أسباب النصر والتمكين بين التداعي والتخاذل

أسباب النصر والتمكين بين التداعي والتخاذل

إن المتأمل في واقع المسلمين اليوم، والمتأمل في الأحداث الجارية والوقائع الساخنة ، ليدرك تمام الإدراك صدق نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما يرى الأمم الكافرة تتداعى على أمة الإسلام كما يتداعى الجياع إلى قصعتهم ، فيقع ذلك الإخبار الغيبي الذي أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- كفلق الصبح ،

فعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا) ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ) ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).(1)

 ولو سأل سائل : ما هو سبب تداعي هذه الأمم الكافرة على أمة الإسلام؟

يجد الردّ واضحا في قول الله تعالى : {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30]

قال ابن كثير : أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمتْ لكم {ويعفو عن كثير} أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها.(2)

 وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]

فكل ما يقع على الأمة من ذلٍّ وهوان ، وما يحدث لها من مصائب إنما سببه ومصدره الذنوب والمخالفات ، والهث خلف الدنيا وشهواتها ، والإعراض عن مصدر عزها ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).(3)

والعينة نوع من أنواع الربا، الذي قال الله عنه في كتابه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]

فهذا إعلام من الله لأمةٍ فشا فيها الربا : إعلام بالحرب؟ نعم حرب، هذا جزاء الربا وحده ، فما بالُكم إذا ضُمَّ إليه انتشار الزنا والتبرج والمخدرات ؟ ، وما بالكم إذا ضُمَّ إليه التبجح بأنواع الفجور والمعاصي والتملص من الشريعة وأحكامها والطعن في ثوابتها بالليل والنهار ؟

ومع كل ذلك فالخير في الأمة وفي أبنائها إلى يوم القيامة ، والنصر قريب إن شاء الله ، عن مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه- قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ).(4)

وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :(مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ).(5)

عن أَبي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيّ -رضي الله عنه- ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ).(6)

النصر قريب  وإن رغمت أنوف

مهما تلاحقت الخطوب واشتدت وتفنن الأعداء في أساليب العداوة والبغضاء، فلا ننسى أن نصر الله قريب، وأن كيد الشيطان ضعيف، وأن الغلبة في النهاية للحق وأهله: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاْمْثَالَ } [الرعد:17].

يقول الله عز وجل: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]

ولكن لابد من التمحيص والابتلاء ليظهر ولي الرحمن من ولي الشيطان ، قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]

وقال تعالى :{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [آل عمران: 142]

فالله وعدنا بنصره إن كنّا مؤمنين ونصرنا دينه ورفعنا رايته، فالمسلم يوقن بأن الله ناصره وناصر دينه مهما طال الزمن، ومهما قويت شوكة الباطل، قال تعالى: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]

 وقال تعالى:  {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173]

وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [غافر: 51]

وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ ، وَالدِّينِ ، وَالنَّصْرِ ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ).(7)  فقوله -صلى الله عليه وسلم- : (بشر هذه الأمة بالسناء) أي ارتفاع المنزلة والقدر.  (والدين) هو الإِسلام، والمراد بشرهم بأنهم يثبتون عليه وأنه لا يزيده الله إلا قوة وأنه يظهره على الدين كله كما وقع ذلك.(8)

وعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا).(9)

وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رضي الله عنه- ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).(10)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، قَالَ:  (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ ، إِلَّا الْغَرْقَدَ ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ).(11)

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، عن حُذَيْفَة بن اليمان -رضي الله عنهم- : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا ، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ).(12)

قال الألباني -رحمه الله- : ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز، لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة ولم تكن بعد ملكين: ملك عاض وملك جبرية، والله أعلم.(13)

 أسباب النصر والتمكين

كلُّ ما مضى بشريات عظيمات ووعدٌ صادق من الصادق -صلى الله عليه وسلم- لن يتخلف أبدا ، ولكن لابد للنصر من أسباب وطرق تُسلك حتى يتحقق هذا النصر

قال الشيخ الألباني -رحمه الله- : مما لا شك فيه أن تحقيق انتشار الإسلام في الأرض يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر والطغيان.(14)

قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]

إذاً ما هو الحل؟ و ما هي أسباب النصر والتمكين؟

السبب الأول  : الإيمان والعمل الصالح

فأول أسباب النصر أن نصلح حالنا مع ربنا ونحقق العبودية التي هي الغاية من الخلق ، قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]

 فعلق الوعد بالتمكين هنا بأربعة أمور:

1 - وجود الجماعة المؤمنة وتحقيق الإيمان فيها.

2 - عمل الصالحات: من القيام بشرائع الدين وتنفيذ أوامر الله .

3 - التزام نهج الصحابة، لقوله: {مِنكُمْ} فالخطاب لهم، وينسحب على من نهج نهجهم.

4 - انتفاء الشرك في العبادة: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}.(15)

وقال سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]  

وقال تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47]

قال ابن القيم : النصر والتأييد الكامل. إنما هو لأهل الإيمان الكامل ، فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه.(16)

السبب الثاني :  وجود علماء  ودعاة ربانيين

 إن تحقيق الإيمان والعمل الصالح لدى أفراد الأمة إنما يكون بالدعوة إلى الله عز وجل تصفيةً وتربيةً، على أيدي العلماء الربانيين الذين هم اتباع سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- ، قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]

قال ابن القيم : فسبيلُه وسبيل أَتْبَاعه الدعْوَة إِلَى الله فَمن لم يدع إِلَى الله فَلَيْسَ على سَبيله.(17)

وقال تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]

وقال تعالى : { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [الفرقان: 52]

قال ابن القيم : فهذا جهادٌ بالقرآن وهو أكبر الجهادين.(18)

وقال تعالى { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]

السبب الثالث : نصر  دين الله 

من أعظم أسباب النصر نصر دين الله - تبارك وتعالى -، والقيام به قولاً، واعتقاداً، وعملاً، ودعوةً ، قال تعالى : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41]

وقال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]

قال السعدي :   هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره.(19)

السبب الرابع : التوكل على الله والأخذ بالأسباب

التوكل على الله تعالى مع إعداد القوة من أعظم عوامل النصر، قال ابن القيم : التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق.(20)

قال تعالى :{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]

قال ابن القيم : التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فإن الله حسبه أي كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى.(21)

قال تعالى :{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]

قال السعدي : أي: إن يمددكم الله بنصره ومعونته {فلا غالب لكم} فلو اجتمع عليكم من في أقطارها وما عندهم من العدد والعُدد، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه.

