المجاهرة بالمعاصي والمنكرات

المجاهرة بالمعاصي والمنكرات

حقيقة المجاهرة       صورها         مخاطرها        سبل الوقاية منها

مِنْ الظلمِ أن يُسيءَ المرْءُ إلى من أحسن إليه، وأن يعصيه في أوامره، وأن يخالف تعاليمه. . ويزدادُ هذا القبحُ وذلك الظلمُ حين يُعلن المرءُ مخالفته ويُجاهر بها، ولا يبالي ولا يخاف ولا يستحي من ربه الذي يراه ويسمعه، وهو الذي أحسن إليه وجاد عليه وتكرّم وتفضل سبحانه، لذلك كانت العاقبة وخيمة، عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ )).(1)

إنها المجاهرة بالمعاصي والمنكرات. بلية عُظمى، ورَزية كُبْرَى؛ أن يتبجّحَ المرء بمعصيته لله عز وجل، ويُعلنها صريحة مدوية بلسان حاله ومقاله، ناسياً أو متناسياً حق الله وفضله عليه

- تعريف المجاهرة وبيان حقيقتها

 المجاهرة بالمعاصي والمنكرات 1-: أن يرتكب الإنسان الإثم علانية، ويقع في المعصية جهارا، أمام أعين الناس وأنظارهم، بدون حياء ولا خجل.

2- أو: أن يرتكبَ المرء المعصية سرّا فيسترُه الله عزّ وجلّ، ولكنّه يُخبرُ الناس بما ارتكبه من الذنب والإثم، مستهينا بستر الله له. (2)

ويخرج عن حد المجاهرة، إن وقعتِ المجاهرة من الإنسان على وجه السؤال والاستفتاء أو لمصلحة، فإنَّ ذلك يجوز بدليل خبر من واقع امرأته في رمضان فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليه. (3)

- بعض صور ومظاهر المجاهرة

- أن يتحدث المرء أمام الناس ويتفاخر بما عمل من معاص ٍوآثام وقد بات يستره الله ثم يصبح مجاهراً مفتخراً بمعصيته لربه.

- التخلف عن الصلاة مع الجماعة - مع القدرة عليها -  فتراهم يمارسون أعمالهم وربما يتسكعون في الشوارع ويجلسون على المقاهي وقت صلاة الجماعة ولا يبالون لذلك.

- ومنها ما يُشاهد من بعض الشباب المسلم من التشبه بالغرب وتقليدهم في الكلام اللباس وقصات الشعور والحركات وما شابه ذلك حتى صار بعضهم يفتخر بذلك.

- التلفظ بالألفاظ النابية كالسب والشتم والقذف جهارا نهارا.

- ومنها شرب الدخان والمخدرات ورفع صوت الغناء والموسيقى جهارا في شوارع المسلمين.

- ومن صور المجاهرة الدعوة إلى المعاصي والكبائر والإعلان عنها وإذاعتها عبر القنوات والمجلات.

- ومنها ما تقوم به بعض النساء هداهن الله حيث تخرج من بيتها متبرجة متزينة متعطرة مظهرة لمحاسنها أمام الرجال الأجانب عنها.

- عقوبات ومخاطر المجاهرة بالمنكرات

أولاً: استحقاق العذاب في الدنيا والآخرة لمن جاهر بالمعاصي وأصرّ عليها

وفي ذلك يقول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ }. [النور: ١٩]

فالآية وإن كان لها سبب خاص، إلَّا أنَّ العبرة بعموم لفظها، فتعمُّ كلَّ من يُشيع الفواحش في المجتمع، مُنافقاً كان أو مؤمناً، وتعليق الوعيد على محبَّة الشياع دليل على أنَّ إرادة الفسقِ فسقٌ، فمن يجهر بإشاعة الفاحشة ونشرها والترويج لها يستحِقُّ العذاب في الدُّنيا، وهو الحدُّ أو التعزير، وعذاب النار في الآخرة، وهو خاصّ بالمنافقين، لأنَّ الحدَّ كفارة للمؤمنين. (4)

قال السعدي رحمه الله-: فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟ وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة. (5)

عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا، إِلاَّ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ )). (6)

فظهور الفاحشة والمجاهرة بها يورث استحقاق العذاب والعقوبة.

