1- الآثار الإيمانية للصلاة

 الآثار الإيمانية للصلاة

مقدمة: لا ريب أن الصلاة هي قرة عين المحبين ولذة أرواح الموحدين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمة الله المهداة إلى عبيده، هداهم إليها وعرَّفهم بها رحمةً بهم وإكرامًا لهم، لينالوا بها شرف كرامته والفوز بقربه.(1)

إنها الصلاة  يا عباد الله

قال بكر بن عبد الله المزني: مَن مثلُك يا ابن آدم....خُلّي بينك وبين الطَّهور والمحراب متى شئتَ تطهرتَ ثم دخلتَ على الله عز وجل وناجَيْتَه، ليس بينك وبينه حِجابٌ ولا تَرجمان.(2)

إنها العبادة التي تحقق دوام ذكر الله، وتربي النفس وتهذب الروح وتنير القلب، بما تغرس فيه من جلال الله وعظمته، وتحلي المرء وتجمله بمكارم الأخلاق، وتَعُدُّ المؤمن لحياة كريمة في الدنيا، وسعادة سرمدية في الآخرة.(3)

ولمّا كانت الصلاة بهذه المنزلة الرفيعة، كان لزاما على كل مسلم أن يقف مع نفسه وقفة صادقة لينظر هل يجد لهذه العبادة أثرا في قلبه؟ ، ومِن ثَمَّ هل يجد لها أثرا في خُلُقه وسلوكه وفي واقعه وسائر أحواله؟ أم أنها مجرد حركات يقوم بها ليسقط الفرض عن نفسه ويتخلص من همٍّ يحمله على عاتقه؛ وكما قال أحد العلماء: كان السلف يُصلُّون إخلاصا ونحن اليوم نُصلي تخلّصا.

 الصلاة التي نريدها

إن الصلاة التي يريدها الإسلام والتي يظهر أثرها على الروح والقلب والجوارح، ليست

مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب، أو تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديك كلا وإنما الصلاة التي يريدها الإسلام هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله لأن القصد الأول من الصلاة هو تذكير الإنسان بربه عز وجل في كل أحواله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).(4)

وعلى قدر ما يُعطي العبدُ صلاته حقَّها، على قدر ما يَجني مَن ثمارها العاجلة والآجلة

 قال حسان عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مُقبلٌ على الله عز وجل والآخر ساهٍ غافل.(5)

ولهذا قالَ ابنُ عباسٍ وغيرُهُ: صلاةُ ركعتين في تفكر خير من قيامٍ ليلةٍ والقلبُ ساهٍ.(6)

وقال وهيب بن الورد: لا يكنْ هَمُّ أحدِكم في كثرةِ العملِ، ولكنْ لِيكُنْ هَمُّه في إحْكامه وتَحسينه، فإنَّ العبدَ قدْ يُصلي وهو يَعصي اللهَ في صلاته، وقد يَصوم وهو يَعصي الله في صيامه.(7)

وهذه بعض الآثار الإيمانية للصلاة التي تعود على الفرد والمجتمع والأمة

الآثار الإيمانية للصلاة

الأثر الأول:  تغرس  في قلب العبد حب الطهارة والنقاء في الظاهر  والباطن

- لماذا جُعلت الطهارة شرطا لصحة الصلاة؟

من حكمة الله سبحانه أن جعل الصلاة لا تُقبل بغير طهور، فلابد للعبد أن يطهر جوارحه من ملوثات المادة، ويتجمل ليلقى ربه نظيفا نقيا، وقد تخلص من غفلته وكسله واستبدل ذلك بنشاط وانتباه؛ فتنعكس آثار الطهارة على حياة المسلمين عامة حتى تصبح النظافة ديدنهم.

ويمتد معنى الطهارة إلى ما هو أعمق من النظافة الحسية الظاهرة، فيجوب النفس ويجليها من أصداء المعاصي وأدران الذنوب، فإذا كانت هذه الجوارح هي التي ترتكب المنكرات، فهو يغسل ظاهرها، وكله عزم ويقين على تطهيرها، بالتكفير عن الذنوب، والبعد عن الرذائل، والقرب من الله.

