شعبان الخير

شعبان الخير

سبب التسمية

حال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- والسلف في شعبان

ليلة النصف من شعبان

مسائل متعلقة بالشهر

مقدمة: إِنَّ مِنْ رحمة الله بعباده أن يَسَّر لهم مواسم الخيرات والطاعات، وجعل لهم في أيامه نفحات ليتعرض لها العباد، ويرجع العاصون المذنبون لحظيرة الطاعة، ويتوبوا إلى الله - عز وجل -، فتشملهم رحمته، ومغفرتُه، وها نحن قد أَظَلَّتنا مواسم المغفرة، ومواسم الطاعات، وها هي الشهور المباركة تُهِلُّ علينا، وكأنها تَصِيح بنا: أَنْ تَجَهَّزوا فَقَد قَرُبَ مجيء الحبيب!!

فقد دخل شهر شعبان، وهو شهر له خصوصيته عند النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وله تعظيمه الذي ينبغي على المؤمنين أن يُعَظِّموه مثلما عَظَّمه النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.

- سبب تسميته شعبان؟

شعْبَان من الشّعب، وَهُوَ الِاجْتِمَاع، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يتشعب فِيهِ خير كثير كرمضان، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يتشعبون فِيهِ (أي يتفرقون) إما فِي طلب الْمِيَاه وإما لتشعبهم فِي الغارات وإما لقصد الْمُلُوك والتماس الْعَطِيَّة. (1)

- حال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في شعبان:

عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاُ-، قالت: (( كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ)). (2)

وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاُ-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: ((يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ )). (3) وفي لفظ: (( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا )). (4)

قال ابن الْمُبَارَكِ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ. (5)

قال ابن حجر -رحمه الله-: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ. (6)

قال ابن رجب -رحمه الله-: وإنما صيام النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور. (7)

قال الصنعاني -رحمه الله-: في الحديث دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَخُصُّ شَعْبَانَ بِالصَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. (8)

الحكمة من كثرة صيامه -صلّى الله عليه وسلّم- في شعبان:

عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: (( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )). (9)

وقد ذكر منها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث أسامة معنيين:

أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان

وذلك لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام (رجب) وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك. (10)

وفي قوله: (( يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان))

إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.

- وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوب لله عز وجل.

ولهذا المعنى كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: (( مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرَكُمْ )). (11)

- وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.(12)

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:

1- أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لاسيما الصيام فإنه سرٌ بين العبد وربه.

2- أنه أشقُّ على النفوس: وأفضل الأعمال أشقها على النفوس وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها ولهذا المعنى قال رَسُول اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ))، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (( بَلْ مِنْكُمْ )). (13) وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ )). (14)

وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )). (15) وفي لفظ: (( الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَيَّ )). (16)

وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه.

3- ومنها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم.

قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس. (17)

الأمر الثاني: أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله

- ورفع الأعمال إلى رب العالمين: على ثلاثة أنواع:

1- فعَمَل الْعَام يُرْفَع فِي شَعْبَان كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِق الْمَصْدُوق -صلّى الله عليه وسلّم-.

2- وَيُعْرَض عَمَل الْأُسْبُوع يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس كَمَا ثَبَتَ عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنه قال (( تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ )). (18)

3- وَعَمَل الْيَوْم يُرْفَع فِي آخِره قَبْل اللَّيْل وَعَمَل اللَّيْل فِي آخِره قَبْل النَّهَار، عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ )). (19)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: (( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ )). (20)

فأعمال العام كلها تُرفع إلى الله في هذا الشهر، فأحبَّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أن تُرفع الأعمال على أحسن أحوالها حال كونه صائما وذلك ادعى لعظم الثواب، وهو ما يسعى إليه المؤمنون تأسيًا واقتداءً بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم-.

الأمر الثالث: أنه بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض

قال ابن رجب -رحمه الله-: وأفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه. (21)

الأمر الرابع: أن صيام شعبان كالتمرين على صيام رمضان

 لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. (22)

- حال السلف مع القرآن في شهر شعبان

عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان.

 وقال سلمة بن كهيل -رحمه الله-: كان يقال شهر شعبان شهر القراء.

 وكان حبيب بن أبي ثابت -رحمه الله- إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء.

وكان عمرو بن قيس الملائي -رحمه الله- إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.

فيا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها.

- فضل ليلة النصف من شعبان

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ )). (23)

وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: (( يَطْلُعُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ )). (24)

ولنا مع هذه الأحاديث عدة وقفات مهمة:

الوقفة الأولى: أن الله يغفر فيها لكل عباده إلا المشرك:

 - فينبغي للمسلم أن يحذر من الشرك بجميع أنواعه صغيره وكبيره ظاهره وباطنه، ولا يأمن على نفسه أن يقع فيه وهو لا يدري، فإذا كان أبو الأنبياء وإمام الحنفاء خليل الرحمن يخشى على نفسه الشرك، بل يخشى على نفسه وعلى بنيه عبادة الأصنام، قال الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35] وقد بيَّن إبراهيم -عليه السلام- ما يوجب الخوف من ذلك فقال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } [إبراهيم: 36]

قال إبراهيم التيمي -رحمه الله-: مَنْ يَأْمَنُ مِنَ الْبَلَاءِ بَعْدَ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ. (25)

 فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، وبما يخلصه منه، قال تعالى لأحب خلقه إليه: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]

ولما كان الشرك خفيا احتاج العبد أن يستعيذ بالله من الوقوع فيه، عن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أن النَّبِيّ قَالَ: (( يَا أَبَا بَكْرٍ! لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ)). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ )). قَالَ: (( قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ)). (26)

الوقفة الثانية: خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس

فالله لا يغفر للمتشاحنين ما داموا كذلك، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-، قَالَ: (( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا )). (27)

 وقد وصف الله المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر: 10]

 قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ. (28)

وسيدُ القوم من يصفح ويعفو، فأقِلْ يا عبد الله عثرات إخوانك حتى يقيل الله تعالى عثرتك.

