كيف تواجه الشهوات

كيف تواجه الشهوات

تعريف الشهوات

أسباب إثارة الشهوات

كيف تواجه الشهوات؟

آفات الشهوات

تعريف الشهوات:

الشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِالشَّهَوَاتِ مُبَالَغَةً فِي كَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا، أَوْ تَحْقِيرًا لَهَا لِكَوْنِهَا مُسْتَرْذَلَةً عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ صِفَاتِ الطَّبَائِعِ الْبَهِيمِيَّةِ(1).

والشهوة: ميل النفس. وأصل الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده وذلك في الدنيا ضربان صادقة وكاذبة فالصادقة ما يختل البدن من دونه كشهوة الطعام عند الجوع، والكاذبة ما لا يختل من دونه، وقد يسمى المشتَهَى شهوة وقد يقال للقوة التي تشتهِي الشيء شهوة(2).

أسباب إثارة الشهوات:

1 - ضعف الإيمان واليقين بالله:

 فالجهل به سبحانه، وعدم محبته وإجلاله وتعظيمه وخشيته تجعل الإنسان يستخف بوعد الله عز وجل ووعيده، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية، قال الله عز وجل: {عْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19](3).

قال ابن القيم-رحمه الله-: ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان في القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره في أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعى الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم(4).

فَوَ اللهِ، لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ. . . تَوْفِيقِه وَاللهُ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ

لمَا ثبَتَ الإيمَانُ يَوْماَ بِقَلْبِهِ. . . . . عَلَى هذِه العِلاّتِ وَالأَمْرُ أَعْظَمُ

وَلا طَاوَعَتْهُ النّفْسُ في تَرْكِ شَهْوَةٍ. . . مَخَافَةَ نَارٍ جَمْرهَا يَتَضَرَّمُ

وَلا خَافَ يَوْماً منْ مَقَامِ إلهِهِ. . . عَلَيْهِ بحُكْمِ القِسْطِ إذْ لَيْسَ يَظْلِمُ

2- اتباع الشيطان:

 قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [النور: 21]

 فالشيطان هو أخبث عدو للإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

فقد أعملَ الشيطانُ مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما(5).

والسبب في ذلك كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: خلو القلب مما خُلقَ له، من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه، والخضوع والذل له، والوقوف مع أمره، ونهيه ومحابَّه ومساخطه. فإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها.

 وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدين، وتغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها(6).

3-حب الأموال والأولاد وإيثار الدنيا على الآخرة:

فأما الأموال والأولاد: فهي اختبار وابتلاء من الله لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.

قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }[التغابن: 14، 15]

وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}[سبأ: 37]

أي: إِنَّ اَمْوَالَكُمُ التي تُفَاخِرُونَ النَّاسَ بِها، وَأَوْلادَكُم الذِينَ تَسْتَكْبِرُونَ بِهِمْ عَلَى النَّاسِ، لا تُقرِّبُكُمْ مِنَ اللهِ، وَليسَتْ دَليلاً عَلَى عِنَايَتِهِ بِكُمْ، وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً جَزَاءَ عَمَلِهِ فَيَجْزِيهِ بِالحَسَنَةِ عَشَرَةَ أَمْثَالِها إِلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، وَيَجْعَلُ مَسْكَنَهُ فِي غُرُفَاتِها العَالِيَةِ، وَهُوَ آمِنٌ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَشَرٍّ وَهَوْلٍ(7).

وأما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة: قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39]

وقال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].

وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الركون إلي الدنيا والتنافس فيها،

فعن عَمْرَو بْنِ عَوْفٍ  -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: « فَوَ اللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ »(8).

قال ابن بطال-رحمه الله-: في هذا الحديث تنبيه على أن زهرة الدنيا ينبغي أن يخشى سوء عاقبتها وشر فتنتها من فتح الله عليه الدنيا، ويحذر التنافس فيها والطمأنينة إلى زخرفها الفاني؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- خشى ذلك على أمته، وحذرهم منه لعلمه أن الفتنة مقرونة بالغنى، وقوله -صلى الله عليه وسلم-، في حديث أبى سعيد  الخدري -رضي الله عنه-: « وإنَّ ممَّا يُنبتُ الربيعُ يَقتُلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ »(9)، فهو أبلغ الكلام في تحذير الدنيا والركون إلى غضارتها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فيكثر أكلها فربما تفتقت سمنًا فهلكت، فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ من الدنيا إلا قدر حاجته، ولا يروقه زهرتها فتهلكه. وقال الأصمعي: والحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر، حتى تنتفخ بذلك بطنها وتمرض عنه. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أو يلمُ)، يعني يُدنى من الموت(10).