 ثانياً: انتشار الأمراض والآفات التي لم تكن تظهر فيمن مضى

وهذا ما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، (( لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. . . )). (7)

 وما نراه الآن في عصرنا من الأمراض التي لم يعرفها السابقون خير شاهد على صدق نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

 ثالثاً: عموم العقوبة عند انتشار الفواحش وظهورها بين الناس

عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ -رضي الله عنها-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: (( لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ )). وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (( نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ )). (8)

فالمحن والعقوبات الربَّانية التي تحلُّ بسبب ظهور الفواحش والمنكرات في المجتمعات لا تخصُّ أصحاب المعاصي فحسب، بل تصيب كلَّ أفراد المجتمع، لأنهم لم يدفعوها، ويمنعوا ظهورها قال تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: ٢٥]

قال ابن كثير رحمه الله-: يُحَذِّرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِتْنَةً أَيِ: اخْتِبَارًا وَمِحْنَةً، يَعُمُّ بِهَا الْمُسِيءَ وَغَيْرَهُ، لَا يَخُصُّ بِهَا أَهْلَ الْمَعَاصِي وَلَا مَنْ بَاشَرَ الذَّنْبَ، بَلْ يَعُمُّهُمَا، حَيْثُ لَمْ تُدْفَعُ وَتُرْفَعُ. (9)

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمُّهُمُ الْعَذَابُ.(10)

وقال عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيزِرحمه الله-: كَانَ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا عُمِلَ الْمُنْكَرُ جِهَارًا اسْتَحَقُّوا كُلُّهُمُ الْعُقُوبَةَ. (11)

 لذلك حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يشيع الفساد فيعمهم الله بالعذاب

عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ  -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ )). (12)

سؤال: لماذا يعم العذاب مع أن الأصل ألا تزر وازرة وزر أخرى؟

الْجَوَابُ: أَنَّ النَّاسَ إِذَا تَظَاهَرُوا بِالْمُنْكَرِ فَمِنَ الْفَرْضِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، (13) فَإِذَا سَكَتَ عَلَيْهِ فَكُلُّهُمْ عَاصٍ. هَذَا بِفِعْلِهِ وَهَذَا بِرِضَاهُ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ الرَّاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ، فَانْتَظَمَ فِي الْعُقُوبَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. (14)

رابعاً: المجاهرة بالمعاصي تؤْذِنٌ بقرب الساعة وأهوالها

وهذا مما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبر أنه من علامات قرب الساعة، عن عَبْد اللهِ بْن عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالْمُتَفَحِّشَ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالتَّفَاحُشُ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَسُوءُ الْمُجَاوَرَةِ، وَحَتَّى يُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنَ الأَمِينُ )). (15)

 والمتفحِّش: هو الذي يتكلَّف سَبَّ النَّاس ويُفْحِشُ عليهم بلسانه، ويأْتي بالفاحشة المـَنْهيّ عنها، أو هو الذي يتكلَّف الفُحش في كلامه وفعاله مُتعمِّداً. (16)

خامسا: المجاهرة سبب لوقوع الخسف والمسخ في هذه الأمة

 عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( يَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ ))، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (( نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الخُبْثُ )). (17)

وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( فِي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ  وَقَذْفٌ ))، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: (( إِذَا ظَهَرَتِ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الخُمُورُ )). (18)

- لماذا خصتْ المجاهرة  بهذا الوعيد  الشديد

-  لأن في المجاهرة بالمعاصي نوعا من الاستخفاف بحق الله تعالى ورسوله وبشرعه وبالمؤمنين

كما قال تعالى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر: 67]، ولو أنهم عظَّموا الله - جل وعلا - وعرَفوا قدْره، لما استهانوا واستخفُّوا بتلك المعصية التي يبارزون الله تعالى بها.

