما فتئت تصور الإسلام والمسلمين بأبشع الصور.

لكن المصيبة كل المصيبة أن توجد مثل هذه المفاهيم والتصورات عند بعض أفراد المسلمين. (1)

تعريف المزاح:

عرفه الزبيدي بقوله: هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف دون أذية حتى يخرج الاستهزاء والسخرية، وقد قال الأئمة: الإكثار منه، والخروج عن الجد مخل بالمروءة والوقار، والتنزه عنه بالمرة والتقبض مخل بالسنة والسيرة النبوية المأمور باتباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها. (2)

الْفرق بَين المزاح والاستهزاء

إن المزاح لَا يَقْتَضِي تحقير من يمازحه وَلَا اعْتِقَاد ذَلِك أَلا ترى أَن التَّابِع يمازح الْمَتْبُوع من الرؤساء والملوك وَلَا يتضي ذَلِك تحقيرهم وَلَا اعْتِقَادهم تحقيرهم ولاكن يَقْتَضِي الِاسْتِئْنَاس بهم على مَا ذَكرْنَاهُ فِي أول الْكتاب والاستهزاء يَقْتَضِي تحقير المستهزإ بِهِ واعتقاد تحقيره. (3)

حكم المزاح:

فإن المزاح الخالي من الموانع التي تعكر صفو الخواطر مندوب إليه، وهو خلق كريم حث عليه الشارع الحكيم.

ولكن هل للمسلم أن ينطلق في المزح والدعابة، كما يشاء وحيث أراد أم أنه يتقيد بالضوابط الشرعية.

والحقيقة أنها لا بد من التقيد بالشرع في كل ذلك لمعرفة المكروه من المزاح والمندوب إليه منه.

فالمكروه منه ما كان فيه إفراط بحيث يخرج المسلم عن مهمته الأساسية التي خلق من أجلها والتي هي عبادة خالقه جل وعلا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الذاريات 56. (4)

أما إذا لم يكن فيه إفراط ولا شغل عن الله فهذا سنة وقد فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعله أصحابه الذين تربوا في مدرسة النبوة، فقد كانوا يتمازحون فيما بينهم ولكن إذا جد الجد كانوا هم الرجال.

فعَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَبَادَحُونَ بِالْبِطِّيخِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحَقَائِقُ كَانُوا هُمُ الرِّجَالَ. (5)

إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا فِيهِ إِفْرَاطٌ أَوْ مُدَاوَمَةٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَيُؤَدِّي إِلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ وَسُقُوطِ الْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ وَالَّذِي يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْمُبَاحُ فَإِنْ صَادَفَ مَصْلَحَةً مِثْلَ تَطَيُّبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَمُؤَانَسَتِهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ. (6)

يقول الماوردي: الْعَاقِلُ من يَتَوَخَّى بِمِزَاحِهِ إحْدَى حَالَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا(7)

الحالة الأولى: إينَاسُ الْمُصَاحِبِينَ وَالتَّوَدُّدُ إلَى الْمُخَالِطِينَ. وَهَذَا يَكُونُ بِمَا أَنِسَ مِنْ جَمِيلِ الْقَوْلِ، وَبُسِطَ مِنْ مُسْتَحْسَنِ الْفِعْلِ.

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْفِيَ بِالْمِزَاحِ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ سَأَمٍ، وَأَحْدَثَ بِهِ مِنْ هَمٍّ. فَقَدْ قِيلَ: لَا بُدَّ لِلْمَصْدُورِ أَنْ يَنْفُثَ.

فهذه كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مثل سائر البشر ولم تكن صارمة طول الوقت ولكن كان يتخللها بعض المزاح واللهو المباح فكان هذا مداعبة لأزواجه وملاطفة لهم، وتطيباً لقلوب أصحابه وممازحة لهم لكنه لم يكن كمزاحنا نحن اليوم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمزح لكنه لا يقول إلا حقا.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا. (8)

وهذا لعصمته من الزلل في القول والعمل، وإنما كان يمزح؛ لأن الناس مأمورين بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة ولزم العبوس والقطوب لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما فيه مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا. (9)

وهذه نماذج من مزاحه في حياته مع أزواجه وأصحابه وأبنائه وعبيده -صلى الله عليه وسلم-

أولاً: مزاحه مع أزواجه -صلى الله عليه وسلم-

عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا: "يَا عَائِشَ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ" فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لاَ أَرَى "تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". (10)

فانظر إليه -صلى الله عليه وسلم- كيف ينادي على عائشة -رضي الله عنها- فيرخم اسمها والترخيم هو ما نسميه اليوم بلغتنا ( الدلع) تطيباً لخاطرها وملاطفة لها.

وقَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ". (11)

وفي هذا الحديث من جميل العشرة خاصة مع عائشة -رضي الله عنها- لما كان لها من المنزلة ما جعل النبي-صلى الله عليه وسلم- يستمع إلى هذا الحديث بطوله منها ويقول لها "كنت لك كأبي زرع لأم زرع".

وعن عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جِنَازَةٍ، وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ قَالَ: "بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ" ثُمَّ قَالَ: "وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ ثُمَّ دَفَنْتُكِ" قُلْتُ: لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ بُدِئَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. (12)

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: " تَقَدَّمُوا " فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: " تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ " فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: " تَقَدَّمُوا " فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: " تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ " فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: " هَذِهِ بِتِلْكَ ". (13)

وعن النعمانِ بنِ بشير-رضي الله عنهما-، قال: استأذن أبو بكرِ -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَسمع صوت عائشةَ عالياً، فلما دخَلَ تناولها ليلطِمَها، وقال: ألا أراكِ تَرْفعَينَ صَوتَكِ على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعلَ النبيَّ-صلى الله عليه وسلم- يحجزُهُ، وخرج أبو بكر مُغضَبَاً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: حين خرج أبو بكر: "كيف رأيتني أنقذتُكِ من الرجُلِ؟ " قال: فمكثَ أبو بكرِ أياماً، ثم استأذَنَ على رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدَهما قد اصطلحَا، فقال لهما: أدخِلاني في سِلمكُما كما أدخلتُماني في حَرْبِكما، فقال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "قد فعلنا، قد فعلنا". (14)

 وعَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: "أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ". (15)

ثانياً: مزاحه -صلى الله عليه وسلم- مع أبنائه ومع الغلمان

والمتأمل لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مزاحه ودعابته مع الصبيان يجد نموذجا فريدا، فهو مع كونه -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا وقائدا ومعلما، ومربيا لهذه الأمة لم ينس الصبيان فكان أرحم الناس بالصبيان والعيال.

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-". (16)

وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيُخَالِطُنَا حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَقُولُ لأَخٍ لِي صَغِيرٍ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ". (17)

وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ -رضي الله عنه-، قَالَ: "عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ". (18)

وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ -رضي الله عنهما-، قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سَنَهْ سَنَهْ" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهِيَ بِالحَبَشِيَّةِ: حَسَنَةٌ، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْهَا" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ، يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا. (19)

وعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُلاعِبُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ يَقُولُ يَا زُوَيْنِبُ يَا زُوَيْنِبُ مِرَارًا. (20)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُدْلِعُ لِسَانَهُ لِلْحُسَيْنِ، فَيَرَى الصَّبِيُّ حُمْرَةَ لِسَانِهِ، فَيَهَشُّ إِلَيْهِ. . . . . . . . ". (21)

 ثالثاً: مزاحه -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم-

فعن أنسِ-رضي الله عنه-: أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، احمِلْني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا حَامِلُوكَ على ولَدِ نَاقَةٍ"، قال: وما أصنعُ بولدِ الناقة؟ فقال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "وهل تَلِدُ الإبِلَ إلا النُّوقُ". (22)

وعن عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعي -رضي الله عنه-، قال: أتيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في غَزوةِ تبوكَ وهو في قُبَّةٍ من أَدَم، فسلمتُ، فردَّ وقال: "ادخُلْ" فقلت: أكُلِّي يا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "كُلَّك"، فدخلتُ. (23)

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةٍ، فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي، فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ الإِبِلِ، فَإِذَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "مَا يُعْجِلُكَ" قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ، قَالَ: "أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ "، قُلْتُ: ثَيِّبًا، قَالَ: "فَهَلَّا جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ"، قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، قَالَ: "أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ". (24)

وعن حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ سَفِينَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ: أَمَا "إِنِّي مُخْبِرُكَ بِاسْمِي كَانَ اسْمِي قَيْسًا فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَفِينَةَ" قُلْتُ: لِمَ سَمَّاكَ سَفِينَةَ؟ قَالَ: خَرَجَ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتَاعُهُمْ، فَقَالَ: ابْسُطْ كِسَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ فَجَعَلَ فِيهِ مَتَاعَهُمْ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَيَّ فَقَالَ: احْمِلْ مَا أَنْتَ إِلَّا سَفِينَةُ، فَقَالَ: لَوْ حَمَلْتُ يَوْمَئِذٍ وَقْرَ بَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مَا ثَقُلَ عَلَيَّ ". (25)

الضوابط الشرعية في المزاح:

1-  ألاَّ يكون فيه كذب

 فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمزح لكنه لا يقول إلا حقا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا. (26)

وعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ، لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ ". (27)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ". (28)

2- ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين أو بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أو بالعلماء أو بشعيرة من شعائر الإسلام

فهذا يعد من نواقض الإسلام؛ لقوله تعالى: [ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ] [التوبة: 65، 66].

