تأملات في آيات

مع  بعض آيات سورة ق

مع  بعض آيات سورة ق

عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: مَا أَخَذْتُ ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، إِذَا خَطَبَ النَّاسَ.(1)

لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقرأ هذه السورة كل جمعة على المنبر لولا أنها سورة عظيمة في حقائقها، ظاهرة في حجمها، تأخذ بمجامع النفوس، وتقرع القلوب المؤمنة بالله فتبرهن على عقيدة البعث والنشور، من المولد والوفاة، والمحشر والحساب، والثواب والعقاب، بإيضاح عجيب، وبسط دقيق.

قال ابن كثير -رحمه الله-: لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور، والمعاد والقيام، والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب. (2) وهذه بعض الوقفات الإيمانية من خلال تدبر هذه الآيات التي تحرك القلوب وتأخذ بالألباب وتهز المشاعر وتجري دمع العين.

قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق: 16]   ( حَبْلِ الْوَرِيدِ) هُوَ حَبْلُ الْعَاتِقِ وَهُوَ مُمْتَدٌّ مِنْ نَاحِيَةِ حَلْقِهِ إِلَى عَاتِقِهِ، وَهُمَا وَرِيدَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. (3)

يخبر الله تعالى، أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان، ذكورهم وإناثهم، وأنه يعلم أحواله، وما يسره، ويوسوس في صدره وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهو العرق المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه، حيث نهاه، أو يفقده، حيث أمره. (4)

- في الآية تنبيه وتحذير بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الله يعلم ما في ضمير الإنسان وما يدور في نفسه فمن باب أولى يعلم ويرى أعماله الظاهرة فليحذر الإنسان ولينتبه!

يقول حاتم الأصم -رحمه الله-: تَعَهَّدْ نَفْسَكَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: إِذَا عَمِلْتَ فَاذْكُرْ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَاذْكُرْ سَمْعَ اللَّهِ إِلَيْكَ، وَإِذَا سَكَتَّ فَاذْكُرْ عِلْمَ اللَّهَ فِيكَ. (5)

 وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِابْنِهِ: إِذَا دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى كَبِيرَةٍ، فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَاسْتَحِ مِمَّنْ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى الْأَرْضِ وَاسْتَحِ مِمَّنْ فِيهَا، فَإِنْ كُنْتَ لَا مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ تَخَافُ، وَلَا مِمَّنْ فِي الْأَرْضِ تَسْتَحِي، فَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي عِدَادِ الْبَهَائِمِ.

قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رحمه الله-: تُغْلِقُ بَابَكَ، وَتُرْخِي سِتْرَكَ، وَتَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ، وَلَا تَسْتَحِي مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي صَدْرِكَ، وَلَا تَسْتَحِي مِنَ الْجَلِيلِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. (6)

وَإِذَا خَلَوْتَ بِريبَةٍ في ظُلْمَةٍ. . . والنَّفْسُ داعِيَةٌ إلى الطُّغيان

فاستحي مِن نَظَر الإله وقُلْ لَهَا. . . إنَّ الَّذي خَلَقَ الظَّلامَ يَرَانِي(7)

والآيات المبينة لهذا المعنى في القرآن كثيرة جداً منها قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]

وقال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]

وقال تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } [الأحزاب: 51]

فإذا اطَّلع اللهُ على قلب الإنسان فرأى خيراً فحالُه ومآله إلى خير {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال: 70]

وقال تعالى عن أهل بيعة الرضوان: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح: 18]

وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن شهد بدراً (( لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ، أَوْ: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )). (8)   أما أصحاب القلوب المريضة فقد قال الله فيهم: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]

ومع سعة علم الله تعالى وإحاطته بخلقه إلا أنه سبحانه وكَّل بكل إنسان منهم ملكان يحصيان عليه أعماله قال تعالى { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 17 - 18]

(الْمُتَلَقِّيانِ) قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَلَكَانِ يَتَلَقَّيَانِ عَمَلَكَ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ يَكْتُبُ حَسَنَاتِكَ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِكَ. (9)

قال سبحانه: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 10 - 12]

وقال {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]  أي: ملائكتنا عندهم يكتبون.

