دروس وعبر من حديث الهجرة

دروس وعبر من حديث الهجرة

روى البخاري ومسلم عَنِ الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ -رضي الله عنه-  قَالَ اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- ، مِنْ عَازِبٍ  -رضي الله عنه-  رَحْلاً بِثَلاَثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي فَقَالَ عَازِبٌ لاَ حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ قَالَ ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا، أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللهِ فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-

ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَبَنًا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ "فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ"، ثُمَّ قُلْتُ قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ بَلَى فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فَقَالَ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَىَّ فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ.

 فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَى فَرَجَعَ لاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَا هُنَا فَلاَ يَلْقَى أَحَدًا إِلاَّ رَدَّهُ - قَالَ - وَوَفَى لَنَا(1).

وفي حديث هجرته صلوات الله وسلامه عليه دروس وعبر نستنير بها في حياتنا، ونستذكر أيام عزنا،

ومن أهم الدروس والعبر المستفادة من هجرته -صلى الله عليه وسلم-:

1-أن الصراع بين الحق والباطل باقٍ إلى قيام الساعة:

ولا يزال الصراع بين الحق والباطل باقيًا إلى أن يشاء، وذلك منذ طرد إبليس من رحمة الله والجنة، وهبوط آدم -عليه السلام-  إلى الأرض، فالشر قائم في دنيا الناس ما بقي الشيطان، وهذه سنة كونية أرادها الله عز وجل ليبتلي عباده، ويميز الله الخبيث من الطيب، وصدق الله إذ يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 2 - 4]

ولكن راية الباطل وإن ظهرت وارتفعت فلن تطول ولن تدوم، ولذا لما اشتد إيذاء المشركين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضوان الله عليهم، جاء الفرج والنصر من الله فأسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وفرضت الصلاة وجاء نفر يثرب ليبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة والنصرة في المنشط والمكره، ثم أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالهجرة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ "(2).

2-الأخذ بالأسباب من أهم عوامل النصر:

لم يتكل النبي -صلى الله عليه وسلم- على نبوته بقوله أنا نبي من عند الله والدين دين الله وهو ناصر دينه لا؛ ولكن مع يقينه في نصر الله له إلا أنه علم البشرية في شخصه كيفية الأخذ بالأسباب والإعداد الجيد لهجرته فتجهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورتب لأمر الهجرة ترتيبًا جيدًا وانتظر الإذن من قِبلِ الله له في الهجرة.

والمثل بالمثل حال أبي بكر  -رضي الله عنه- ، وهو أكثر الناس تأسيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالهجرة، تَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ(3).

ولذا أمر الله عز وجل عباده بالأخذ بالأسباب قدر الاستطاعة لمواجهة أعدائهم فقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]

3-تمام اليقين في نصر الله ووعده:

قد ينظر البعض منا إلي حال أمتنا اليوم، وما أحاط بها من الانهزام والتراجع والخذلان، وتكالب الأمم عليها من كل جانب، فيشك في وعد الله ونصره، فالباطل مهما فشا وانتشر فهو إلى زوال، تعلمنا ذلك من حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن هجرته، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- في أشد المواقف وأصعبها يتذكر وعد الله له بالنصرة والتأييد ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ  -رضي الله عنه- ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا فَقَالَ مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا(4).

وفي حديث البراء بن عازب  -رضي الله عنه-  وعن أبيه، المذكور آنفًا، وفيه " ثُمَّ قُلْتُ أبوبكر-قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ بَلَى فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}".

ولله در القائل:

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها         فرجت وكنت أظنها لا تفرج

فكونوا على يقين في وعد الله، فالليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر.

4-تمام الصحبة:

ومن أعظم الدروس التي نتعلمها من حديث هجرة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وصديقه أبو بكر كلاهما نعم الصاحب لصاحبه ونعم الخليل لخليله، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أذن في الخروج إلى المدينة ذهب إلى بيت أبي بكر  -رضي الله عنه-  فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ السَّاعِةِ إِلاَّ لأَمْرٍ حَدَثَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لأَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه-  "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ "، قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ قَالَ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَالَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "الصُّحْبَةَ"(5).

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- منعه قبل ذلك من الهجرة، فطمع أبو بكر في صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، فوفى له النبي -صلى الله عليه وسلم- وحقق له ما تمناه، وهناك الكثير من المواقف التي تدل على حسن وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وجميل صحبته وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان أو دليل صلوات الله وسلامه عليه.

وهذا الصديق أبوبكر  -رضي الله عنه-   لم يكن على قدر من الوفاء بعيد من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو أفضل الناس بعد الأنبياء وأقرب الناس إلى حبيب الرحمن -صلى الله عليه وسلم-.

ففي حديث الهجرة: قَالَ أبوبكر  -رضي الله عنه- ، ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا، وفيه " فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللهِ فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- "، ثُمَّ انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَبَنًا قَالَ نَعَمْ فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ "فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ".

وقوله: " فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ "، تعبير لطيف من الصديق  -رضي الله عنه-  عما طبع عليه من حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمراد أنه -صلى الله عليه وسلم- شرب من اللبن ما يكفيه فسكن به اضطراب الصديق  -رضي الله عنه-  الذي حدث له بما رأى عليه -صلى الله عليه وسلم- من أثر الجوع فإن المحب الصادق يرتاح براحة الحبيب أكثر مما يرتاح بها الحبيب فعبر عن راحة قلبه بذلك بالرضى تجوزًا(6).

فلله در أبي بكر الصديق  -رضي الله عنه- ، ما أحسن تدبيره وما أعظم صحبته لسيد المرسلين وإمامهم.

