حاجة الأمة إلى الثقة بالله

حاجة الأمة إلى الثقة بالله

حاجتنا إلى الثقة

معنى الثقة

وسائل تحصيلها

نماذج تطبيقية

ثمراتها

أهداف الخطبة

1- بيان الحاجة إلى مثل هذه المواضيع و خصوصا أيام الفتن والشدائد الصعاب

2- ترسيخ مفهوم الثقة بالله وتعزيزه في نفوس أبناء الأمة حتى يحسنوا الظن بربهم وبدينهم

3- التقليل من حدّة الهجمة الشرسة التي يُراد منها تغلغل اليأس في قلوب المسلمين وشلّ أفكارهم وتحطيم معنوياتهم.

4- إظهار الفرق بين المؤمنين والمنافقين في أوقات الشدائد.

مقدمة

بعد أشد الأوقات ظلمة يطلع الفجر، وحين تشتد الكربات يقترب الفرج، وحين يتملك النفوس اليأس من شدة العسر وتأخر النصر ومعاندة المكذبين ومحاربتهم يَمنّ الله بالروح والتنفيس عن المؤمنين والتمكين لهم كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]

وكما قال عز وجل: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح: 5، 6]

وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (( وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا )). (1)

إن صاحب الثقة بالله تعالى لا يهتز يقينه ولا يتزعزع إيمانه حتى وإن رأى تكالب الأمم واشتداد الخطوب؛ لأنه يعلم أن الأمر كله لله تعالى، وأن العاقبة للحق وأهله، وأن المستقبل لهذا الدين العظيم: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]

قال ابن القيم -رحمه الله-: فَمَنْ ظَنَّ بِالله أَنَّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَلَا يُتِمُّ أَمْرَهُ، وَلَا يُؤَيِّدُهُ وَيُؤَيِّدُ حِزْبَهُ، وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ، وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ، فَقَدْ ظَنَّ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَنَسَبَهُ إِلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ، فَإِنَّ حَمْدَهُ وَعِزَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَإِلَهِيَّتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ، وَتَأْبَى أَنْ يُذَلَّ حِزْبُهُ وَجُنْدُهُ، وَأَنْ تَكُونَ النُّصْرَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ وَالظَّفَرُ الدَّائِمُ لِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، فَمَنْ ظَنَّ بِهِ ذَلِكَ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ أَسَمَاءَهُ وَصِفَاته وَكَمَالَهُ. (2)

حاجتنا إلى الثقة بالله

إن المسلمين في زمن الضعف يجب عليهم أن يستحضروا دائماً الثقة بالله، والتوكل عليه، واستمداد القوة منه، والركون إليه، وأنه عز وجل ينصر من نصره، فإذا التجأ العبد إليه فقد أوى إلى ركن شديد.

ولنعلم أنَّ وقت الفتن والشدائد، تظهر حقائقُ ما في القلوب من قوة الإيمان أو ضعفه، ويظهر حسنُ الظن بالله عند أُناس، ويظهر سوءُ الظن به عند آخرين،

عن سعيد بن جبير -رحمه الله- قال: لقيني راهبٌ فقال: يا سعيد، في الفتنة يتبين من يعبدُ اللهَ ممن يعبد الطاغوت. (3)

 في حال السعة والرخاء، قد يظن الإنسان بنفسه خيرا، ولكن إذا حلّ القضاء، أو نزل البلاء رأى من نفسه عجبا.

فما هي الثقة بالله؟

الثقة بالله هي: أن تعلق قلبك بالله وحده في تحصيل ما ينفعك ودفع ما يضرك، وأن تقطع تعلقَك بالمخلوقين، فهم لا يملكون لك ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضرا.

الثقة بالله هي: اليقين الثابت بكمال بصفات الله تعالى، وبصدق وعده، وعظيم قدرته، وإحاطة علمه بكل شيء.

الثقة بالله هي: التسليم والانقياد المطلق بالجوارح كلها لله جل وعلا.

الثقة بالله هي: أن تكون أوثقَ بما عند الله منك مما في يدك أو في يد غيرك.

