هكذا تكون المواعظ

هكذا تكون المواعظ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعد،

فمن خصائص مواعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- تغير حاله عندها، واشتداد غضبه بذكرها، وتأثره عند إلقائها.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، واشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: "صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ"، وَيَقُولُ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ"، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى، وَيَقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" ثُمَّ يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ"(1).

فانظر رحمك الله إلى هذه الهيئة النبوية إبّان خطبته الشريفة البهية كيف كان متهيبًا لها، معظمًا لشأنها، غاضبًا كأن العدو على أبواب المدينة قادمًا لمحوها.

قال النووي: يستحب للخطيب أن يُفخِّم أمر الخطبة ويرفع صوته ويجزل كلامه ويكون مطابقا للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب أو ترهيب.

وقال القرطبي في المفهم: وهذا مُشعر بأن الواعظ حقُّه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه ، حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه.

وقد نقل عنه الصحابة هذه الحالة في غير موعظة وكأن هذا كان ديدنه -صلى الله عليه وسلم- ،

عَنْ عَلِيٍّ، أَوْ عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُنَا فَيُذَكِّرُنَا بِأَيَّامِ اللهِ، حَتَّى نَعْرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَأَنَّهُ نَذِيرُ قَوْمٍ يُصَبِّحُهُمِ الْأَمْرُ غُدْوَةً، وَكَانَ إِذَا كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِجِبْرِيلَ لَمْ يَتَبَسَّمْ ضَاحِكًا حَتَّى يَرْتَفِعَ عَنْهُ"(2)

وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".(3)

قال الخطابي:  يقال: أشاح الرجل بوجهه, إذا صرف وجهه عن الشيء فعل الحذر منه الكاره له, كأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يراها ويحذر وهج سعيرها, فنحى وجهه عنها, والشياح: الحذار(4)

هل يمكن أن يقع هذا التأثر في الموعظة لرجل لا يفهم ما يعظ به، أو يعظ بما لا يعمل به ، أو يحدث لمن أملي عليه الوعظ ليصعد على المنبر كالببغاء يقرأ ما يملى عليه 

عن عمر بن ذر أنه قال لوالده "يا أبي! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بنى! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة .

الوعظ بمثابة السياط تضرب القلوب وتحييها وكلما كان الضب أقوي كان التأثر أعلى وأبقى . ولهذا كان تغير الحال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة الوعظ ثم بعده كأنما سري عنه

"إنما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن ثابت القلب قوي الذراعين فيؤلم ضربه فيردع فأما من هو سقيم البدن لا قوة له فماذا ينقع تأديبه بالضرب.

كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئًا،

 وكان سفيان الثوري يتعزى بمجالسه عن الدنيا، وكان أحمد لا تذكر الدنيا في مجلسه ولا تذكر عنده، قال بعضهم: لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى

القلب فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى.

 قال بعض السلف: إن العالم إذا لم يرد بموعظة وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.

كان يحيى بن معاذ ينشد في مجالسه:

مواعظ الواعظ لن تقبلا          حتى يعيها قلبه أولا

يا قوم من أظلم من واعظ             قد خالف ما قاله في الملا

أظهر بين الناس إحسانه            وبارز الرحمن لما خلا"(5)

ولهذا يجب أن يعلم الواعظون أنهم بمثابة الأطباء للقلوب، والمعالجين لأمراض الأمم والشعوب، وحراس الشريعة من أصحاب الفتن واللغوب، فلا يصعدون المنابر للمال والأجور بل للدعوة ونيل مرضاة علام الغيوب

فهل آن للمنابر أن تنفض هذا البرود وتقصي هذا الجمود ,كي يستشرف الناس الوعظ بلهفة المودود، وإصغاء الملهوف، ووجل المنكوب، وخشوع المنكسر المكروب

فيرى الناس في الموعظة تفريج الهم ورفع الغم، وتنشط نفوسهم بعد سماعها للإقبال على الحق والإعراض عن الباطل وإن دق، فيتلهفون على السماع في الجمعات وفي أعقاب الصلوات وعند المصائب الملمات، وهذا لن يكون إلا إذا عادت للموعظة حرارتها ونفض الدعاة عنها رتابتها وأبدع الواعظون وأتقنوا مهارتها، وعملوا بمقتضاها وتذوقوا حلاوتها، عندها يقود الدعاة إلى الله الأمة إلى رفعتها .

فاللهم وفق دعاة الحق إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد آمين

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

كتبه

أحمد بن سليمان

---

(1) صحيح مسلم (867)

(2) أخرجه أحمد في مسنده (1437) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله

(3) متفق عليه

(4) أعلام الحديث (3/3173)

(5) لطائف المعارف لابن رجب