 ثم إن المداومة على الطهارة، تجعل المسلم في جميع أوقاته طيب النفس، رفيع الذوق، سامي المشاعر، ولنتأمل ماذا كان حالنا لو لم يشترط الشرع هذه الطهارات؟

لذا ينبغي للمسلم أن يطهر باطنه كما طهر جسده وثوبه ومكان صلاته، حتى يقبل على الله وقد خلا قلبه من الحقد والحسد والرياء، فيسارع بالتوبة والاستغفار، والعزم الأكيد على عدم العودة إلى ما يدنس النفس ويغضب الله تعالى.

إن مراجعة القلب قبل كل صلاة وتطهيره مما علق به، سيعيد للقلب طمأنينته، وللصدر سلامته، فيكون هذا هو حاله كل وقت، عندئذ يقف العبد أمام ربه لا يشغله شيء من الدنيا، فيخشع لله، ويشعر بلذة العبادة، قال الله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6].(8)

قال ابن القيم: الطهارة شرط لصحة الصلاة، فبالطهارة يتطهر العبد من الأوساخ ويَقدُم على ربه متطهرًا، والطهارة لها ظاهر وباطن، فظاهرها طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنها وسرها طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة.ولهذا قرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]، وشرع النبي -صلى الله عليه وسلم- للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد، ثم يقول: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).(9)

فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا.

فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة.فشرع الله للعبد أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول عليه والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أذن له بالدخول عليه وبالقيام بين يديه.(10)

- دعاء الاستفتاح وعلاقته بالطهارة

وعندما يستفتح العبدُ صلاته يؤكد على قضية الطهارة وطلب التطهير من الذنوب فيقول (اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ).

فقوْله (اللهُمَّ بَاعِدْ) المُراد بالمباعدة محو ما حصل من الْخَطَايَا والعصمة؛ وَجمع بَين المَاء والثلج وَالْبرد في الغسل من الخطايا تَأْكِيدًا ومبالغة وَخص الثَّوْب الْأَبْيَض بِالذكر لِأَن الدنس يظْهر فِيهِ زِيَادَة على مَا يظْهر فِي سَائِر الألوان وَالْمرَاد أَن هَذِه الْأَلْفَاظ مجَاز عَن محو الذُّنُوب وَرفع أَثَرهَا.(11)

- النتيجة: فعبدٌ هذا شأنه؛ قد جمع بين الطهارة الحسية والطهارة المعنوية كيف يكون حاله؟ وكيف يكون سلوكه وتعامله ومدخله ومخرجه؟ حتما سيظهر في أبهى حُلةٍ وأنقاها ألا وهي التقوى.

الأثر الثاني :الصلاة  أعظم العبادات التي تقيم العبدَ في مقام الإحسان

* الإحسان أعلى مراتب دين الإسلام وهو يشمل إحسان العبد في عبادة ربه وإحسانه إلى الخلق، وعندما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان قال -صلى الله عليه وسلم- (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ(12) وفي رواية: (أَنْ تَعْمَلَ للهِ)(13)وفي رواية: (أَنْ تَخْشَى اللهَ)(14) كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

** الصلاة هي أعظم عبادة يتحقق فيها وبها مقام الإحسان

 عن ابن عمرَ -رضي الله عنهما- قال أَتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، حدِّثني حديثاً واجعلْهُ مُوجزاً، فقالَ له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (صلِّ صلاةَ مُودِّعٍ كأنَّكَ تَراهُ، فإنْ كُنتَ لا تَراهُ فإنَّه يَراكَ).(15)

مشاهد الإحسان في الصلاة

فالعبد المصلي الخاشع المقبل على ربه في صلاته يتقلب فيها بين مرتبتي الإحسان وهما: مرتبة المشاهدة ومرتبة المراقبة، فإنه إذا انتصب قائما بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيوميته.....وإذا قال الله أكبر شاهد كبرياءه سبحانه

- وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، شاهد بقلبه رَبّا منزها عن كل عيب سالما من كل نقص محمودا بكل حمد،

- وإذا قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد آوى إلى ركنه الشديد واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه ويبعده عن قربه ليكون أسوأ حالا.

- فإذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: "حمدني عبدي".

 - فإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، انتظر الجواب بقوله: "اثنى علي عبدي"

- فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) انتظر جوابه: "مجدني عبدي"، فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه: (عبدي) ثلاث مرات فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدني، وأثنى علي عبدي، ومجدني عبدي"

- فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين فيشهد ملكا قاهرا قد دانتْ له الخليفة وعنت له الوجوه وذلَّت لعظمته الجبابرة وخضع لعزته كل عزيز.

- فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ففيها سرّ الخلق والأمر والدنيا والآخرة وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره.

- ثم يشهد الداعي بقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين.وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه....ثم بيّن أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمتة دون المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون الضالين وهم الذين عبدوا الله بغير علم.فسبيل المنعم عليه مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها علما وعملا.(16)

النتيجة: فإذا خرج العبد من صلاته وقد تحقق بمقام الإحسان، ظل هذا المعنى يغمره في كل أحواله وحالاته؛ فلا تجده إلا محسنا مع ربه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومحسنا مع الخلق في أقواله وأفعاله وأحواله وسلوكه، وما ذلك إلا بما حصّلَه من عظيم أثر صلاته.

الأثر الثالث : أنها توَثق صلة العبد بربه وسبب لمداومة  ذكره له

أولا: الصلاة لها من اسمها نصيب

ما سُميت الصلاة صلاةً إلا لما تحمله من معان سامية ورفيعة كفيلة بتوثيق صلة العبد بربه، ففي الصلاة يلتقي العبد بمولاه، به يستعين، وبه يستغيث، ومنه يطلب الهداية، يتحرك لسانه بالذكر، وينشغل عقله بالتأمل والفكر في معنى الذكر، وقلبه يخفق من عظمة اللقاء، فتشرق جنبات نفسه بالنور، فيرتفع عن الشهوات، ويبتعد عن الشبهات، ويقف عند حدود الله، يعظم ما عظم الله، وينأى عن ما حرم.

ثانيا: هي محل المناجاة بين العبد وربه

إنها الرباط الروحي الذي يصل المسلم بمولاه، فيزداد ثباتا واستقرارا، فلا تتزعزع عقيدته، ولا تضعف عزيمته، لأنه دائم الاتصال بالله(17)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ).(18)

ثالثا: الصلاة جمعت بين ذكر القلب واللسان

فأكثرُ الناس ذكرا لله بالقلب وباللسان أشدُّهم محافظةً على إقامة الصلاة في أوقاتها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها وخشوعها، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14].

أي لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان.(19)

قال أبو السعود: خُصت الصلاةُ بالذكر وأُفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكْر المعبودِ وشُغل القلبِ واللسانِ بذكره وذلك قوله تعالى (لذكري) أي لتذكرني فإنّ ذِكْري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادةِ والصلاة؛ أو لتذكُرني فيها لاشتمالها على الأذكار؛ أو لذكري خاصةً لا تشوبُه بذكر غيري؛ أو لإخلاص ذكري وابتغاءِ وجهي لا تُرائي بها ولا تقصِدُ بها غرضاً آخرَ؛ أو لتكون ذاكراً لي غيرَ ناسٍ.(20)

فإن مقصود الصلاة أن يظل العبد ذاكرا لربه بلقبه ولسانه على جميع أحواله؛ قال ابن تيمية: مقصود الصلاة دوام ذكر الله، قال أبو الدرداء: ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة ولو كنتَ في السوق.(21)

قال ابن القيم: ولما كان حمْدُ الله والثناء عليه وتمجيده هو مقصود الصلاة التي هي عماد الإسلام ورأس الطاعات، شرع ذلك في أولها ووسطها وآخرها وجميع أركانها.(22)

النتيجة: عبدٌ دائمُ الاتصال بربه فلن يَصِل إلى الناس منه إلا الخير؛ ومَن أصلح ما بينه وبين الله، أصلح اللهُ ما بينه وبين الناس.(23)

الأثر الرابع: أنها تورث العبد  دوام الإقبال على ربه وعدم الإعراض عنه

* الإقبال على الله جنة الدنيا: مَن أراد أن يجمع بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة فليُقبل على الله تعالى بكليته، فالإقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضاء به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته، ثوابٌ عاجل وجنةٌ وعيشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وكان إبراهيم بن أدهم يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.