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنكبه الحجارة، وهو يقول: "يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! "، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم". (29)

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَدْ أَتَوْا كُفْرًا بَلْ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكُفْرِ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يَكْفُرُ بِهِ صَاحِبُهُ بَعْدَ إيمَانِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ إيمَانٌ ضَعِيفٌ فَفَعَلُوا هَذَا الْمُحَرَّمَ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظُنُّوهُ كُفْرًا وَكَانَ كُفْرًا كَفَرُوا بِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا جَوَازَهُ وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ". (30)

* ويدخل في هذا الاستهزاء ببعض السنن على سبيل المزح، وببعض الأحكام الشرعية كتقصير الثوب وإعفاء اللحية أو الصلاة والصوم وغيرها.

* ويدخل في هذا النكت التي فيها استهزاء بالملائكة، أو الجنة والنار، أو عذاب القبر، فهذه كثيرة بين الناس.

يقول الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "ومن هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة. كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟ فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به. والكفر كفران: كفر إعراض وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، فمن استهزأ بالصلاة ولو مازحاً أو بالصوم أو بالزكاة أو بالحج فهو كافر بإجماع المسلمين. (31)

فالمزاح والهزل بشيء فيه ذكر الله تعالى، أو الرسول أو القرآن أو العلم أو العلماء، هذا مما يجب أن يتقيه الإنسان.

3- ألا يكون فيه استهزاء بالآخرين أو غيبة أو نميمة أو قذف أو انتهاك للأعراض

وهذا محرم ويعد من الكبائر، يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] [الحجرات: 11].

يقول ابن كثير: "وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ: احْتِقَارُهُمْ وَاسْتِصْغَارُهُمْ، وَهَذَا حَرَامٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُحْتَقَرُ أَعْظَمَ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنْهُ الْمُحْتَقِرِ لَهُ". (32)

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ "اللَّمْزُ بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْإِشَارَةِ. وَالْهَمْزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ". (33)

ولقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن السخرية بالمسلمين فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا" وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ". (34)

4- أن يكون المزاح في الوقت المناسب

 فلا يكون مثلاً في وقت الوعظ، أو التذكير بالموت، أو جلسة علم وجِدٍّ، ويأتي في منتصف هذا الجو العلمي أو الوعظي من يلقي بطرفة، فهذا من أسوأ ما يمكن أن يحدث في مجالس العلم.

قَالَ عُمَر-رضي الله عنه- "إِنَّه ليعجبني أَن يكون الرجل فِي أَهله مثل الصَّبِي، ثُمَّ إِذا بغي مِنْهُ، وجد رجلا".

وَقَالَ ثَابت بْن عُبَيْد -رحمه الله- كَانَ زيد بْن ثَابت -رضي الله عنه- مِن أفكه النّاس فِي بَيته، فَإِذا خرج، كَانَ رجلا مِن الرِّجَال.

وَقيل لسُفْيَان بْن عُيَيْنَة -رحمه الله- المزاح هجنة- أي مستنكر-؟ قَالَ: بل سنة، وَلَكِن الشَّأْن فِيمَن يُحسنهُ ويضعه موَاضعه. (35)

5- عدم الإنهماك والاسترسال والمبالغة في المزاح الذي يفضي إلى معصية

ينبغي ألاَّ يداوَم الإنسان على المزاح؛ لأن الجد سمات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب.