وقال تعالى { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 28، 29]

وكأن الحكمة من أمره سبحانه وتعالى للحفظة بكتابة الأعمال حكم آخر كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة كما وضحه الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء: 13، 14]

- وفي الآيتين تنبيه وتحذير من خطر اللسان، فما من لفظةٍ يتلفظ بها الإنسان إلا وهي مسطورة محفوظة، فكم من كلمة رفعت قائلها درجات وكم من كلمة أوبقت في المهلكات والدركات، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ )). (10)

ثم انتقل سياق الآيات ليُذكِّر بالحقائق والأهوال التي يغفل عنها الكثير من الناس وهم ملاقوها لا محالة، كان الحَسَن بْن صَالِحٍ -رحمه الله-، إذا صلى الْفَجْر جلس يتذكر الموت وأهوال الآخرة ثم يقول: وَا أَهْوَالَاهُ فَلَوْ كَانَ هَوْلًا وَاحِدًا لَكَفَى، وَلَكِنَّهَا أَهْوَالٌ شَتَّى، ثُمَّ يبكي. (11)  قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق: 19 - 22]

قال الله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ). لماذا عبَّر عن مجيئ سكرة الموت بالفعل الماضي والكلام موجه للأحياء وليس للأموات؟ لأن كل إنسان سيموت حتما، فقضية الموت حتمية لا مفر منها، ولأن الموت قريب جدا من كل إنسان، وأنه يأتي بغته بدون إنذار، وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ولا أجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك مستعدا لذلك.(12)

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أَيْ جاء الموت بغَمْرَته وَشِدَّته التي تُخمد الأجساد وتُسيطر على الألباب، قال الغزالي -رحمه الله-: اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبْدِ الْمِسْكِينِ كَرْبٌ وَلَا هَوْلٌ وَلَا عَذَابٌ سِوَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ بِمُجَرَّدِهَا لَكَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَتَنَغَّصَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ وَيَتَكَدَّرَ عَلَيْهِ سُرُورُهُ وَيُفَارِقَهُ سَهْوُهُ وَغَفْلَتُهُ. (13)

أين المفر من الموت؟ وكيف يكون حالك؟ وسكرة الموت، لم يسلم منها أحب الخلق إلى الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قالت: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ - أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: (( لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ )). (14)

وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الكرب، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ: وَا كَرْبَ أَبَتاهُ، فَقَالَ لَهَا: (( لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ )). (15)

وأما قوله { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ }. أَيْ يُقَالُ لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ذَلِكَ مَا كُنْتَ تَفِرُّ مِنْهُ وَتَمِيلُ عَنْهُ، والموت هو أشد ما يحاول الإنسان أن يهرب منه، أو يروغ عنه، وأنى له ذلك! فإذا جاء الأجل فلا مفر: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]

تفرُّ من الموت فإذا هو أمامك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجمعة: 8]

وإلى سكَّان القصور قال تعالى {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]

وبعد ذكر الموت وسكراته ينتقل السياق إلى ما هو أشد منه وأفظع، إنه مشهد البعث، وهول المحشر، ورهبة الحساب، { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) }. والمعنى: هَذَا الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْوَعِيدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ الْكُفَّارَ أَنْ يُعَذِّبَهُمُ فِيهِ.