قال شقيق البلخي -رحمه الله-: الثِّقَةِ بِاللهِ أَنْ لَا تَسْعَى فِي طَمَعٍ وَلَا تَتَكَلَّمَ فِي طَمَعٍ وَلَا تَرْجُو دُونَ اللهِ سِوَاهُ وَلَا تَخَافُ دُونَ اللهِ سِوَاهُ وَلَا تَخْشَى مِنْ شَيْءٍ سِوَاهُ. (4)

أهمية الثقة بالله  ومكانتها

- الثقة بالله من العبادات القلبية والأصول الإيمانية

فالثقة بالله من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبها تفاضل العارفون، وفيها تنافس المتنافسون، وإليها شمر العاملون، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

وقد كان ابن القيم -رحمه الله- تعالى يقول: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله- يَقُولُ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. (5)

وهي العبادة التي جمعت بين التفويض والتسليم لله رب العالمين، وقد خلق الله الخلق جميعا لغاية واحدة؛ وهي عبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ َالْإِنسَ ِلَّا ِيَعْبُدُونِ}[الذاريات(56)]

قال الهروي الثِّقَةُ: هي سَوَادُ عَيْنِ التَّوَكُّلِ. وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ. وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ. (6)

فالثقة بالله هي عمود التوكّل، وهي ساقُ التفويض التي يقوم عليها، فلا توكّلَ بدون ثقة، وعلى قدر الثقة تكون قوة التوكل.

- الثقة بالله صفة من صفات الأنبياء

فأوثق الخلق بالله هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وسيأتي بعض الأمثلة لذلك

- والثقة أيضا صفة من صفات الأولياء الصادقين

قال يَحْيَى بْن مُعَاذٍ الرازي -رحمه الله-: ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنْ صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ: الثِّقَةُ بِاللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْغِنَى بِهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ في كُلِّ شَيْءٍ. (7)

وسائل تحقيق ثقة العبد بربه

1- معرفة الله عز و جل بربوبيته وعظمته

قال شَقِيق بْن إِبْرَاهِيمَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يعْرَفَ مَعْرِفَتَهُ بِاللهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَا وَعْدَهُ اللهُ وَوَعَدَهُ النَّاسُ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ؟. (8)  

فإذا علم العبد أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وأن الأمر كله بيده: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82]

وهو سبحانه يورث الأرض من يشاء من عباده، كما قال: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]

وأنه شديد المحال، عزيز لا يُغلب، كما قال تعالى: { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [الرعد: 13]

 وأنه سبحانه وتعالى له جنود السموات والأرض قال عز وجل: { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الفتح: 4] وقهر العباد فأذلهم فهم لا يخرجون عن أمره ومشيئته: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4]   وهو سبحانه وتعالى الذي يضُر وينفع: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17]  فعندئذٍ تزيد ثقته بربه ويطمئن قلبه بوعده ويرضى بقضائه وقدره ويستقيم على شرعه

2- العلم بأسماء الله وصفاته

قال ابن القيم: أكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يَسلَم من ذلك إلا من عرَف اللهَ وعرَف أسماءَه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته. (9)

فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل التام. (10)

والله سبحانه عند ظن عبده به، عن واثلة بن الأسقع  -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ )). (11)

فَلَا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ. . . فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ

3- الاستقامة على طاعة الله

كلما استقام العبد على طاعة الله كلما زاد يقينه بالله وعظُمت ثقته بوعده سبحانه، قال ابن القيم -رحمه الله-: أَحْسَنُ النَّاسِ ظَنًّا بِرَبِّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَسَاءَ الْعَمَلَ. (12)

وقال عن أهل الأماني الكاذبة: إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: لِأَنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ، لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ. (13)

4- الاعتزاز بالدين وترك المهانة والتذلل للكافرين

فإذا كنت مؤمنا بالله، واثقا بوعده؛ فلا تهن ولا تحزن، قال تعالى مشجعًا لعباده المؤمنين، ومقويا لعزائمهم ومنهضًا لهممهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]

قال الألوسي: فلا تهنوا ولا تحزنوا -أيها المؤمنون- فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه. (14)

قال السعدي: (ولا تهنوا ولا تحزنوا) أي: ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة، وابتليتم بهذه البلوى، فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وعون لعدوكم عليكم، بل شجّعوا قلوبكم وصبروها، وادفعوا عنها الحزن وتصلّبوا على قتال عدوكم، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك، ولهذا قال تعالى: { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }. (15)

مظاهر ومجالات الثقة من الناحية التطبيقية

1 - الثقة في كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

فالمؤمن يثق في كلام الله، لأن كلام الله كله صدق سواء في الأخبار أو في الأحكام ( الأوامر والنواهي) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الْأَنْعَامُ: 115]

أي: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام.