وقال آخر: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره.(24)

فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه.(25)

فمن أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة.(26)

ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس في أحواله وأعماله وقارنه سوءُ الحال وفساده في دينه ومآله، فإن الربَّ تعالى إذا أعرض عن جهة دارتْ بها النُّحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرتْ عليها وحشة الإعراض وصارت مأْوى للشياطين وهدفاً للشرور ومصباً للبلاءِ، فالمحروم كلّ المحروم من عرف طريقاً إليه ثم أَعرض عنها.(27)

- الصلاة أعظم سبيل للإقبال على الله

 فمقصودها وروحها ولبُّها هو الإقبال على الله، قال ابن القيم: سرُّ الصلاة وروحُها ولبُّها هو إقبالُ العبد على الله بكلّيته؛ فالكعبة التي هي بيتُ الله قبْلةُ وجهه وبدنه، وربُّ البيت تبارك وتعالى هو قِبْلة قَلْبِه وروحه

- فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه فإقباله على قيوميته وعظمته

- وإذا كبَّر فإقباله على كبريائه، فإذا سبَّحه وأثنى عليه فإقباله على سُبُحاتِ وجهه، وتنزيهِه عما لا يليق به، والثناءِ عليه بأوصاف جماله

- فإذا استعاذ به فإقباله على ركنِه الشديد وانتصارِه لعبده ومَنْعِه له وحفظِه من عدوه

- فإذا تلا كلامه فإقباله على معرفته من كلامه، حتى كأنه يراه ويشاهده في كلامه، فهو كما قال بعض السلف: "لقد تجلَّى الله لعباده في كلامه".فهو في هذه الحال مُقبِلٌ على ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه.

- فإذا ركع فإقباله على عظمته وجلاله وعزِّه، ولهذا شرع له أن يقول: سبحان ربي العظيم.- فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على حمده والثناءِ عليه وتمجيدِه وعبوديته له وتفردِه بالعطاء والمنع

- فإذا سجدَ فإقبالُه على قربه والدنوِّ منه والخضوع له والتذلُّلِ بين يديه والانكسار والتملُّق.- فإذا رفع رأسه وجَثَا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمِه، وشدّة حاجته إليه، وتضرعه بين يديه والانكسار، أن يغفر له ويرحمه ويعافيه ويهديه ويرزقه.

- فإذا جلس في التشهد فله حال آخر وإقبال آخر، شِبْه حالِ الحاجِّ في طواف الوداع، وقد استشعر قلبُه الانصرافَ من بين يدي ربه، وموافاةَ العلائقِ والشواغلِ التي قطعَها الوقوفُ بين يديه، وقد ذاق تألم قلبه وعذابه بها، وباشرَ رَوْحَ القربِ ونعيمَ الإقبالِ على الله وعاقبَته، وانقطاعَها عنه مدةَ الصلاة، ثم استشعر قلبُه عودَها إليه بخروجه من حِمَى الصلاة، فهو يحملُ همَّ انقضاءِ الصلاة وفراغها، ويقول ليتَها اتصلتْ بيوم اللقاء، ويعلم أنه ينصرف من مناجاةِ مَن كلُّ السعادةِ في مناجاته، إلى مناجاةِ مَن الأذى والهمُّ والغمُّ والنَّكدُ في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا قلبٌ حيٌّ معمور بذكر الله ومحبته والأنسِ به.(28)

** على حسب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرض أعرض الله عنه

عَنْ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ اللهَ أَمْرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا نَصَبْتُمْ وُجُوهَكُمْ فلَا تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ حِينَ يُصَلِّي لَهُ، فلَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ هُوَ يَنْصَرِفُ).(29)

وعن أَبي ذَر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَزَالُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ).(30)

والالتفات في الصلاة قسمان:

أحدهما: التفات البصر، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: (هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ).(31)

 والثاني: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى، وكلاهما منهي عنه.

ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه.

والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فإذا قام العبد في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها.(32)

فإذا كان هذا التفات طرفه أو لحظه؛ فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله؟ هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية.

وقال ابن مسعود: لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته.(33)

وقال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في صلاة واحدة، وإن بينهما من الفضل لَكَما بين السماء والأرض، لأن أحدهما يكون مقبلا على الله بقلبه، والآخر ساه غافل.(34)

***  منازل إقبال العبد  على الله  في الصلاة

وللإقبالِ في الصلاة ثلاثُ منازلَ:

-إقبال العبد على قلبه، فيحفظه من الوساوس والخطراتِ المبطلةِ لثواب صلاته أو المُنقِصَة له

- وإقبالٌ على الله بمراقبتِه حتى كأنه يراه

- وإقبالٌ على معاني كلامه وتفاصيل عبوديةِ الصلاة ليُعطِيها حقَّها، فباستكمالِ هذه المراتب الثلاث تكون إقامةُ الصلاة حقًّا، ويكون إقبالُ الله على عبده بحسب ذلك.(35)