إنها نفخة البعث والنشور قال تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 51 - 54]

إنه تصوير حي، وشاهد قائم لمشهد ينبغي للإنسان أن يستعد له ويعمل له ألف حساب، وانظر إلى حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وشدة إشفاقه من النفخ في الصور، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ وحَنَا الجَبْهَةَ وأَصْغَى السَّمْعَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ )) فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: كيف نصنع؟ فَقَالَ لَهُمْ: (( قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا )). (16)

قال الحارث المحاسبي -رحمه الله-: فيا هَولَ ذلك  اليوم، فما ظنُّك بيومٍ يُنادي فيه المصطفى آدمُ، والخليلُ إبراهيمُ، والكليمُ موسى، والروحُ والكلمةُ عيسى معَ كرامَتِهم على اللهِ عزَّ وجلَّ، وعِظَمِ قدْرِ منازِلهم عندَ الله عزَّ وجلَّ، كُلٌّ يُنادِي: (نفسي نفسي)، شَفَقاً مِنْ شِدةِ غضبِ رَبِّه، فأينَ أنتَ منهم في إشفاقِك في ذلك اليومِ واشتغالِك بِحزنِك وبخوفِك؟. (17)

{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }.

قال ابن القيم -رحمه الله-: يخبر الله سبحانه عن أَحْوَال الْخلق فِي هَذَا الْيَوْم وَأَن كل أحد يَأْتِي الله سُبْحَانَهُ ذَلِك الْيَوْم وَمَعَهُ سائق يَسُوقهُ وشهيد يشْهد عَلَيْهِ. (18)

قال الغزالي -رحمه الله-: تَوَهَّمْ نَفْسَكَ إذا قرَعَ سمْعَك النداءُ إلى العرضِ، فيكفيك تلك الروعة، إذ يُؤخذ بناصيَتِك فتُقادُ وفؤادُك مضطربٌ ولُبُّكَ طائرٌ وفرائِصُك مرتعدةٌ ولَونُك متغيرٌ، والعالَم عليك من شدةِ الهولِ مُظلمٌ؛ فَقَدِّرْ نفسَك وأنتَ بهذه الصفةِ تتخطَى الرِّقابَ وتَخترقُ الصفوف، وقد رَفَعَ الخلائقُ إليك أبصارَهم، فتوهَّمْ نفسَك أنك في أيدي الموكَلَينِ بك على هذه الصفة حتى انتُهىَ بك إلى عرش الرحمن فرمَوكَ مِن أيديهم وناداك اللهُ سبحانه وتعالى بعظيم كلامه: يا ابن آدم ادن منى فدنوت منه بقلب خافق محزون وجل وطرف خاشع ذليل وفؤاد منكسر وَأُعْطِيتَ كِتَابَكَ الَّذِي لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةَ إِلَّا أَحْصَاهَا فَكَمْ مِنْ فَاحِشَةٍ نَسِيتَهَا فتذكرتَها، وَكَمْ مِنْ طَاعَةٍ غَفَلْتَ عَنْ آفَاتِهَا فَانْكَشَفَ لك عن مساويها، فَلَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ قَدَمٍ تَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِأَيِّ لِسَانٍ تُجِيبُ وَبِأَيِّ قَلْبٍ تَعْقِلُ مَا تقول. (19)

{ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }

كنت في الدنيا غافلاً عن القيامة والوقوف بين يدي الله، فكشفنا عنك اليوم حجاب الغفلة، فبصرك اليوم قوي نافذ، فأبصرت الحق وأيقنت، ولكن هيهات هيهات فات الأوان، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12]

{وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} [ق: 23 - 26]

فالمقصود بالقرين هنا الْمَلَك الْمُوَكَّل بِعَمَلِ ابْنِ آدَمَ: أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا فَعَلَ

 يَقُول لمّا يحضرهُ هَذَا الَّذِي كنتَ وكّلتني بِهِ فِي الدُّنْيَا قد أحضرته وَأَتَيْتُك بِهِ هَذَا قَول مُجَاهِد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى هَذَا مَا كتبته عَلَيْهِ وأحصيته من قَوْله وَعَمله حَاضر عِنْدِي. وَالتَّحْقِيق أَن الْآيَة نتضمن الْأَمريْنِ أَي هَذَا الشَّخْص الَّذِي وكلت بِهِ وَهَذَا عمله الَّذِي أحصيته. (20)

ثم ذكر الله سبحانه صِفَات هَذَا الْمُلقى في النار فَذكر لَهُ سِتّ صِفَات:

 أَحدهَا: أَنه كفار لنعم الله وحقوقه كفار بِدِينِهِ وتوحيده وأسمائه وَصِفَاته كفّار برسله وَمَلَائِكَته كفار بكتبه ولقائه.