ومن الأمثلة التطبيقية، قال تعالى لِأُمّ مُوسَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]

فامتثلت أمرَ ربها وكلُّها ثقةً بالله تعالى، قال ابن القيم -رحمه الله-: فَإِنَّ فِعْلَهَا هَذَا هُوَ عَيْنُ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْلَا كَمَالُ ثِقَتِهَا بِرَبِّهَا لَمَا أَلْقَتْ بِوَلَدِهَا وَفِلْذَةِ كَبِدِهَا فِي تَيَّارِ الْمَاءِ، تَتَلَاعَبُ بِهِ أَمْوَاجُهُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي أَوْ يَقِفُ. (16)

- وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (( اسْقِهِ عَسَلًا )) فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: ((اسْقِهِ عَسَلًا )) فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ )). فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. (17)

- وعَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2] خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}. قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ، فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالمُشْرِكُونَ وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ البِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ، قَالَ: فَمَضَتِ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ المُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، قَالَ: وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ. (18)

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ  -رضي الله عنه-، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكِ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِي مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. (19)

- وعن خزيمة بن ثابت  -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ، فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم- لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَشْيَ، وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ، فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَ بِالْفَرَسِ، لاَ يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ابْتَاعَهُ، حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمُ الأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَنَادَى الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعَا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ، وَإِلاَّ بِعْتُهُ. فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: (( أَوَلَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ؟ )) قَالَ الأَعْرَابِيُّ: لاَ وَاللَّهِ مَا بِعْتُكَ. فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (( بَلَى قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ)). فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ، فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بَايَعْتُكَ، فَمَنْ جَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: وَيْلَكَ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ إِلاَّ حَقًّا. حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ لِمُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَمُرَاجَعَةِ الأَعْرَابِيِّ، فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي بَايَعْتُكَ. قَالَ خُزَيْمَةُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: (( بِمَ تَشْهَدُ؟ )). فَقَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ. (20)

2- الثقة بنصر الله وتأييده

على المؤمن الذي تحقق بدين الله والتزم بشرعه وأخذ بالأسباب المعنوية والمادية التي لا تخرج عن شرع الله أن يوقن بنصر الله تعالى ويطمئن قلبه بتأييده له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] والآيات في هذا المعنى كثيرة ومعلومة للجميع، وإليك بعض الأمثلة للواثقين بنصر الله وتأييده

- عندما خرج موسى عليه السلام  بمن معه من المؤمنين فأتبعهم فرعون بجنوده، فأصبح البحر أمامه وفرعون خلفه، فقال له بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] ولكنه قال بثقة ويقين: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].

- ولما خرج نبينا -صلى الله عليه وسلم- من مكة مهاجرا ولحقه الكفار دخل الغار؛ فحفظ الله نبيه من كيد الكفار، وحرسه بعينه التي لا تنام؛ فعن أنس بن مالك  -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حدثه، قال: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: (( يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا )). (21)

ونزل في ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]

- وعن عُمَر بْن الْخَطَّابِ  -رضي الله عنه-، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (( اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ ))، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ.(22)

سؤال: تسمع من يقول: ماذا نفعل ونحن مجردون من الأسباب المادية؟!

إنه تبرير الأذلاء وحجة الضعفاء، وكأن الأسباب المادية هي التي تأتي بالنصر. فماذا كان يملك نوح عليه السلام من الأسباب المادية عندما وقف أمام قومه وقال لهم: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. ونفس الموقف يتكرر مع هود عليه السلام يقف وحده أمام قومه ويتحداهم قائلاً: { فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] فإني لا أخشاكم ولا أبالي بكم، فمعي قوة لا تقهر ومعي نصير لا يغلب: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، وأنتم أيها الغلاظ الشداد ما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربي بناصيتها، فما خوفي إذًا منكم؟ إنها حقيقة الألوهية عندما تتجلي في قلوب الصفوة المؤمنين، عندها يهتف القلب على الفور: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].(23)

- الثقة بمعية الله وحفظه لعبده المؤمن

- فهذا خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل " فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ. (24)   فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء(69)].