الوقفة الثالثة: حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان

ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في ليلة النصف من شعبان في المساجد وإحياء تلك الليلة فهذا من البدع المنكرة؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم-، لم يفعلوها ولم يأمروا بها، وهم أحرص منا على الخير، عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ -رحمه الله-، قَالَ: لَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ مَشْيَخَتِنَا وَلَا فُقَهَائِنَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ نُدْرِكْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَرَى لَهَا فَضْلًا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ اللَّيَالِي. (29)

وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ -رحمه الله-، أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَجْرُهَا كَأَجْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: لَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ وَبِيَدِي عَصًا لَضَرَبْتُهُ بِهَا. (30)

فهذا هو الحق والصواب في هذه الليلة، أنه لا يجوز الاجتماع في المساجد لإحيائها، ولا يجوز تخصيصها بصلاة، ولا تخصيص يومها بصيام، وفي الثابت من الأحاديث في غير هذه الليلة غنية وكفاية لمن أراد الخير وسعى لتحصيله بصدق وإخلاص.

بعض المسائل المتعلقة بهذا الشهر

- قضاء ما عليه من الصيام قبل رمضان

من كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني ولا شيء عليه مع القضاء وإن كان ذلك لغير عذر فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا وهو قول مالك والشافعي وأحمد اتباعا لآثار وردت بذلك وقيل: يقضي ولا إطعام عليه وهو قول أبي حنيفة. (31)

- حكم الصيام إذا انتصف شعبان

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال والخلاصة: أنه يُنهى عن الصيام في النصف الثاني من شعبان إما على سبيل الكراهة أو التحريم، إلا لمن له عادة بالصيام، أو وصل الصيام بما قبل النصف.

والحكمة من هذا النهي أن تتابع الصيام قد يضعف عن صيام رمضان. (32)

- تعمد الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين لمن لم تكن له عادة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ)). (33)

وقوله (لا تقدموا رمضان) أي لا تتقدموه ولا تستقبلوه بصوم يوم أو يومين، ففيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له. (34)

- صيام يوم الشك

عن عَمَّار بن ياسر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ -صلّى الله عليه وسلّم-. (35)

قال ابن حجر -رحمه الله-: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ فَيَكُونُ مِنْ قبيل الْمَرْفُوع. (36)

أما لو صامه موافقة لعادته أو قضاء جاز

قال النووي -رحمه الله-: قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ. . . فَإِنْ صَامَهُ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كفارة أجزأه. . . . . لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ فَالْفَرْضُ أَوْلَى. (37)

---

(1) عمدة القاري (11/ 82).

(2) رواه أبو داود (2431)، والنسائي (2671)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 848).

(3) رواه البخاري (1969) ومسلم (1156)

(4) رواه البخاري (1970) ومسلم (1156)

(5) فتح الباري لابن حجر (4/ 214)

(6) فتح الباري(4/ 215)

(7) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 128)

(8) سبل السلام (1/ 583)

(9) رواه النسائي (2678) وحسنه الألباني في إرواء الغليل(4/ 103)

(10) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 130)

(11) رواه البخاري (566) ومسلم (638) من حديث عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاُ-.

(12) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 131)

(13) رواه ابن نصر في السنة (32) والطبراني (289) من حديث عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 892)

(14) رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.

(15) رواه مسلم (2948) من حديث معقل بن يسار -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.

(16) مسند أحمد (5/ 27) بإسناد صحيح

(17) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 132)

(18) رواه مسلم (2565) من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.

(19) رواه مسلم (179)

(20) رواه البخاري (555) ومسلم (632)

(21) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 129)

(22) لطائف المعارف (ص: 135)

(23) رواه ابن ماجه (1390) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 373)

(24) رواه ابن أبي عاصم في السنة (511) والطبراني (590) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 385) و رواه ابن أبي عاصم في السنة (509) عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، ورواه ابن حبان (5665) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.

(25) تفسير الطبري (13/ 687)

(26) رواه البخاري في الأدب المفرد (716) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص: 266)

(27) رواه مسلم (2565)

(28) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 140)

(29) البدع لابن وضاح (2/ 92)

(30) البدع لابن وضاح (2/ 92)

(31) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 134)

(32) موقع الإسلام سؤال وجواب (5/ 3272)

(33) رواه البخاري (1914) ومسلم (1082)

(34) شرح النووي على مسلم (7/ 194)

(35) رواه أبو داود (2334) والترمذي (686) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (7/ 98)

(36) فتح الباري لابن حجر (4/ 120)

(37) المجموع شرح المهذب (6/ 399)