 الثَّانِيَة: أَنه معاند للحق بِدَفْعِهِ جحدا وعنادا. الثَّالِثَة: أَنه مناع للخير وَهَذَا يعم مَنعه للخير الَّذِي هُوَ إِحْسَان إِلَى نَفسه من الطَّاعَات والقرب إِلَى الله وَالْخَيْر الَّذِي هُوَ إِحْسَان إِلَى النَّاس فَلَيْسَ فِيهِ خير لنَفسِهِ وَلَا لبني جنسه كَمَا هُوَ الْحَال أَكثر الْخلق.

 الرَّابِعَة: أَنه مَعَ مَنعه للخير مُعْتَد على النَّاس ظلوم غشوم مُعْتَد عَلَيْهِم بِيَدِهِ وَلسَانه.

 الْخَامِسَة: أَنه مريب أَي صَاحب ريب وَشك وَمَعَ هَذَا فَهُوَ آتٍ لكل رِيبَة يُقَال فلَان مريب إِذا كَانَ صَاحب رِيبَة.

 السَّادِسَة: أَنه مَعَ ذَلِك مُشْرك بِاللَّه قد اتّخذ مَعَ الله إِلَهًا آخر يعبده وَيُحِبهُ ويغضب لَهُ ويرضى لَهُ وَيحلف باسمه وينذر لَهُ ويوالي فِيهِ ويعادي فِيهِ. (21)

{ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 27 - 30]

عند ذلك يقول القرين: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ }  وهو هنا على الأرجح الشيطان الموكل بملازمة الإنسان وإغوائه، يقول: ما كان لي عليه سلطان، بل هو الذي ضل وطغى بنفسه.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ )). قَالُوا: وَإِيَّاكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (( وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ )). (22)

وعن عُرْوَةَ بن الزبير، أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: (( مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟ )). فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ )) قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: (( نَعَمْ )) قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: (( نَعَمْ )) قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (( نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ )). (23)

وقد نقل الله في كتابه براءة الشيطان من اتباعه يوم القيامة فقال تعالى {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 22].

فيقول الله قوله الحق الذي يُنهي كل قول: { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }.

فالمقام ليس مقام اختصام فقَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلْتُ الْكُتُبَ، وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالْبَرَاهِينُ، فمَا قلته ووعدت بِهِ لَابُد من فعله وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عدل لَا ظلم فِيهِ وَلَا جور لكَمَال علمه سبحانه واطلاعه على أحوال خلقه وَكَمَال عدله.

ثم ينتهي المشهد بوصف رهيب لجهنم وهي تحترق وتفور، وتضطرب وتمور، { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }

إنها جهنم. . حرها شديد. . وقعرها بعيد. . يلقى فيها كل جبار عنيد. . وهي تنادي هل من مزيد، هل من مزيد. . المزيد من الكفرة والمنافقين. . المزيد من العصاة والمجرمين. .

 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (( لاَ تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلقى فيها وتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ )). (24)

ثم ينتقل سياق الآيات مباشرة من مشهد العذاب والجحيم إلى مشهد السرور والنعيم.

 {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) }

فالجنة تزلف وتقرّب لهم غير بعيد، فلا يتكلفون مشقة الوصول إليها، فالجزاء من جنس العمل، فكما أنهم كانوا يتكلفون مشقة السعي إليها في الدنيا فهي الآن تُقرَّب إليهم.

وأَهلها هم الَّذين اتصفوا بِهَذِهِ الصِّفَات الْأَرْبَع: إِحْدَاهَا: أَن يكون أوابا أَي رجَّاعاً إِلَى الله من مَعْصِيَته إِلَى طَاعَته وَمن الْغَفْلَة عَنهُ إِلَى ذكره.