- وهذه هاجر عليها السلام امرأة مؤمنة، ترَكها زوجها إبراهيم عليه السلام مع ابنها الرضيع بأرض قفار لا أثر فيها للحياة، وقفل راجعًا وهي تتبعه متعجبة من هذا الصنيع؛ فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا. (25)

إنها الثقة بالله التي تقوِّي الذات ولا تدمّرها؛ لأنها تنقلها من التواكل إلى التوكل، وتُشعِرها أنها تستمد قدرتها من قدرة الله.

- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ  -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المشركين، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: (( اللَّهُ ))، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (( مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ )) قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ، قَالَ: (( أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ))، قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. (26)

- الثقة بما عند الله من ثواب وعقاب

فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله أي تسبيحه أو تحميدة أو صدقة أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة: 120، 121]

وهذا أمر مهم جدا في استقامة العبد على طاعة الله واجتنابه لمعاصيه، بل هذا هو الفارق بين المؤمن والمنافق، والموقن والشاك، قال تعالى لنبيه في موضعين: { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] و [الزمر: 13]      وقال واصفا ثلة من الأنبياء عليهم السلام: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء: 90]

وقال تعالى واصفا أهل الإيمان الذين جمعوا بين الإيمان بالوعد والوعيد: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 8 - 11]

وانظر إلى سير الصحابة في بذلهم أموالهم وأرواحهم رخيصة في سبيل نصرة هذا الدين، وما ذلك إلا لإيمان وقر في قلوبهم بوعد الله تعالى، وتصديق لما عنده من نعيم، وإليك هذا المثال

- لما بعث عمر  -رضي الله عنه-، المسلمين لقتال الفرس، والتقى الفريقان أراد قائدهم أن يعرف مَن هؤلاء القوم الذين اجترأوا على قتالهم، فبعث تُرْجُمَانه فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ. قَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعْرَ وَنَعْبُدُ الْحَجَرَ وَالشَّجَرَ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَأَمَرَنَا رَبُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ فَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ قَطُّ وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ.(27)

ثمرات الثقة بالله

إن الثقة بالله تعالى نعمة عظيمة، ومنحة كبيرة، فمن ثمرات الثقة بالله تعالى أنها:

- تفتح باب الرحمة والأمل، وتدفع أسباب اليأس والكسل

تأمل حال الصحابة وهم يحفرون الخندق وقد تكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب ولكن قلوبهم مليئة بالأمل والثقة بالله وجوارحهم لا تكل من العمل الشاق وألسنتهم تلهج:

وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا           وَلاَ تصدقنا وَلاَ صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا                       وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا

إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا                  وإِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

قال تعالى { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [الأحزاب: 22]

- تُقيم العبدَ في مقام الإحسان

لأن الواثق يوقن بأنه مراقَبٌ من الله في خلوته وفي جلوته في ظاهره وباطنه، قال حاتم الأصم -رحمه الله-: عَلِمْتُ أَنِّي لَا أَخْلُو مِنْ عَيْنِ اللِّهِ حَيْثُ كُنْتُ فَأَنَا مُسْتَحْيٍ مِنْهُ. (28)

- الثقة تجعل العبد راضيا بالله وعن الله

عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ  -رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا )). (29)

قال حَاتِم الْأَصَمّ -رحمه الله-: مَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي رِضَا اللهِ: أَوْلُهَا الثِّقَةُ بِاللهِ ثُمَّ التَّوَكُّلُ ثُمَّ الْإِخْلَاصُ ثُمَّ الْمَعْرِفَةُ. (30)

- توجب للمسلم التفويض لما قضى به رب العباد في الأزل

عَنْ صُهَيْبٍ الرومي  -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ )). (31)

قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رحمه الله-: أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاقِعِ الْقَدَرِ. (32)

- توجب التوكل على الله والاستعانة به وحده دون من سواه

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ  -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا غَزَا قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ )). (33)

- من وثق بالله نجاه من كل كرب أهمه

قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]

قال أبو العالية الرياحي -رحمه الله-: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ هَدَاهُ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وَمَنْ أَقْرَضَهُ جَازَاهُ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]. (34)

