فضل الغني في شرح آية الكرسي

فضل الغني في شرح آية الكرسي

مقدمة              فضل آية الكرسي                تفسير الآية

مقدمة:

لا شك أن تدبر القرآن من أسمى العلوم التي ينبغي للمسلم الحرص عليه ليمكنه ذلك من فهم معاني القرآن الكريم، إلا أن الشرع عظم شأن بعض آياته وسوره؛ لعظم ما تضمنته من معان، وكل معاني القرآن عظيمة، وإن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ ففيها من المعاني ومن صفات الله وأسمائه وتنزيهه ما لا يحيط به إنسان، ولا يسطره بنان.

ومن تأمل هذه الآية وتدبرها ظهر له من هذه المعاني ما يُعرّفه بقدر هذه الآية، وفضلها وعلوّ منزلتها، فحريّ بكل مسلم أن يحفظها، وأن يعي تفسيرها؛ ليكون له عند الله الثواب العظيم، والأجر الجزيل. (1)

فضل آية الكرسي:

هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات.(2)

قال شيخ الإسلام: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَضَمَّنَتْ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ. (3)

قال القرطبي -رحمه الله-: هَذِهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ وَأَعْظَمُ آيَةٍ، وَنَزَلَتْ لَيْلًا وَدَعَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، زَيْدًا فَكَتَبَهَا. (4)

ومما يبين فضل هذه الآية ما يأتي:

1- أنها حَوَت اسم الله الأعظم، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (إِنَّ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطَهَ) قَالَ الْقَاسِمُ بن محمد -رحمه الله-: (فَالْتَمَسْتُه فإذا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). (5)

2- آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، والدليل حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ ) قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ ) قَالَ: قُلْتُ: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: (وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ). (6) أي ليكن العلم هنيئا لك. وهذا دليل على كثرة علمه.

3- آية الكرسي يحفظ الله بها عبده من الشيطان بالليل والنهار، والدليل حديث ابن أبي بن كعب، أَنَّ أَبَاهُ أبي بن كعب -رضي الله عنه-، أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَتَعَاهَدُهُ فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ تُشْبِهُ الْغُلَامَ الْمُحْتَلِمَ، قَالَ: فَسَلَّمَتْ فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ، أَجِنٌّ أَمْ إِنْسٌ؟ قَالَ: جِنٌّ، قَالَ: فَنَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي يَدَهُ، فَإِذَا يَدُ كَلْبٍ وَشَعْرُ كَلْبٍ، قَالَ: هَكَذَا خَلْقُ الْجِنِّ، قَالَ: لَقَدْ عَلِمتِ الْجِنُّ، مَا فِيهِمْ أَشَدُّ مِنِّي، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: تَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذَا قَرَأْتَهَا غُدْوَةً أُجِرْتَ مِنَّا حَتَّى تُمْسِيَ، وَإِذَا قَرَأْتَهَا حِينَ تُمْسِي أُجِرْتَ مِنَّا حَتَّى تُصْبِحَ، قَالَ أُبَيٌّ فَغَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: (صَدَقَ الْخَبِيثُ). (7)

لذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: إذا قرأها الإنسانُ عند الأحوال الشيطانية بصدقٍ أبطلتْها. (8)

4- آية الكرسي يحفظ الله بها بيوت المسلمين من كيد الشياطين، والدليل حديث أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ(9) فَتَأْخُذُ مِنْهُ قَالَ: فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: " فَاذْهَبْ فَإِذَا رَأَيْتَهَا فَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، " قَالَ: فَأَخَذَهَا فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ)؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ: فَقَالَ: (كَذَبَتْ، وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ)، قَالَ: فَأَخَذَهَا مَرَّةً أُخْرَى فَحَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ فَأَرْسَلَهَا، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ)؟ قَالَ: حَلَفَتْ أَنْ لَا تَعُودَ. فَقَالَ: (كَذَبَتْ وَهِيَ مُعَاوِدَةٌ لِلْكَذِبِ)، فَأَخَذَهَا. فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِكِ حَتَّى أَذْهَبَ بِكِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-،: فَقَالَتْ: إِنِّي ذَاكِرَةٌ لَكَ شَيْئًا، آيَةَ الكُرْسِيِّ، اقْرَأْهَا فِي بَيْتِكَ فَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ)؟ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَتْ، قَالَ: (صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ). (10)

5- آية الكرسي يحفظ الله بها عبده من الشيطان عند نومه: والدليل حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ،. . . وفيه: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: (مَا هِيَ)، قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ}، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ - وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ - فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: (أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)، قَالَ: لاَ، قَالَ: (ذَاكَ شَيْطَانٌ). (11)