{وإن يخذلكم} ويكلكم إلى أنفسكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.  وفي ضمن ذلك الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} بتقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله توكلوا لا على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار.(22)

السبب الخامس :  التضرع إلى الله  والإلحاح  في الدعاء والاستغاثة  به سبحانه

من أعظم وأقوى عوامل النصر التضرع إلى الله والاستغاثة به ، لأنه القوي القادر على هزيمة أعدائه، ونصر أوليائه قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]

قال ابن القيم : الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب ، ومن أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدفعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن.(23)

وقال تعالى {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]

قال ابن القيم : المعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به هو العليم الحكيم وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء ، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء.(24)

ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويستغيث ربه  تبارك وتعالى في معاركه ؛ فينصره ويمده بجنوده ،  قال تعالى : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]

وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله في جميع معاركه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا غَزَا قَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ).(25)

وفي غزوة بدر ظل -صلى الله عليه وسلم- طوال ليلته يتضرع ويدعو ربه  عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- ،  قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ ، وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلاَّ نَائِمٌ ، إِلاَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ويَبْكي وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ.(26)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، (قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-) حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ}.(27)

 وهكذا ينبغي أن يكون حال المسلم وقت الشدائد ، لأن الدعاء يدفع الله به من البلاء ما الله به عليم، ، فعَنْ سَلْمَانَ الفارسي -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ).(28)

ولما كان الصحابة -رضي الله عنهم- أعلم الأمة بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم.

وكان عمر -رضي الله عنه- يستنصر بالدعاء  على عدوه، وكان أعظم جنديه، وكان يقول لأصحابه: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء، وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمتم الدعاء، فإن الإجابة معه ، فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة.(29)

وهذه قصة من التاريخ : غزا محمد بن واسع مع قتيبة بن مسلم ، فأصابتهم شدةٌ حتى خافوا الهلاك، فقال قتيبة: انظروا محمد بن واسع ؛ فطلب فوجدوه في صحراء ، قائماً على ركبتيه يدعو ويشير بأصبعه، فأُخبر قتيبة بذلك، فقال قتيبة: احملوا على القوم، فإن الله لا يضيع جيشاً فيهم محمد بن واسع ؛ فقال بعض رؤساء العسكر: إنا لم نرَ عند هذا الرجل الذي طلبتَ كثيرَ قوةٍ ، إنما كان يدعو ويشير بأصبعه؛ فقال: لأصبعه الذي أشار أحبّ إليَّ من ألف فارسٍ.(30)

السبب السادس : الاجتماع  وعدم التفرق والتنازع

لا يخفى على أحد من الناس أهمية جمع كلمة المسلمين، وأن ذلك سبب في النصر على عدوهم، وقد أمر الله تعالى عباده بالاجتماع في آيات كثيرة ، ودعاهم إلى الاعتصام بحبله المتين، وأخبر أن التفرق والتنازع سبب في حصول الفشل والهزيمة فقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]

 قال الشنقيطي : نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبينا أنه سبب الفشل، وذهاب القوة.(31)

وقال تعالى :{ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم: 31، 32]

فاللهم نصرك الذي وعدت

---

(1) رواه أبو داود (4297) وصححه الألباني في  مشكاة المصابيح (3/ 1475)

(2) تفسير ابن كثير (7/ 207)

(3) رواه أبو داود (4362) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 42)

(4) رواه مسلم (1037)

(5) رواه أحمد (3/ 130) والترمذي (2869) وصححه الباني في السلسلة الصحيحة (5/ 356)

(6) رواه أحمد (4/ 200) وابن ماجه (8) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة(5/ 571)

(7) رواه أحمد  (5/ 134) وصححه الألباني في صحيح الجامع  (1/ 545)

(8) التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (4/ 546)

(9) رواه مسلم (2889)

(10) رواه أحمد (4/ 103) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة(1/ 32)

(11) رواه مسلم (2922)

(12) رواه أحمد (4/ 273) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 35)

(13) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 35)

(14) أحمد(2/ 176)   والدارمي (1 / 126) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة(1/ 32)

(15) مقال لأحمد الشهري بمجلة البيان (204/ 23)

(16) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 182)

(17) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 21)

(18) مفتاح دار السعادة (1/ 70)

(19) تفسير السعدي (ص: 785)

(20) الفوائد لابن القيم (ص: 86)

(21) بدائع الفوائد (2/ 239)

(22) تفسير السعدي (ص: 154)

(23) الداء والدواء (ص: 10)

(24) الفوائد لابن القيم (ص: 97)

(25) رواه أبو داود (2632) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 865)

(26) رواه أحمد (1/ 138) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 355)

(27) رواه البخاري (4563)

(28) رواه الترمذي (2139) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1271)

(29) الداء والدواء (ص: 17)

(30) تاريخ دمشق لابن عساكر (56/ 142)

(31) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/ 102)