النتيجة: كما قال هرم بن حيان: ما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتَهم ورحمتهم.(36)

الأثر الخامس: أنها سببٌ لتزكية النفس  ونمائها

وتتحقق تزكية النفس بالمحافظة على الصلاة من وجوه منها:

1- أنها تمنع العبد من الوقوع في الذنوب والمنكرات ما دام فيها وما بقي في قلبه أثرُها

 تأتي الصلاة لتعالج النفس البشرية من نوازع الشر حتى تصفو من الرذائل، ويبتعد صاحبها عن كل منكر، فعندما يقف المسلم بين يدي ربه خاشعا، راكعا وساجدا، يرتبط بخالقه، فتسمو نفسه، ويشعر بعلو مكانته، فيبتعد عما يغضب خالقه، حيث استقر في نفسه مراقبة الله، فكلما حدثته نفسُه بالسوء تذكّر نعم الله عليه، فالله سبحانه هو الذي أحسن إليه بنعمة الوجود، فلا تطاوعه نفسه بفعل المعاصي.

ثمّ إنه يقرأ في الصلاة القرآن، ويتأمل الآيات، ويتدبر المعاني، فترِدُ عليه آيات العذاب، فترتعد نفسه، وتلتفت عن غيها، فإذا تمكّن من نفسه الخوف من الله، زجره ذلك عن كل فحشاء ومنكر...وترِدُ آيات الرحمة والنعيم والجنات، فتهفو نفسُه إلى نيل الدرجات، والفوز بالجنات، فتزداد خشيته لله، فيتقي عذابه، ويسعى لنيل رضاه والفوز بنعيمه، بالتواضع لأوامره واجتناب نواهيه(37)، قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]

قال ابن تيمية: وَهَذَا أَمر مجرب محسوس يجد الْإِنْسَان من نَفسه أَن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر.(38)

قال السعدي: ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها.(39)

- وأعظم المنكرات التي تنهى عنها الصلاة الشرك بالله، قال ابن القيم: فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفاً بما اشتملت عليه من الكلام الطيب والعمل الصالح، مهتما بها كلّ الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك.(40)

- بل إن الصلاة حصن للعبد من كل المنكرات حال إقامته و في سفره، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِذَا خَرَجْتَ مِنْ مَنْزِلِكَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، تَمْنَعانِكَ مَخْرَجَ السُّوْءِ، وَإِذَا دَخَلْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، يَمْنَعانِكَ مَدْخَلَ السُّوْءِ).(41)

فإذا أراد العبد الخروج وصلى ركعتين قبل خروجه، فالله عز وجل يحفظه بهاتين الركعتين عن الدخول في الأمر الخبيث والسيئ، ويحفظه مما يسوؤه، كذلك إذا دخل الإنسان إلى بيته ورجع من سفر فصلى ركعتين، فإن الله عز وجل يحفظه مما يسوؤه.(42)

وللخلوة بين يدي ملك الملوك بالليل الأثرُ الكبير في حفظ القلب والجوارح من الذنوب، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ).(43)

الوجه الثاني: كما أن الصلاة تمنع من الوقوع في الذنب فهي ترفعه إذا وقع فتزكي النفس

وهذا ما قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ فُلاَنًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ) يعني ستنهاه صلاته.(44)

قال الطيبي: قوله: (ما تقول) فاعل (سينهاه) يعني أن قولك (يصلي بالليل) يدل علي أنه محافظ علي الصلوات مداوم عليها؛ لأن من لا يدع الصلاة بالليل، فهو بأن لا يدعها بالنهار أحرى.فمثل تلك الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر فيتوب عن السرقة.وهذا معنى السين في ((ستنهاه)) لأن السين في تأكيد الإثبات، مقابلة لن في تأكيد النفي.(45)

قال ابن حجر: فمِثْل هذه الصلاة لا مَحالة تنهاه فيتوب عن السرقة قريبا، فالسين على أصلها من التنفيس ; إذ لابد من مزاولة الصلاة زَمنًا حتى يجد منها حالةً في قلبه تمنعه من الإثم.(46)

وجاء عن سفيان الثوري  في قوله تعالى عن قوم شعيب: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود: 87] قال سفيان: أي والله، تأمره وتنهاه.(47)

فالصلاة التامة تأمر صاحبها بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وإلا فعلى قدر النقص من حق الصلاة يكون نقص أثرها في الواقع، جاء عن ابن عباس في قوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45] قال: مَن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا.(48)

الوجه الثالث: أنّ لِما توجبه الصلاة مِن دوام ذكر الله بالقلب واللسان أعظم الأثر في تزكية النفس

فكون الصلاة تدفع عن العبد المكروه، إلا أن ما تجلبه للعبد من المحبوب أعظم وأكبر.