ولذلك قال الْغَزَالِيُّ -رحمه الله- "مِنَ الْغَلَطِ أَنْ يُتَّخَذَ الْمِزَاحُ حِرْفَة". (36)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- "فَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ". (37)

ويقول ربيعَة الرَّأْي -رحمه الله-" الْمُرُوءَة سِتّ خِصَال: ثَلَاثَة فِي الْحَضَر، وَثَلَاثَة فِي السّفر، فَفِي الْحَضَر تِلَاوَة الْقُرْآن، وَعمارَة مَسَاجِد اللَّه، واتخاذ الْقرى فِي اللَّه، وَالَّتِي فِي السّفر، فبذل الزَّاد، وَحسن الْخلق، وَكَثْرَة المزاح فِي غير مَعْصِيّة". (38)

6- عدم الترويع أو الإضرار بالآخرين أو تعريض حياتهم للخطر

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ". (39)

وعن عبدِ الرحمن بنِ أبي ليلى -رحمه الله- قال حدَّثنا أصحابُ محمدِ -صلى الله عليه وسلم- أنهم كانوا يسيرونَ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فنامَ رجُلٌ منهم، فانطلقَ بعضُهُم إلى حَبْلٍ معه فأخذه، ففزعَ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَحِلُّ لمسلم أن يُرَوِّعَ مُسْلِماً". (40)

7- ألا يكون مع السفهاء

لأنه إذا مازح السفهاء ردوا عليه سفاهة، فأضر ذلك بشخصيته.

قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: "اقْتَصِدْ فِي مِزَاحِك فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ يُذْهِبُ الْبَهَاءَ، وَيُجَرِّئُ عَلَيْك السُّفَهَاءَ". (41)

8- ألا يمازح الكبير والعالم بما لا يليق بمقامه وأن يُنْزِل الناس منازلهم إن العالم والكبير لهم من المهابة والوقار منزلة خاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح معهما خشية الإخلال بتوجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ". (42)

وعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ". (43)

من أهداف المزاح وفوائده

1-  التسلية وإذهاب الوحشة والاستئناس والملاطفة وتطييب خاطر

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: "لاَ" فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- - يُرِيدُ عَائِشَةَ - فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تَبَسُّمَةً أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ". (44)

2- وقد يكون المزاح ابتسامة في وجه الآخرين

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، يَرْفَعْهُ قَالَ: "إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَهِدَايَتُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّالَّةِ صَدَقَةٌ". (45)

وعَنْ جَرِيرٍ بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-، قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي. (46)

3- وقد يكون المزاح للتخلص من الخوف أو الملل أو الغضب

فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، ففي حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول -رضي الله عنه-: "فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ". (47)

إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب.

وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالب -رضي الله عنه- "أَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ وَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ". (48)

4- وقد يكون المزاح للتخلص من موقف صعب

فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك.

فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها.

---

(1) موسوعة خطب المنبر (ص: 1950).

(2) تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي(2/ 322). قوَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِيِّ.

(3) الفروق اللغوية للعسكري (ص: 254).

(4) انظر مجلة البحوث الإسلامية (68/ 346).

(5) صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 102) رقم 266، وانظر الصحيحة (1/ 797) 435.

(6) عون المعبود وحاشية ابن القيم (13/ 234).

(7) أدب الدنيا والدين (ص: 310).

(8) حسن أخرجه الترمذي في سننه (3/ 425) رقم 1990، والبخاري في الأدب المفرد (ص: 102) رقم 265، والبيهقي في الآداب (ص: 134) رقم 325.

(9) انظر فيض القدير( 3/ 18).

(10) صحيح البخاري (5/ 29) رقم 3768، صحيح مسلم (4/ 1896) رقم 91(2447).

(11) صحيح البخاري (7/ 28) رقم 5189، صحيح مسلم (4/ 1896) رقم 92 (2448).

(12) صحيح البخاري (7/ 119) رقم 5666، والنسائي في السنن الكبرى (6/ 381) 7042 واللفظ له.

(13) صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12/ 508) رقم 34274، وأحمد في مسنده (43/ 313) رقم 26277واللفظ له، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 254) رقم 131.

(14) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (7/ 349) رقم4999، والنسائي في السنن الكبرى (7/ 448) رقم 8441، وأحمد في مسنده(30/ 372) رقم 18421.

(15) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (4/ 11) رقم 3887، والنسائي في السنن الكبرى (7/ 75) رقم 7501، السلسلة الصحيحة للألباني (1/ 340) رقم 178.

(16) صحيح مسلم (4/ 1808) رقم 63 (2316).

(17) صحيح أخرجه الترمذي في سننه (3/ 425) رقم 1989، وابن ماجة في سننه (2/ 1226) رقم 3720، والبخاري في الأدب المفرد (ص: 103) رقم 269، والبيهقي في الآداب (ص: 135) رقم 326.

(18) صحيح البخاري (1/ 26) رقم 77، صحيح مسلم (1/ 456) رقم 265 (33).