6- من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت: والدليل حديث أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ). (12)

- تفسير الآية

هذه الآية مشتملة على عشرة محاور التي هي أعظم أصول الإسلام وهي:

- المحور الأول: تقرير انفراد الله جل وعلا بالألوهية دون سواه

وهذا في الجملة الأولى من الآية في قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}

فَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ. (13)

فالله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على جميع خلقه. وهَذَا الاسم أعظمُ أَسمَاء الله عز وَجل التِّسْعَة وَالتسْعين لِأَنَّهُ دَال على الذَّات الجامعة لصفات الإلهية كلهَا حَتَّى لَا يشذ مِنْهَا شَيْء، وَلِأَنَّهُ أخص الْأَسْمَاء إِذْ لَا يُطلقهُ أحد على غَيره لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا. (14)

{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} كلمة التوحيد التي تتضمن النفي والإثبات، نافية جميع ما يعبد من دون الله، مثبتة العبادة لله وحده، فلا معبود بحق إلا الله عز وجل.

فهذه الجملة تنفي نفيا قاطعا الألوهية الحقة إلا لمن يستحقها، وهو رب العالمين. { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]

{لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} كَلِمَةٌ قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَخُلِقَتْ لِأَجْلِهَا جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَبِهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ، وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَبِهَا انْقَسَمَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، فَهِيَ مَنْشَأُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ لَهُ الْخَلِيقَةُ، وَعَنْهَا وَعَنْ حُقُوقِهَا السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ، وَعَلَيْهَا يَقَعُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَعَلَيْهَا نُصِبَتِ الْقِبْلَةُ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ، وَلِأَجْلِهَا جُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، فَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَعَنْهَا يُسْأَلُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، فَلَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ: مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟.

فَجَوَابُ الْأُولَى بِتَحْقِيقِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " مَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا وَعَمَلًا.

وَجَوَابُ الثَّانِيَةِ بِتَحْقِيقِ " أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " مَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا وَانْقِيَادًا وَطَاعَةً. زاد المعاد لابن القيم (1/ 36)

المحور الثاني: إثبات جميع الكمالات لله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله

وذلك من خلال إثبات اسمي ( الحي القيوم ) وصفتي الحياة والقيومية

كان ابن عباس -رضي الله عنهما-، يقول: أعظم أسماء الله عزّ وجلّ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. (15)

قال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: عَلَى هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مَدَارُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى كُلِّهَا، وَإِلَيْهِمَا تَرْجِعُ مَعَانِيهَا. فَإِنَّ الْحَيَاةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، ولَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا صِفَةٌ مِنْهَا إِلَّا لِضَعْفِ الْحَيَاةِ، فَإِذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ - تَعَالَى - أَكْمَلَ حَيَاةٍ وَأَتَمَّهَا، اسْتَلْزَمَ إِثْبَاتُهَا إِثْبَاتَ كُلِّ كَمَالٍ يُضَادُّ نَفْيُهُ كَمَالَ الْحَيَاةِ.

وَأَمَّا"الْقَيُّومُ"فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ كَمَالَ غِنَاهُ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ الْقويمُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَلَا قِيَامَ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِإِقَامَتِهِ. فَانْتَظَمَ هَذَانِ الِاسْمَانِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَتَمَّ انْتِظَامٍ. (16)

قال تعالى مخاطبا نبيه -صلى الله عليه وسلم-، { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] وقال سبحانه{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]

وقال تعالى { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، كَانَ يَقُولُ: ( أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ). (17)

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قال للناس عند وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،: أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ. (18)

والقيوم: كامل القيومية، وله معنيان:

1 - هو الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع خلقه ودليله قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.

2 - وهو الذي قامت به السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات، ودليله قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}. (19)

وَاقْتِرَانُ اسم القيوم باسم الْحَيِّ يَسْتَلْزِمُ سَائِرَ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا وَدَوَامِهَا، وَانْتِفَاءِ النَّقْصِ وَالْعَدَمِ عَنْهَا أَزَلًا وَأَبَدًا. (20)

المحور الثالث: نفي جميع صفات النقص عن الله وإثبات كمال ضدها له سبحانه.

وذلك متمثل في قوله تعالى{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}

 فهاتان صفتان سلبيتان، منفيتان عن الله لإثبات كمال ضدهما وهما كمال حياته سبحانه وقيوميته، وهذا مسلك أهل السنة مع جميع الصفات السلبية التي وردت في القرآن والسنة.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ.

فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ: يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ؛ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. (21)

وَمعنى السِّنَة: النُّعَاسُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَالنُّعَاسُ مَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ فَإِذَا صَارَ فِي الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا. (22)

فَقَوْلُهُ: {لَا تَأْخُذُهُ} أَيْ: لَا تَغْلِبُهُ سِنَةٌ وَهِيَ الْوَسَنُ وَالنُّعَاسُ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا نَوْمٌ} لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّنَةِ. (23)

والإنسان وغيره من المخلوقات محتاج إلى الله في يقظته ونومه، لكن الخالق المتصف بالقيومية وتلك الصفة تنافي السنة والنوم، لأنه - عز وجل - لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه-، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: (( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةِ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ )). (24)  فالله مُنَزَّهٌ عَنْ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ كَمَا لَا يَمُوتُونَ. (25)

المحور الرابع كمال ملك الله تعالى وسلطانه وتقرير ذلك في قوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }.

واللام في قوله ( له ) للملك فهو سبحانه يملك كل شيء ملكا تاما، وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم، وكل ما حقه التأخير إذا تقدم فهو يفيد الحصر، فبذلك يكون سبب تقديم الخبر حصر ملكية السماوات والأرض وما فيهن لله - عز وجل - دون سواه، لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته. (26)

ففي هذه الآية إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْجَمِيعَ عَبِيدُهُ وَفِي مُلْكِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}. (27)

ويتفرع على كون الملك لله ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه. (28)

المحور الخامس بيان عظمة الله تعالى وكبريائه وقهره لجميع خلقه وتقرير ذلك في قوله تعالى{ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} والمعنى أي: لا أحد يشفع عنده بدون إذنه، فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن. (29)

وفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْفَعَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِشَفَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَالتَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ لَهُ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. (30)

وهذا كَقَوْلِهِ تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْمِ: 26] وَكَقَوْلِهِ: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَهَذَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ. (31)

فَنَفْيُ الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إذْنِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ مُلْكِهِ؛ وغناه عن خلقه، وافتقار الخلائق جميعا له، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي )). (32)

 وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالشَّفَاعَةِ إلَيْهِ فَكَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ يَقُولُ: {اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ} أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ وَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُمْ يُؤْجَرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَهُوَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. (33)

ومعنى الشفاعة: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. (34)

وهي نوعان: 1 - شفاعة مثبتة. 2 - وشفاعة منفية.

أما المثبتة: فهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد وهي مقيدة بأمرين:

1 - إذن الله للشافع أن يشفع. 2 - رضاه عن المشفوع له. (35)

لذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-، صاحب المقام المحمود الذي سيحمده عليه جميع الخلائق في عر صات القيامة عندما يطلب الخلائق منه أن يشفع لهم لبدء الحساب، فيخرُّ تحت العرش ويحمد الله بمحامد يفتح الله عليه بها ويستأذن ربه في الشفاعة فيأذن له.

وأخبر -صلى الله عليه وسلم-، أنه قد ادخر دعوته للشفاعة يوم القيامة، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا). (36)

والشفاعة المنفية: ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. ونردُّ بهذا على الخوارج والمعتزلة الذين ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن مذهبهما أن فاعل الكبيرة مخلد في النار لا تنفع فيه الشفاعة. (37)

المحور السادس إِحَاطَة عِلْمِ الله تعالى بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَذلك في قَوْله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.

إنه العلم المحيط الشامل الكامل يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] معهم أينما كانوا بعلمه، بقدرته، بإرادته، بإحاطته، بقهره.

قال ابن كثير -رحمه الله-: وفي هذا دَلِيلٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ: مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا كَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. (38)

وعِلمُ الله - جل وعلا - علم محيط بكل شيء فهو العليم الذي أحاط علمه بالعلم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، قال تعالى {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]

وقال تعالى{ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]

فالله - سبحانه وتعالى - يعلم ما كان وما سيكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم أحوال المكلفين قبل إنشائهم وحين أنشأهم وبعد مماتهم وبعدما يحييهم، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. (39)

وبهذا نستطيع الرد على القدرية الغلاة؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت. (40)

المحور السابع عجز العباد عن أن يحيطوا بشيء من علم الله إلا بمشيئته وَتقرير ذلك في قَوْله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ}

 أَيْ: لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ إلا بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طَهَ: 110]. (41)