قال ابن تيمية: فالصَّلاةُ تَضمَّنَتْ شَيْئَيْن: أحدُهما دفعُ مكْرُوه وهوَ نَهْيُها عن الذُّنوب.والثانِي  تَحْصِيل مَحْبوب وهو ذِكْر اللَّهِ، وهوَ أكْبَرُ الأمرَيْنِ فما فيها مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أكْبَرُ مِنْ كَوْنِها ناهِيَةً عن الفحشاءِ وَالْمُنْكِرِ.(49)

فجمعت الصلاة للعبد بين تزكية قلبه وقالبه وإزكائها وهذا هو الفلاح الحقيقي، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14، 15]

قال أبو العالية: إن الصلاة فيها ثلاث خصال، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذا الخلال، فليست بصلاة: الإخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر وذكر الله القرآن يأمره وينهاه.(50)

قال ابن عطية: إن المصلي إذا كان على خشوع وإخبات وتذكر لله تعالى وتوهم للوقوف بين يديه، وكان قلبه مقبلا عليه، صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله.(51)

الوجه الرابع: الارتباط الوثيق بين إقامة الصلاة والحفظ من الشهوات والعكس بالعكس، فيتبيّن بذلك أنها أعظم سبيل لتزكية النفس

فلما حافظ المؤمنون على إقامة الصلاة، حفظهم  الله من الوقوع في الشهوات، ولما ضيّع قومٌ الصلاة فُتحتْ عليهم أبواب الشهوات وغشيَتْهم أمواجُها، قال الله تعالى عن قوم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 59]

فتأمل في الآية جيدا ترى أن إضاعة الصلاة كانت سببا في الوقوع في الشهوات لأن الصلاة هي أعظم رادع للعبد عن اقتراف المعاصي فإذا ضيعها انكسر الباب بينه وبين الشهوات

سؤال مهم: لماذا يقع كثير من المصلين في الذنوب والمعاصي؟

لعل السرّ في كثرة المصلين، وضعف أثر الصلاة في سلوكهم، هو أنهم لم يؤدوها إلا بهيئتها فقط، من قيام وركوع وسجود، ودعاء وتسبيح، وتكبير وتحميد، ولم يبلغوا درجة إقامتها تامة بحضور.(52)

قال البغوي: مَن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء، لا خشوع فيها ولا تذكّر ولا إقبال على الله فتلك صلاة تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على معصيةٍ تُبعده من الله تركتْه الصلاةُ يتمادى في بُعده، وعلى هذا يتخرج قول ابن مسعود وابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمَن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا.

وقال الحسن، وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وَبَالٌ عليه.(53)

الأثر السادس : أنها  تورث العبد انكسارا وخشية لله وخشوعا له

ففي الصلاة وبالصلاة يتحقق العبدُ بالخضوع والخشوع لربه ويظهر ذلك في:

1 القيام في الصلاة على قَدَم الذّلة بلا حركة  ووضع اليدين على الصدر درسٌ عظيم في الانكسار لله، قال تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]   عن مجاهدٍ قال: القنوتُ: الركونُ والخشوعُ وغضُّ البصرِ وخفض الجناح من رهبةِ اللَّه عز وجل.(54)

قال الرازي: الصلاة تفيدُ انكسار القلب من هيبة الله تعالى، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه، لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع.(55)

وقال الشاطبي: أصل مشروعية الصلاة، الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه.(56)

وقال ابن عباس في قوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون: 2]: خائفون ساكنون.(57)

2- الركوع والانحناء لله تعالى يغرس الخشية والهيبة لله في قلب العبد

فالخشوع فيه سكون وانخفاض وهذه هي صورة الركوع وحقيقته؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حال ركوعه (خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي).(58)    

