قل هو من عند أنفسكم

قل هو من عند أنفسكم

إن وصف الدواء لا يكون إلا بعد تشخيص الداء ومعرفة أسباب المرض، ولا يكون ذلك إلا بعد أن يعترف المريض بمرضه ثم يسعى في علاجه؛ وهذه قاعدة في أمراض الأجساد وأمراض القلوب بل وأمراض الأمم.

وإننا إذا نظرنا في واقع الناس فرأينا ضيقًا وضنكًا وفقرًا ومرضًا واختلافًا وتفرقًا فلنعلم أن كل ذلك عقوبات إلهية وآيات ربانية، وأن سر هذه الانتكاسات وسبب تلك العقوبات هو فعل المحرمات وترك المأمورات؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]

وإذا كان من رحمة الله تعالى أنه يضاعف الحسنات فمن مقتضى عدله سبحانه أنه يجازى على السيئة بمثلها {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [يونس: 27]

ومن هنا كان من شؤم المعاصي والمخالفات أنها تقلب العافية بلاًء والأمن خوفًا والنصر هزيمًة؛ ففي غزوة أحد كانت المعصية سببًا في تخلف النصر عن المسلمين، فبسبب معصية واحدة خولف فيها أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهب النصر بعد أن لاح في الأفق{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، فإذا كان هذا بسبب معصية واحدة فكيف بحال الناس اليوم وقد صار الإسلام غريبا بين أهله وأضحت السنة محل هجر وترك بل محل سخرية واستهزاء من أناس قد تسموا بأسماء المسلمين وعاشوا بين ظهرانيهم.

عموم العقاب الرباني إذا كثر الخبث

إن الفساد إذا كثُر وإن العصيان إذا ظهر وإن الخبَث إذا انتشر وإن الناس إذا سكتوا عن المنكر إذا ظهر فعله وعن المعروف إذا ظهر تركه فيوشك أن يعمَّ العذابُ الجميع، ولا يخصُّ الظالمين فقط

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]

وعن زينب بنت جحش-رضي الله عنها-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ" وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ"(1)

وعن عَائِشَة -رضي الله عنها-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ" قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ"(2)

وإن عموم العقاب الرباني عند كثرة الفساد والإفساد إنما هو محض عدل من الله ومحض تقصير وتفريط من الناس. قَالَ سُبحَانَهُ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]

وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]

ذلك أن المنهج الإسلامي قائم على التنويع بين المسئولية الفردية والجماعية فلا يلتزم المسلم بقيامه على حدود الله في نفسه فقط بل له دور في تقويم غيره.

عن  النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا(3)

أسباب العقوبات:

إننا إذا كان مستقرًا لدينا نحن المسلمين اعتقادُ عدل الله وحكمته فيما قضى وقدَّر فلنعلم أن الثواب والعقاب لا يكون بغير أسباب مؤدية إما إلى سعة وخير وبركة أو إلى ضيق وشر وشدة؛ وإننا إذا رأينا الواقع يشير إلى الأصناف الأخيرة فلنعلم أن لذلك أسبابًا منها:

1- التفسير المادي للآيات الكونية والعقوبات الربانية:

إن مما يؤسف له ألا يدرك الناس حكمة الآيات وعلة العقوبات، فتراهم يخضعونها للغة الأرقام الحسابية والقوانين الطبيعية؛ فلا تتحقق لديهم ثمرة إيمانية ولا يتأتى منهم رجوع إلى رب البرية، والله تعالى ما يرسل بالآيات إلا تخويفا لعباده وتذكيرا لهم بالرجوع والإنابة إليه.

قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]

وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]

وقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]

من أجل ذلك فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حرص على أن يربي أصحابه والأمة من بعدهم على إدراك مُراد الرب سبحانه وحكمته من آياته الكونية التي يسميها البعض ظواهر طبيعية خروجًا بها عما أراده الله لها من معانٍ إيمانية وآثار اعتقادية.

عن زيد بن خالد الجهني، قال: صَلَّى بِنَا -صلى الله عليه وسلم- وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ "(4)

وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا. (5)

وإن من أعظم الخسران أن يزين الشيطان لهؤلاء الذين يفسرون الأشياء تفسير ماديًا مجردًا عن أي معنى إيماني فيستمرون على غيِّهم وضلالهم حتى آخر لحظات حياتهم؛ فهذه عاد { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 8] كفروا ربهم وكذبوا نبيهم، فأذن الله بهلاكهم فظنوا أنه خيرٌ قد سيق إليهم وكأن العافية حالًا لا تَحـُول {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24، 25]

2- تبرير الأخطاء

إن تبرير الأخطاء بالحجج الواهية والتقيد الأعمى والعادات المتبَّعة من أعظم أسباب الهلاك والإهلاك، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 23 - 25]

وإن الاعتراف بالخطأ أول طريق التوبة، قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك التي ساقها البخاري في صحيحه: وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. (6)