فلما بيَّن سبحانه قهره لهم بعلمه، بين عجزهم عن كل شيء من علمه إلا ما أفاض عليهم بعلمه فقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ}. أي قليل ولا كثير {مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}. فبان بذلك ما سبقه، لأن من كان شامل العلم ولا يعلم غيره إلا ما علمه كان كامل القدرة، فكان كل شيء في قبضته، فكان منزها عن الكفؤ متعاليا عن كل عجز وجهل، فكان بحيث لا يقدر غيره أن ينطق إلا بإذنه لأنه يسبب له ما يمنعه مما لا يريده. (42)

 فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ لَيْسَ إِلَّا أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالتَّعْلِيمِ، فَهُوَ الْعَالِمُ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا بِتَعْلِيمِهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]

وقال الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام (( يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ )). (43)

وقال مخاطباً مُعَلِّمَ البشرية -صلى الله عليه وسلم-، { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]

وقال سبحانه ممتناً على جميع خلقه{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78]

 وبيَّن سبحانه أنه علَّم الإنسان ما لم يكن يعلم فقال { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5]

واختصَّ الله جل وعلا نفسه بعلم بعض الأشياء لم يطلع عليها أحداً من خلقه ليبين لهم عجزهم وعدم قدرتهم على إدراك علم شيء لم يعلمهم إياه، فقال تعالى{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]

وكما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: (( فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)). ثُمَّ تَلاَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآيَةَ. (44)

المحور الثامن: عِظمُ المخلوقات يدلُّ على عظمة الخالق وتقرير ذلك في قوله تعالى{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي شمل، وأحاط، كرسيه بالسماوات والأرض.

فسبحان الخالق العظيم الذي خلق وأبدع هذه المخلوقات العظيمة التي لا يستطيع العقل تصور قدرها ولا الإحاطة بها فما ظنك بمن خلقها؟! ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَقَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلَقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلَقَةِ). (45)

قال الألباني -رحمه الله-: وهذا الحديث صريح في كون الكرسي أعظم المخلوقات بعد العرش، وأنه جرم قائم بنفسه وليس شيئا معنويا. وفيه ردٌّ على من يتأوله بمعنى الملك وسعة السلطان، كما جاء في بعض التفاسير. وما روي عن ابن عباس أنه العلم، فلا يصح إسناده إليه. (46)

 وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: لَوْ أن السموات السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ ثُمَّ وُصِلْنَ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سِعَةِ الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ فِي الْمَفَازَةِ. (47)

وهذا يدل على كمال عظمة الله وسعة سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب. (48)

المحور التاسع كمال قوة الله وقدرته وأنه منزه عن العجز والتعب وتقرير ذلك في قوله تعالى{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حفظُهما. وهذا دليل على أن السموات، والأرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}؛ ولولا حفظ الله لفسدتا وزالتا؛ لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [فاطر: 41]

وقال تعالى{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]

تأمل مدى قوة الله وقدرته، هذه القوة والقدرة التي أمسك بها السماء التي مسيرة سمكها خمسمائة عام، أن تزول أو تقع على الأرض، وهي ليست سماء واحدة بل سبع سماوات. . . . حقاً{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. (49)

* فيا مَنْ سلكتَ طريقَ الهداية ثِقْ تماماً أن الذي حفظ السماوات والأرض من الزوال بقدرته، قادر على حفظ عبده من كيد أعدائه: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36، 37]

* و يا مَنْ سلكت طريق الغواية، وتجرأت على الحرمات، أتدري أنك تعرض نفسك لسخط مِنْ؟ أُحَذِّرُك ونفسي من عذاب الله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]

المحور العاشر: إثبات العلو لله تعالى بكل أنواعه وتقرير ذلك في قوله تعالى{ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}

{وهو العلي} بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته {العظيم} الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء. (50)

وعلوّ الله عند أهل السنة، والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه سبحانه نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ وتفصيل هذه الأدلة في كتب العقائد.

والقسم الثاني: علو الصفة: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال.

وإثبات العلو يتضمن الرد على الحلولية، وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية قالوا: إنه ليس بعالٍ؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا: لا يوصف بعلو، ولا سفل، ولا يمين، ولا شمال، ولا اتصال، ولا انفصال. (51)

وهو سبحانه مع علوه على عرشه فوق سماواته، فهو قريب من عباده محيط بهم يرى أعمالهم ويسمع سرهم ونجواهم، لا تخفى عليه خافية من أمرهم.