4-ومن أسباب انتشار الشهوات وإثارتها:

القنوات الفضائية: فما يبثُ عبر تلك القنوات من برامج ومسلسلات وأغاني

وأفلام، تدور معظم موادها على الحب والغرام والخيانة الزوجية والعري والمجون والقبلات وذبح الحياء ووأد الفضيلة والتندر بالأحكام الشرعية والاستهزاء ببعضها كحكم تعدد الزوجات، وقوامة الرجل على المرأة. وهكذا هي هذه القنوات، إنها مصيدة الشيطان التي من وقع في شراكها فسد طبعه، وقلت غيرته، وأصبح أسيراً لشهواته وغرائزه.

الإنترنت: وهي عقبة وقع في شراكها كثير من الناس إلا من رحم الله، فأصبح الإنترنت لديهم مادة لإثارة الغرائز عن طريق الدخول إلى المواقع الإباحية بما فيها من عري وخلاعة وشذوذ، والإنترنت في ذاته له فوائد يعرفها كل أحد، فهي أداة سريعة للمعرفة واستدعاء المعلومات في شتى مناحي الحياة والعلوم، ولكنها تحتاج إلى تقنين في التعامل والحرص على النفس والتقوى. ولله درُّ القائل:

تفنى اللذائذ ممن نال صفوتها. . . من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتها. . . لا خير في لذة من بعدها النار

الخلوة والاختلاط: وهما من أكبر أسباب انتشار الفواحش والوقوع في العلاقات المحرمة بين الرجال والنساء.

أما الخلوة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»(11).

وما نراه اليوم في مجتمعنا -إلا من رحم ربك- هو أكبر دليل على صحة هذا الحديث، فقد كثرت الشكاوى من تحرش الرجال بالنساء، وربما أفضى ذلك إلي الوقوع في الفاحشة، وهتك الأعراض.

وأما الاختلاط: فهو من وسائل الشيطان لإفساد القلوب وإثارة الغرائز واتباع الشهوات.

 قال ابن القيم-رحمه الله-: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة الخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى -عليه السلام-، وفشت فيهم الفاحشة: أرسل الله إليهم الطاعون، فمات في يوم واحد سبعون ألفا، والقصة مشهورة في كتب التفاسير(12).

إطلاق البصر: فالبصر أمر خطير، فالرجل مأمور بغض بصره والمرأة مأمورة بغض بصرها كالرجال، فما فسدت الرجال إلا من جراء إطلاق البصر، وما تهتكت الحرمات إلا بسبب البصر. ولله درُّ القائل:

كل الحوادث مبداها من النظر. . . ومعظم النار من مستصغر الشرر (13).

كيف تُــواجَــه الشهوات؟.

و الناس بالنسبة للشهوات على قسمين:

الأول: قسم جعلوها هي المقصودة، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلُوها، فهؤلاء كانت لهم زاداً إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.

والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها امتحاناً وابتلاء لعباده، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته، على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم وطريقاً يتزودون منها لآخرتهم، وجعلوها معبراً إلى الدار الآخرة، ومتجراً يرجون بها سكن القصور الفاخرة. فهؤلاء صارت لهم زاداً إلى الجنة، وإلى مرضاة ربهم. وهؤلاء المستحقون لها لهم صفات: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار}[آل عمران: 16، 17] (14).

ومما يساعد على دفع الشهوات:

1-دوام المراقبة لله والخوف منه سبحانه:

فالْمُرَاقَبَةُ هي: دَوَامُ عِلْمِ الْعَبْدِ، وَتَيَقُّنِهِ بِاطِّلَاعِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ(15).

 قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك: 12].

يخبر الله عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبا عن الناس، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات، حيث لا يراه أحد إلا الله، بأنه له مغفرة وأجر كبير، أي: يكفر عنه ذنوبه، ويجازى بالثواب الجزيل، كما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، منهم وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ »(16).

2-غض البصر:

قال ابن القيم -رحمه الله-: ومن أطلق لحظاته دامت حسراته، وفي غض البصر عدة منافع:

 أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد، فليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامره، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.

الثانية: أنه يورث القلب أنسا بالله، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته، ويبعده عن الله، وليس على القلب شيء أضر من إطلاق البصر، فإنه يورث الوحشة بين العبد وربه.

الثالثة: أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.

الرابعة: أنه يكسب القلب نورًا، كما أن إطلاقه يلبسه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [النور: 30]. ثم قال إثر ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]. أي مثلُ نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان.

الخامسة: أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل، والصادق والكاذب(17).

وقال رجل للجنيد بم أستعين على غض البصر؟. فقال بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه(18).

3-الاستعانة بالأعمال الصالحة:

 كالصلاة والصيام والصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة، فعن معاذ بن جبل  -رضي الله عنه-، أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: « الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ النَّارَ الْمَاءُ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ من جَوْفِ اللَّيْلِ" ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] »(19).

وعن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود  -رضي الله عنه-، أنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ »(20).

إن المعاصي تزرع أمثالها، وتولد بعضها بعضًا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها، قالت الثالثة كذلك وهلم جرا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات. وكذلك كانت السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة، وصفات لازمة، وملكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء، حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقر عينه. ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة؛ لضاقت عليه نفسه وضاق صدره، وأعيت عليه مذاهبه، حتى يعاودها، ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزًا، وتحرضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها. ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها، حتى يرسل الله إليه الشياطين، فتؤزه إليها أزا. فالأول قوي جند الطاعة بالمدد، فكانوا من أكبر أعوانه، وهذا قوي جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانا عليه(21).