- ضمان الرزق لمن وثق برب الخلق

إذا كان العبد موقنا بأن الله رازقه، وبذل الأسباب الجالبة لذلك؛ رزقه الله، وأعطاه طلبه؛ عن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ  -رضي الله عنه-، إِنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا )). (35)

عَن أَبِي الدَّرْدَاءِ  -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ )). (36)

وعَنْ جَابِرٍ  -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ)). (37)    

فإذا وثق العبد بالله، وأيقن أنه رازقه وكافيه زهد في هذه الدنيا، وعاش فيها راضيا مطمئنا، قِيلَ لِأَبِي حَازِمٍ سلمة بن دينار -رحمه الله-: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا مَالُكَ؟ قَالَ: ثِقَتِي بِاللهِ تَعَالَى، وَإِيَاسِي مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ.(38)

- بل من تحلى بهذه الصفة فقد فاز بالجنة والنعيم المقيم

فلن يحرص على الجنة والعمل لها والبذل من أجلها إلا الواثقون بما أعده الله فيها من نعيم لأهلها، وإليك هذا المثال، جعفر بن أبي طالب يعقر فرسه ويندفع مقاتلاً يوم مؤتة وهو يرتجز:

يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا. . . طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا

وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا. . . كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا

عَلَيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا(39)

قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ -رحمه الله-: مَنْ عَمِلَ بِثَلَاثِ خِصَالٍ أَعْطَاهُ اللهُ الْجَنَّةَ: أَوَّلُهَا مَعْرِفَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَسَمْعِهِ وَجَمِيعِ جَوَارِحِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ أَوْثَقُ مِمَّا فِي يَدَيْهِ. وَالثَّالِثُ: يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ. (40)

---

(1) رواه أحمد (1/ 307) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1151)

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 205)

(3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (4/ 280)

(4) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم (8/ 61)

(5) مدارج السالكين  لابن القيم(2/ 153)

(6) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 142)

(7) شعب الإيمان للبيهقي(2/ 354)

(8) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم (8/ 64)

(9) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (3/ 206)

(10) طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم (ص: 9)

(11) رواه أحمد (3/ 491) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 225) وأصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة  -رضي الله عنه-.

(12) الداء والدواء لابن القيم (ص: 25)

(13) الداء والدواء لابن القيم (ص: 28)

(14) تفسير الألوسي (2/ 282)

(15) تفسير السعدي (ص: 150)

(16) مدارج السالكين لابن القيم (2/ 142)

(17) رواه البخاري (5684) ومسلم (2217) وهذا لفظ مسلم، (استطلق) الاستطلاق الإسهال، (صدق الله وكذب بطن أخيك) المراد قوله تعالى { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وهو العسل وهذا تصريح منه -صلى الله عليه وسلم- بأن الضمير في قوله تعالى فيه شفاء يعود إلى الشراب الذي هو العسل وهو الصحيح. شرح النووي على مسلم (14/ 203)

(18) رواه الترمذي (3194) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (7/ 366)

(19) رواه الحاكم في المستدرك (3/ 81) وصححه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة(1/ 616)

(20) رواه أحمد  (5/ 215) وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 127)

(21) رواه البخاري(3653) ومسلم(2381)  

(22) رواه مسلم (1763)

(23) موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (2/ 266)

(24) رواه البخاري (4564)

(25) رواه البخاري (3364) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(26) رواه أحمد (3/ 365) وهو حديث صحيح وأصله في الصحيحين.

(27) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 545)

(28) حلية الأولياء (8/ 73)

(29) رواه مسلم (34)

(30) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم (8/ 75)

(31) رواه مسلم (2999)

(32) مدارج السالكين لابن القيم(2/ 212)

(33) رواه أبو داود (2632) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (7/ 383)

(34) حلية الأولياء (2/ 221)

(35) رواه أحمد (1/ 30) والترمذي (2344) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 620)

(36) رواه ابن أبي عاصم في السنة (264) والبزار في مسنده (4099) وابن حبان (3238) وصححه لغيره الألباني في  صحيح الترغيب والترهيب (2/ 312)

(37) رواه أبو نعيم في الحلية (7/ 90) والطبراني في الأوسط (1479) بنحوه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وحسنه الألباني بشواهده في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 635)

(38) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 232)

(39) البداية والنهاية ط هجر (6/ 420)

(40) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 61)