وإن المرء مهما أوتي من قدرة على الجدَل وذكر المبررات والأعذار فينبغي له أن يعلم أنه يعامل رب العزة الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

روى الشيخان عن كعب بن مالك يحكي خبر تخلُّفه عن غزوة العسرة وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "مَا خَلَّفَكَ، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ". فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ". (7)

فهذا كعب -رضي الله عنه- رجل شاعر فصيح اللسان قوي البيان قد أوتي جدلًا وقدرًة على الحوار وذكر الأعذار ولكنه يعلم أن ذلك لا يغني عنه من الله شيئا فقد قال رب العزة عن نفسه: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 18، 19]

3- الاغترار بحلم الله وإلف المعصية

إن إمهال الله للظلمة والفجرة والعصاة ليس نسيانًا ولا إهمالًا ولكنه ربما كان إمهالًا واستدراجًا، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183]، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17]

وعن أبي موسى -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

قال ابن القيم: وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند. (8)

وإن من  أسباب عدم الشعور بالذنب وخطره إلفَ المعصية والتعودَ عليها حتى تصير أمرًا واقعًا في حياة الناس فتتعودها الجوارح ويألفها القلب ويفقد العبد الشعور بخطرها؛ فعند مسلم من حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ. (9)

4-كفران النعم وعدم شكر المنعم

إن شكر النعم سبب في حفظها بل في مزيدها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، كما أن كفران النعم سبب للعذاب والعقاب؛ {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]

وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]

وإن الناس يتقلبون في نعم الله ليل نهار ولكن عندما تعمى البصائر عن رؤية النعم وتنصرف القلوب والجوارح عن شكر المنعم فإن الكفران سبب في زوالها.

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 15 - 17]

وهذا صاحب الجنتين الذي قصَّ علينا رب العزة من خبر جرأته على ربه في سورة الكهف {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35، 36]

فعاقبه الله على هذه الجرأة {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 42، 43]

5- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لقد مضت سنة الله في كونه بأنه يسلط عقوبته على من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]

فلا تكون النجاة من العقوبة لمن لم يشارك في المنكر فقط بل لا تكون النجاة إلا لمن نهى عن المنكر على قدر ما يستطيع {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164، 165]

المخرج من العقوبات الربانية

1- تحقيق حقيقة الإيمان والعمل الصالح

إن تحقيق حقيقة الإيمان سبب في الأمن والرزق والحياة الطيبة والنجاة من العقاب؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]

وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

 {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]

1- الدعاء والتضرع لا سيما عند حلول المصائب:

قال تعالى: {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]

2- الاستغفار والعمل الصالح

إذا كان من مقتضى ضعف الإنسان ونقصه أنه يقع في المعاصي والمخالفات كما في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. (10)

 فإن الله قد فتح له باب التوبة والمغفرة وجعل سبحانه الاستغفار جالبا للثواب ومانعا من العقاب فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

3- الأمر بالمعروف والرشاد والنهي عن المنكر والفساد

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116]

فإن العبد إذا نهى عن المنكر والفساد وأمر بالمعروف والرشاد فهو بين حالين: إما أن يستجاب له فيكون سبب في هداية المفسدين، وإما أن يعذر إلى الله فلا يناله العذاب مع المعذبين؛ فقد قص ربنا علينا من نبأ طوائف بني إسرائيل الثلاثة، الذين وقعوا في الفساد، والذين نهوا عن الفساد، والذين اعتزلوا فلم يفعلوا ولم ينهوا، ثم بين رب العزة أن النجاة كانت لطائفة واحدة فقال عز من قائل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164، 165]

4- أن نعلم أن تغيير الواقع سبب في تغيير الحال

إن المرء إذا نظر في حاله وحال من حوله فرأى تحولا من منحة إلى محنة أو من رخاء إلى شدة أو عكس ذلك فليعلم أن ذلك إنما هو نتيجة لأن الناس قد غيروا ما بأنفسهم فغير الله حالهم.

قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: من الآية 11].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: من الآية 53].

خاتمة

إن الله تعالى لم يقنط عباده من رحمته حتى من أسرف على نفسه قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]

بل إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده ورجوعه إليه؛ فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ، سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاَةٍ. (11)

ومع ذلك فإن الله قد أعلم عباده بفقرهم إليه وغناه عنهم وقدرته عليهم فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 - 17]

وقال رب العالمين مهددا أهل الضلالة ومثبتا أهل الهداية: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 75، 76]

---

(1) أخرجه البخاري (3346) واللفظ له، ومسلم (2880)

(2) أخرجه البخاري (2118)، ومسلم (2884)

(3) أخرجه البخاري (2493)

(4) أخرجه مسلم (71)

(5) جزء من حديث عائشة، أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901)

(6) أخرجه البخاري (2661)

(7) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769)

(8) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم (ص: 28)

(9) أخرجه مسلم (144)

(10) أخرجه مسلم (2749)

(11) أخرجه البخاري: (6309) واللفظ له، ومسلم: (2747)