(19) صحيح البخاري (8/ 7) رقم 5993.

(20) صحيح أخرجه الضياء في المختارة (5/ 109) رقم 1733، وانظر الصحيحة (5/ 174) رقم 2141.

(21) حسن أخرجه ابن حبان في صحيحه (12/ 408) رقم 5596، (15/ 431) رقم 6975، وفي موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (7/ 192) رقم 2236، والبغوي في شرح السنة (13/ 180) رقم 3603، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني(1/ 151) رقم 70.

(22) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (7/ 348) رقم 4998، والترمذي في سننه (3/ 425) رقم 1991، والبخاري في الأدب المفرد (ص: 102) رقم 268، والبيهقي في الآداب (ص: 135) رقم 327.

(23) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (7/ 350) رقم 5000، والبيهقي في السنن الكبرى21170.

(24) صحيح البخاري (7/ 5) رقم 5079، صحيح مسلم (2/ 1088) رقم 57(715).

(25) حسن أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 701) رقم 6548، وأحمد في مسنده (36/ 253) رقم 21924، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني(6/ 1114) رقم 2959.

(26) حسن أخرجه الترمذي في سننه (3/ 425) رقم 1990، والبخاري في الأدب المفرد (ص: 102) رقم 265، والبيهقي في الآداب (ص: 134) رقم 325.

(27) حسن أخرجه أحمد في مسنده (33/ 244) رقم 20046، (33/ 248) رقم 20055، (33/ 262) رقم 20073، وأبو داود في سننه (7/ 342) رقم 4990.

(28) صحيح البخاري (8/ 101) رقم 6478.

(29) إسناده حسن أخرجه الطبري في تفسيره (14/ 333) رقم 16912، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1829) رقم 10047.

(30) مجموع الفتاوى (7/ 273).

(31) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيميين (2/ 267).

(32) تفسير ابن كثير (7/ 376).

(33) تفسير القرطبي (16/ 327).

(34) صحيح مسلم (4/ 1986) رقم 32(2564).

(35) انظر شرح السنة للبغوي (13/ 183).

(36) فتح الباري لابن حجر (10/ 527).

(37) مجموع الفتاوى (28/ 369).

(38) بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 139).

(39) صحيح مسلم (4/ 2020) رقم 125(2616).

(40) صحيح أخرجه أبو داود في سننه (7/ 352) رقم 5004، والبيهقي في الآداب (ص: 136) رقم 330.

(41) أدب الدنيا والدين (ص: 310).

(42) حسن أخرجه أبو داود في سننه (4/ 261) رقم 4843، وانظر صحيح الجامع (1/ 438) رقم 2199.

(43) جامع بيان العلم وفضله (1/ 519) رقم 840.

(44) صحيح البخاري 5191، صحيح مسلم (1479)عن ابن عباس في قصة طلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه.

(45) صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص: 307) رقم 891، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/ 817) رقم 812، والطبراني في مكارم الأخلاق (ص: 319) رقم 20.

(46) صحيح البخاري (4/ 65) رقم 3035، صحيح مسلم (4/ 1925) رقم 135(2475).

(47) صحيح البخاري (6/ 4) رقم 4418.

(48) جامع بيان العلم وفضله (1/ 433) رقم 659.

  1. قطوف من بستان الواعظين - من الآفات التي تصيب الداعية التقصير في عمل اليوم والليلة
  2. قطوف من بستان الواعظين - دعاتنا والمشاركة في أعمال الخير
  3. قطوف من بستان الواعظين - من واحة الشعر الدعوي
  4. تحميل عدد جمادى الآخرة 1437هـ بصيغة بي دي إف

الصفحة 1 من 2

  • 1
  • 2

البحث

جديد الموقع

  • قصة أصحاب القرية
  • المال بين الحكمة الربانية والنفس البشرية
  • الآثار الإيمانية لاسم الله الفتاح
  • منزلة الشكر
  • سورة العصر طوق النجاة من الخُسْر
  • الآثار الإيمانية للقرآن الكريم
  • هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان
  • هنيئا لمن أدرك رمضان

الأكثر قراءة

  • وقفات تربوية مع شهر شعبان - خطبة
  • أمراض القلوب وعلاجها - خطبة
  • أعمال العشر وتحري ليلة القدر - خطبة
  • رجب شهر الغرس - خطبة
  • منزلة الشكر - خطبة
  • تحويل القبلة. . . . و دروس للأمة - خطبة
  • تذكير الآباء بضرورة تربية الأبناء - خطبة