آفــات الشـــهوات:

 إن الذنوب والمعاصي تضر ويصل ضررها إلى القلب كضرر السموم في الأبدان

على اختلاف درجاتها في الضرر، فهي تورث الذل وتفسد العقل وتضعف الغيرة وتذهب الحياء، وتزيل النعم وتمحق البركة، واتباع الشهوات يسبب ألمًا وأذىً في العاجل، ومنع لذاتٍ في الآجل فالعاقل من ينهى نفسه عن لذة يعقبها ألما وشهوة تورث ندمًا(22).

ومن آفات الشهوات:

1-سبب في هوان العبد على ربه:

 قال الحسن البصري -رحمه الله-: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]

فأهل العصيان وإن عظَّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه هوان المعاصي على المصرين لا يزال العبد يرتكب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله(23).

2-تورث الذل للعبد:

  فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي: من كان يحب أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها(24).

3- تورث مرض القلوب:

 قال ابن القيم-رحمه الله-: وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطى مناها حتى

 تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها، فيصير نفس دوائها، ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها، فهواها مرضها، وشفاؤها مخالفته، فإن استحكم المرض قتل أو كاد(25).

وعَنْ حُذَيْفَةَ  -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا

يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»(26).

4-سبب في دخول النار:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»(27).

وهذا من بديع كلامه -صلى الله عليه وسلم- وجوامعه الذى أوتيه من التمثيل الحسن، فإن حفاف الشيء جوانبه، فكأنه أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بتخطي المكاره وكذلك الشهوات، وما تميل إليه النفوس، وأنّ اتباع الشهوات يلقى فى النار ويدخلها وأنه لا ينجو منها إلا من تجنب الشهوات. وفيه تنبيه على اجتنابها(28).

فأما المكاره: فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على

مشاقها وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان إلى المسيء والصبر عن الشهوات ونحو ذلك.

 وأما الشهوات: التي النار محفوفة بها فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية والغيبة واستعمال الملاهي ونحو ذلك وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الإكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة أو يقسي القلب أو يشغل عن الطاعات أو يحوج إلى الاعتناء(29).

ولله درُّ القائل:

صبرت على الأيام حتى تولت. . . . وألزمت نفسي صبرها فاستمرت

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى. . . فإن طمعت تاقت وإلا تسلت.

وإن في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عبر ودروس كفيلة بأن تنشئ جيلاً صالحًا ومجتمعًا فاضلاً، لا يعرف للرذيلة طريقًا، ولا للخيانة سبيلاً، ولا للفاحشة داعيًا، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أخبارهم وسيرهم وما ابتلوا به وكيف صبروا عليها. وما أحوجنا  أن نعرف سير الأنبياء والصالحين، وأن نستلهم دروسها ونعقل معناها، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }[العنكبوت: 43].

---

(1) فتح القدير للشوكاني (1/ 371).

(2)  انظر الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (3/ 57)، المفردات للراغب الأصفهاني (ص: 270).

(3) نور التقوى وظلمات المعاصي في ضوء الكتاب والسنة (ص: 40)، للدكتور سعيد بن وهف القحطاني.

(4) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم(ص: 275).

(5) كشف الكربة في وصف أهل الغربة (ص: 317).

(6) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم(2/ 156).

(7) أيسر التفاسير لأسعد حومد (ص: 3524).

(8) أخرجه البخاري (4015)، ومسلم(2961).

(9) أخرجه البخاري (2687).

(10) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 155).

(11) أخرجه الترمذي(1171)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3118).

(12) الطرق الحكمية (ص: 239) لابن القيم.

(13) نداء إلى العفيفات {وأن يستعففن خير لهن} (ص: 15).

(14) موسوعة فقه القلوب (1/ 1030)، للشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري.

(15) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 65)، لابن القيم.

(16) تفسير ابن كثير (8/ 179)، والحديث أخرجه البخاري (6806)، ومسلم(91).

(17) الداء والدواء (ص: 178)، لابن القيم.

(18) إحياء علوم الدين (4/ 397).

(19) أخرجه ابن ماجه(3973)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3865).

(20) أخرجه البخاري (1905)، ومسلم(1400).

(21) الداء والدواء (ص: 55)، لابن القيم.

(22) انظر الداء والدواء (ص: 42)، لابن القيم. ذم الهوى (ص: 13)، لابن الجوزي.

(23) الداء والدواء (ص: 58)، لابن القيم.

(24) تفسير ابن كثير (6/ 536).

(25) الداء والدواء (ص: 76)، لابن القيم.

(26) أخرجه مسلم(231).

(27) أخرجه مسلم (7232).

(28) إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض(8/ 357).

(29) شرح النووي على مسلم (17/ 165).