 الثَّانِيَة: أَن يكون حفيظا لما ائتمنه الله عَلَيْهِ وافترضه، حَافظا لما استودعه الله من حقّه وَنعمته، ممسكا نَفسه عَمَّا حرّم عَلَيْهِ.

 الثَّالِثَة: قَوْله {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} يتَضَمَّن الْإِقْرَار بِوُجُودِهِ وربوبيته وَقدرته وَعلمه واطلاعه على تفاصيل أَحْوَال العَبْد ويتضمن الْإِقْرَار بكتبه وَرُسُله وَأمره وَنَهْيه ويتضمن الْإِقْرَار بوعده ووعيده ولقائه فَلَا تصح خشيَة الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ إِلَّا بعد هَذَا كُله.

 الرَّابِعَة: قَوْله {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} قَالَ ابْن عَبَّاس: رَاجع عَن معاصي الله مقبل على طَاعَة الله وَحَقِيقَة الْإِنَابَة عكوف الْقلب على طَاعَة الله ومحبته والإقبال عَلَيْهِ. (25)

وأما قوله: { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)}

قَالَ قَتَادَةُ: سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ.

فالجنة دار السلام: { لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 127]

وأهلها إذا دخلوها دخلوها بسلام: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر: 45 - 48]

ويسمعون فيها السلام والتسليم { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24]

وَأما قَوْلُهُ: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}    أَيْ: يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدًا، وَلَا يَظْعَنُونَ أَبَدًا، وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا. (26)

وإليك بعض الأحاديث التي تدل على خلود أهل الجنة في النعيم المقيم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ  فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ )). (27)

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( يُنَادِي مُنَادٍ ( أي أهلَ الجنة ): إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا )). (28)

وأما قوله { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }

فلأهل الجنة ما يشاءون في الجنة من النعيم بل وفوق ما يشاءون قال تعالى {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } )). (29)

وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه-، عن رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ "، قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: " {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] الْآيَةَ. )). (30)

وأما المزيد فهو أعظم نعيم أهل الجنة ألا وهو رؤية وجه الملك جل وعلا، عَنْ صُهَيْبٍ الرومي -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ )). (31)

فاللهم إنا نسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءٍ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

---

(1) رواه مسلم (873)

(2) تفسير ابن كثير (7/ 393)

(3) تفسير القرطبي (17/ 9)

(4) تفسير السعدي (ص: 805)

(5) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1102)

(6) تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي (ص: 478)

(7) مجموعة القصائد الزهديات (1/ 160)

(8) رواه البخاري (3007) ومسلم (2494) من حديث على بن أبي طالب  -رضي الله عنه-.

(9) تفسير القرطبي (17/ 9)

(10) رواه البخاري (6478)

(11) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا (ص: 207)

(12) تفسير القرطبي (13/ 348) و روح البيان (2/ 241)

(13) إحياء علوم الدين (4/ 461)

(14) رواه البخاري (6510) 

(15) رواه البخاري (4462)

(16) رواه أحمد والترمذي (2431) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 842)

(17) التوهم في وصف أحوال الآخرة (ص: 16)

(18) الفوائد لابن القيم (ص: 10)

(19) إحياء علوم الدين (4/ 519)

(20) الفوائد لابن القيم (ص: 10)

(21) الفوائد لابن القيم (ص: 11)

(22) رواه مسلم (2814)

(23) رواه مسلم (2815)

(24) رواه البخاري (6661) ومسلم (2848)

(25) الفوائد لابن القيم (ص: 12)

(26) تفسير ابن كثير (7/ 406)

(27) رواه البخاري (4730) ومسلم (2849)

(28) رواه مسلم (2837)

(29) رواه البخاري (3244) ومسلم (2824)

(30) رواه مسلم (189)

(31) رواه مسلم (181)