5-المسجد أساس بناء الأمة:

وأول خطوة خطاها رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- بعد قُدومه المدينة هو بناء المسجد النبوي، واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته -صلى الله عليه وسلم-، فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وأسهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبِن والحجارة ويقول:

اللهم لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخرة                  فاغْفِرْ للأنصار والمُهَاجِرَة

وكان يقول:

هذا الحِمَالُ لا حِمَال خَيْبَر                    هذا أبَرُّ رَبَّنَا وأطْهَر

وَجَعَلُوا يَرْتَجِزُونَ وَهُمْ يَنْقُلُونَ اللّبِنَ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ فِي رَجْزِهِ:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالرّسُولُ يَعْمَلُ                 لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلّلُ

وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غَرْقَد، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المشركين فنبشت، وبالخَرِب فسويت، وبالنخل والشجرة فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وكانت القبلة إلى بيت المقدس، وجعلت عضادتاه من حجارة، وأقيمت حيطانه من اللبن والطين، وجعل سقفه من جريد النخل، وعُمُده الجذوع، وفرشت أرضه بالرمال والحصباء، وجعلت له ثلاثة أبواب، وطوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه، وكان أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع.

وبني بجانبه بيوتًا بالحجر واللبن، وسقفها بالجريد والجذوع، وهي حجرات أزواجه -صلى الله عليه وسلم-، وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب.

ولم يكن المسجد موضعًا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تلتقى وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات، وبرلمان لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.

وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون (7).

6-تمام الأخوة  وحسن البذل والإيثار:

ودرس آخر نتعلمه أن أخوة الإيمان أوثق من أخوة النسب، ولا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، وممن اتصف بهذه الصفات الرفيعة أنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لما علموا بمقدم إخوانهم المهاجرين إليهم استقبلوهم بأفضل ترحاب فهيئوا لهم المسكن واقتسموا الثمار بينهم، حتى وصل الحال أن كان الواحد منهم يعرض زوجاته على أخيه أيتهن أحب ينزل له عنه كما حدث مع عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري، فعن أنس  -رضي الله عنه- ، قال: "لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ نَزَلَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنْصَارِ فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ أُقَاسِمُكَ مَالِي وَأَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى امْرَأَتَيَّ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ فَخَرَجَ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى"(8).

وقد أثنى الله عز وجل على فعل الأنصار بقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9]

7-نصر الله قريب وبعد العسر يسر:

لقد حكى لنا التاريخ حال النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قديمًا كم كانوا مضطهدين وكم كانوا جياعًا وكم أوذوا وكم كانوا قلة مقارنة بأعدائهم، ولكنهم صدقوا الله عز وجل وأخذوا بأسباب النصر وتخلصوا من حظوظ أنفسهم فاستحقوا النصر والتمكين من الله لهم، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]

فأبشروا بوعد الله ونصره فإن الله عز وجل تكفل بنصرة دينه وعباده المؤمنين فقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]

ولا يكون النصر إلا بالإيمان بالله والصبر على قضائه والثبات في أمره قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]

فكونوا واثقين في وعد الله، ولا يتسرب اليأس إلى قلوبكم، وانتفعوا بموعظة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس -رضي الله عنه- ، حيث قال له: " يَا غُلامُ، أَوْ يَا غُلَيِّمُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: " احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "(9).

قال ابن رجب: "وكم قصَّ سبحانه من قصص تفريجِ كُرُباتِ أنبيائه عند تناهي الكَرْب كإنجاء نوح ومَنْ معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليمِّ، وإغراق عدوِّهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنَّ مَعَ العسر يسراً" هو منتزع من قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}، وقوله - عز وجل -: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عَنْ أَسْلَمَ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ  -رضي الله عنه- حُصِرَ بِالشَّامِ، وَنَالَ مِنْهُ الْعَدُوُّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ  بْنُ الْخَطَّاب -رضي الله عنه- ، يَقُولُ: " مَهْمَا يَنْزِلْ بِأَمْرِكَ شِدَّةٌ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَإِنَّهُ يَقُولُ: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200](10).

ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر: أنَّ الكربَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى، وحصل للعبد الإياسُ من كَشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبُه بالله وحده، وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلَبُ بها الحوائجُ، فإنَّ الله يكفي من توكَّل عليه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(11).

عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، يَقُولُ: " اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، فَإِنَّ يُونُسَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ذَاكِرًا لِلَّهِ، فَلَمَّا وَقَعَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ قَالَ اللَّهُ: " {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144] "، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ عَبْدًا طَاغِيًا نَاسِيًا لِذِكْرِ اللَّهِ فَلَمَّا

 { أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90، 91] "(12).

---

(1) أخرجه البخاري(3652 )، ومسلم(7706).

(2) أخرجه البخاري(2297).

(3) أخرجه البخاري(2297).

(4) أخرجه البخاري(3653).

(5) أخرجه البخاري(2138) عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- .

(6) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم لأبي ياسين الهرري(21/ 113).

(7) وانظر زاد المعاد لابن القيم(3/ 55)، و الرحيق المختوم للمباركفوري(ص: 143).

(8) أخرجه البخاري(5167).

(9) أخرجه أحمد(2804)، والترمذي(2516)، وصححه الألباني في الجامع الصغير(13917)، ومشكاة المصابيح (5302).

(10) الأثر أخرجه مالك في الموطأ(961) مرسلا عن زيد بن أسلم، وابن أبي الدنيا في الفرج (31)، وابن أبي شيبة في  مصنفه (19834)كلاهما عن أسلم.

(11) جامع العلوم والحكم لابن رجب(2/ 586).

(12) أخرجه ابن أبي شيبة مصنفه(34794).