قَالَ ابن بَطَّالٍ رحمه الله-: فِي الْجَهْرِ بِالْمَعْصِيَةِ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْعِنَادِ لَهُمْ. (19)

- وفي المجاهرة بالمعاصي دليل على قلة الحياء من الله

عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البدري -رضي الله عنه-، قال: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ، إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ )). (20)

وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ )). (21)

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ)).(22)

- سبب لانتشار المعاصي في المجتمعات

في المجاهرة بالمعاصي دعوة للناس إلى الوقوع فيها واستصغارها والاستهانة بها؛ فحين ترتكبُ المعاصي أمام أعين الناس ويُداوم أصحابُها على ارتكابها، يألفها الناس ويستصغرونها ويحتقرونها حتى تشيع وتنتشر، فيصعُبُ على المصلحين تغييرها وإزالتها.

عن بِلَال بْن سَعْدٍ رحمه الله- قال: إِنَّ الْمَعْصِيَةَ إِذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، وَإِذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُغَيَّرْ ضَرَّتِ الْعَامَّةَ. (23)

قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ رحمه الله-: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ. (24)

فالمعصية إن خفيتْ اقتصر أثرُها على فاعلها، أمَّا إن شاعت وانتشرت ولم يؤخذ على يد فاعلها فإنَّها تُجَرِّئُ ضعافَ النُّفوس والإيمان على الوقوع فيها ومحاكاتها.

 والذي يدعو الناس بحاله أو مقاله إلى الوقوع في المعصية، يتحمّلُ مثلَ أوزار من تأثر بدعوته واقتدى بأفعاله، إضافة إلى وزره وإثمه. فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا )). (25)

- سبل الوقاية من المجاهرة بالمعاصي والمنكرات

أضرارٌ كثيرة، ومخاطرُ جسيمة، نتيجةَ المجاهَرَةِ بالمعاصي والمنكرات. . فما السبيلُ إلى وقاية النفس من هذا الجُرم الكبير والإثمِ العظيم؟. .

أ- القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

ففي الكتاب والسنَّة ما يدل على وجوب ذلك بشروطه، فقال تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: ١٠٤]

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ)).(26)

  ب - الحرص على زيادة الإيمان  والانشغال بالعمل الصالح

 فمن قوي إيمانه وحسنت أعماله نجا من هذا الداء العضال الذي لا يليق بمؤمن عاقل يخاف الله ويرجو لقاءه، فعن عبد الله بن مسعود  -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ )). (27)

ج - تحقيق الخوف من الله تعالى، والحياء منه سبحانه

 فما من داء يصيب المرءَ في دينه إلا والخوفُ من الله علاجُه، والحياءُ من الله دواؤه. . فإذا سوّلتْ لك نفسُك أن تقعَ في معصيةٍ أو تدعوَ الناس إليها، فتذكرْ أن الله يسمعك ويراك، وتذكر أنك ستقف بين يديه وحيدا فريدا، لا أحدَ يغني عنك من الله شيئا. فأين خوفك من الله؟. وأين حياؤك من الله؟. والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ )). قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (( لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ )). (28)

د - استحضار موقف الحساب والوقوف بين يدي الله

عن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ:

{هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] )). (29)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). (30)

قال ابن حجر رحمه الله-: سِتْرُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسِتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ فَمَنْ قَصَدَ إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ فَلَمْ يَسْتُرْهُ وَمَنْ قَصَدَ التَّسَتُّرَ بِهَا حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَتْرِهِ إِيَّاهُ. (31)

 هــ - الحرص على صحبة الصالحين والبعد عن مصاحبة الفاسدين المفسدين

 فالمرءُ على دين خليله، والصاحبُ ساحب. . . فإياك أن تصاحب من يقودك إلى معصية، ويدعوك إلى منكر، فإنه لن يغني عنك من الله شيئا، وستندم على مصاحبته عند لقاء ربك.

قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]

 و- التخلق بخلق الستر

ينبغي للمسلِم إذا ابتُلي بالمعصية أن يستتر بستر الله، وأن يبادر بالتوبة النصوح، وأن يستر على أخيه، حتى لا تشيعَ الفاحشة، وينتشرَ المنكر، ويتجرّأ الناس على محارم الله عز وجل، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُوَةَِ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بشيء منها فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلْيَتُبْ إلَى اللهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ )). (32)

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). (33)

ي - هجرة الأرض التي يجاهر أهلها بالفواحش والمنكرات ولا يتمكَّن أهلُ الإيمان من تغييرها، قال تعالى { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]

قال القرطبي رحمه الله-: الْفِتْنَةُ إِذَا عُملت هَلَكَ الْكُلُّ. وَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَعَاصِي وَانْتِشَارِ الْمُنْكَرِ وَعَدَمِ التَّغْيِيرِ، وَإِذَا لَمْ تُغَيَّرْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ هِجْرَانُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَالْهَرَبُ مِنْهَا، رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: تُهْجَرُ الْأَرْضُ الَّتِي يُصْنَعُ فِيهَا الْمُنْكَرُ جِهَارًا وَلَا يُسْتَقَرُّ فِيهَا.(34)

وعن صفية بنت أبي عبيد ( زوجة ابن عمر ) قالت: زُلْزِلَتِ الْمَدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ-رضي الله عنه- حَتَّى فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ( يا أهل المدينة ) مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ وَاللَّهِ لَئِنْ عَادَتْ لَأَخْرُجَنَّ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ. (35)

قال ابن بطال رحمه الله-: خشى أن تصيبه العقوبة معهم. (36)

والحمد لله رب العالمين

---

(1) رواه البخاري (6069)

(2) راجع فتح الباري لابن حجر (10/ 487) وشرح رياض الصالحين لابن عثيمين (3/ 16)

(3) التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني (8/ 160)

(4) تفسير الرازي (23/ 345) وتفسير القرطبي (12/ 206) والبحر المحيط في التفسير لأبي حيان (8/ 23)

(5) تفسير السعدي (ص: 564).

(6) رواه أحمد (1/ 402) وابن حبان (4410) وحسنه الألباني  في صحيح الجامع (2/ 985).

(7) رواه ابن ماجه (4019) والحاكم في المستدرك (4/ 582) وحسنه الألباني في الصحيحة (1/ 218)

(8) رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)

(9) تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 37)

(10) تفسير القرطبي (7/ 391)

(11) رواه مالك في الموطأ (3636) وابن المبارك في الزهد (1/ 476)

(12) رواه الترمذي (2169) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1189)

(13) ومعلوم أن الإنكار درجات أولاها الإنكار باليد، وذلك لمن كان له ولاية على مرتكب المنكر كالسلطان أو من ينيبه عنه كوالي الحسبة وموظفيه كل بحسب اختصاصه وكذا المسلم مع أهله وولده، يلزمهم بأمر الله، ويمنعهم مما حرم الله، باليد إذا لم ينفع فيهم الكلام يقوم بهذا حسب الوسع والطاقة.

(14) تفسير القرطبي (7/ 393)

(15) رواه أحمد (2/ 162)  .

(16) شرح النووي على مسلم (15/ 78)

(17) رواه الترمذي (2185) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1355)

(18) رواه الترمذي (2212) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 787)

(19) فتح الباري لابن حجر (10/ 487)

(20) رواه البخاري (3484)

(21) رواه أحمد (3/ 165) والترمذي (1974) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 987)

(22) رواه البخاري (6118) ومسلم (36)

(23) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 475)

(24) تفسير ابن كثير(6/ 320)

(25) رواه مسلم (2674)

(26) رواه مسلم (49)

(27) رواه الترمذي (1977) وصححه الألباني في  سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 635)

(28) رواه الترمذي (2458) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 222)

(29) رواه البخاري (2441) ومسلم (2768)

(30) رواه مسلم (2590)

(31) فتح الباري لابن حجر (10/ 488)

(32) رواه الحاكم (4/ 425) والبيهقي (8/ 330) وصححه الألباني في  الصحيحة (2/ 268)

(33) رواه مسلم (2590)

(34) تفسير القرطبي (7/ 392)

(35) الفتن لنعيم بن حماد (2/ 620)

(36) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 26)