وأخيرًا: فهذه آية الكرسي، أعظم آية في كتاب الله، احفظها، حافظ على تلاوتها صباحا ومساء وعند نومك، تدبر معانيها وما فيها من صفات الله العظيمة وأسمائه الحسنى الكريمة حتى يزداد بذلك إيمانك بالله ويشتد تعظيمك له ولكتابه، ويحفظك الله بها في الدنيا من الشياطين، ويرفع درجتك بها في الآخرة في المهديين.

---

(1) دروس الشيخ محمد إسماعيل المقدم (3/ 1)

(2) تفسير السعدي (ص: 110)

(3) مجموع الفتاوى (17/ 130)

(4) تفسير القرطبي (3/ 268)

(5) رواه ابن ماجه (3856) والحاكم في المستدرك (1/ 684) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 371)

(6) رواه مسلم (810)

(7) رواه النسائي في الكبرى (10730) والحاكم (1/ 749) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 188)

(8) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 170)

(9) (السهوة) بفتح السين المهملة: هي الطاق في الحائط يوضع فيها الشيء. وقيل: المخدع بين البيتين. وقيل: هو شيء شبيه بالرف. وقيل: بيت صغير كالخزانة الصغيرة.

الغُولُ: أحَدُ الغِيلَان، وَهِيَ جِنْس مِن الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، كَانَتِ العَرب تَزْعُم أَنَّ الغُول فِي الفَلاة تَتَرَاءَى لِلنَّاسِ فتَتَغَوَّلُ تَغَوُّلًا: أَيْ تَتَلَوّن تلَوُّنا فِي صُوَر شَتَّى، وتَغُولُهم أَيْ تُضِلُّهم عَنِ الطَّرِيقِ وتُهْلِكهم، فَنَفاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبْطَله بقَوْله (لَا غُولَ). ومعنى قَوْله (لَا غُولَ) لَيْسَ نَفْياً لعَين الغُول ووجُودِه، وَإِنَّمَا فِيهِ إِبْطَالُ زَعْم الْعَرَبِ فِي تَلَوُّنه بالصُّوَر المخْتِلَفة واغْتِيَالِه، فَيَكُونُ المعْنى بِقَوْلِهِ (لَا غُولَ) أنَّها لَا تَسْتَطيع أَنْ تُضِلَّ أحَداً. النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 396)

(10) رواه الترمذي (2880) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 187)

(11) رواه البخاري (2311)

(12) رواه النسائي (9848) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1103)

(13) تفسير ابن كثير (1/ 678)

(14) المقصد الأسنى للغزالي (ص: 61)

(15) تفسير الثعلبي (2/ 230)

(16) شرح الطحاوية  (ص: 78)

(17) رواه مسلم (2717)

(18) رواه البخاري (4454)

(19) مجلة البحوث الإسلامية (82/ 97)

(20) شرح الطحاوية (ص: 78)

(21) مجموع الفتاوى (3/35 - 36) باختصار

(22) تفسير القرطبي (3/ 272)

(23) تفسير ابن كثير(1/ 678)

(24) رواه مسلم (179)

(25) مجموع الفتاوى (9/ 181)

(26) مجلة البحوث الإسلامية (82/ 102)

(27) تفسير ابن كثير(1/ 679)

(28) تفسير العثيمين (3/ 258)

(29) تفسير السعدي (ص: 110)

(30) فتح القدير للشوكاني (1/ 311)

(31) تفسير ابن كثير (1/ 679)

(32) رواه مسلم (2577)

(33) مجموع الفتاوى (17/ 109)

(34) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 330)

(35) مجلة البحوث الإسلامية (82/ 106)

(36) رواه البخاري (6304) ومسلم (199)

(37) تفسير العثيمين (3/ 260)

(38) تفسير ابن كثير (1/ 679)

(39) مجلة البحوث الإسلامية (82/ 114)

(40) تفسير العثيمين (3/ 260)

(41) تفسير ابن كثير(1/ 679)

(42) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي(4/ 33)

(43) رواه البخاري (122)

(44) رواه البخاري (50) ومسلم (9)

(45) رواه أبو الشيخ في كتابه العظمة (2/ 649) وأبو نعيم في الحلية (1/ 166) والبيهقي في الأسماء والصفات (862) وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (1/ 223)

(46) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 226)

(47) تفسير ابن كثير (1/ 680)

(48) تفسير السعدي (ص: 110)

(49) رواه البخاري (4811) ومسلم (2786)

(50) تفسير السعدي (ص: 110)

(51) تفسير العثيمين (3/ 262)