فوصف نفسَه بالخشوع في حال الركوع؛ لأن الراكع ساكنٌ متواضع.(59)

وهو محل الخضوع والتعظيم كما قال -صلى الله عليه وسلم- (أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ).(60)

3 السجود ووضع الجبهة على الأرض أعظم ما يُعلِّم العبدَ الخشوع والانكسار لله تعالى

قال تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 109]

هذا ابن القيم يبين لنا مظاهر الخشوع في السجود فيقول: شرع الله للعبد أن يَخِرَّ ساجدًا في الصلاة، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، راغمًا له أنفه خاضعًا له قلبه، ويضع أشرفَ ما فيه وهو وجهه بالأرض ولاسيما على التراب، مُعفِّرا له بين يدي سيده، راغمًا له أنفه، خاضغا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمته، خاضعًا لعزته، مستكينًا بين يديه، أذلَّ شيء وأكسرَه لربه تعالى، مسبِّحًا له بعلوِّه في أعظم سفوله، قد صارت أعاليه ملويَّة لأسافله ذلًّا وخضوعًا وانكسارًا، وقد طابق قلبُه حال جسمه، فسجد القلب كما سجد الوجه، وقد سجد معه أنفه ويداه وركبتاه ورجلاه، فأحْرِ به في هذه الحال أن يكون أقربَ إلى ربه منه في غيرها من الأحوال، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).(61)

الأثر السابع: أنها تورث العبد تعظيم الله  ومن ثَمَّ تعظيم شرعه

فالصلاة وما فيها من إقرار لله بالربوبية، وما تشتمل عليه من خضوع لله، وقيام وركوع وسجود، هي ترويضٌ للنفس، وإذلال لكبريائها، وجعلها طيعة لقبول الأوامر الإلهية والعمل بها.(62)

قال الرازي: الصلاة تُذكِّر العبدَ جلال الربوبية وذلّ العبودية والثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة: 45].(63)

ومن مظاهر تعظيم العبد لربه في الصلاة أن الله تعالى:

شرع للمُصلِي رفع اليدين عند الركوع تعظيمًا لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو حلية الصلاة، وزينتها، وتعظيم لشعائرها.

- ثمّ شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن، فهو شعار الصلاة، كما أنَّ التلبية شعار الحج، ليعلم العبد أنَّ سرّ الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده.

- ثمّ شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمته واستكانةً لهيبته وتذللًا لعزته، فثنَى العبدُ له صُلبَه، ووضع له قامتَه، ونكَّس له رأسه، وحنَى له ظهره، معظمًا له ناطقًا بتسبيحه المقترن بتعظيمه، فاجتمع له خضوع القلب وخضوع الجوارح وخضوع القول، على أتم الأحوال، وجمع له في هذا الذكر بين الخضوع والتعظيم لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد، وأن الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب.

وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل بحيث يمحو تصاغُره كلَّ تعظيم منه لنفسه، ويُثبِت مكانه تعظيمَه لربه، وكلما استولى على قلبه تعظيمُ الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه، فالركوع للقلب بالذات والقصد، وللجوارح بالتبع والتكملة.(64)

الأثر الثامن: أنها ميزان الإيمان  وأعظم نتائجه وأشرف ثماره

يكمن السرّ من تتكرر الصلوات المفروضة، لتكون بمثابة صيانة مستمرة للعبد، يعرض المسلم نفسه على خالقه، فيظل في رحاب الله، تحرسه مراقبته، يستمد منه سبحانه طاقات إيمانية تعينه على شواغل الحياة، فلا ينخدع بفتن الدنيا، ولا تشغله شهواتها، لأن قلبه يشحن من صلاة إلى صلاة، بزادٍ عظيم يُنمي فيه دوافع الخير، ويقضي على دوافع الشر.(65)

قال ابن القيم: فالصلاة محَكُّ الأحوال وميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل و يتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه.فلا يَزنُ العبدُ إيمانَه ومحبتَه لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذى وزْنُه غير عائل؛ قال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يَزل في همٍّ وغَمٍّ حتى تحضر الصلاة فيزول همُّه وغمُّه.(66)

قال الله تعالى معظِّما شأن الصلاة، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) [البقرة: 143]

قال ابن كثير: أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.(67)  

وقال النووي: أجمعوا على أن المراد صلاتكم.(68)

وأطلق اللهُ اسمَ الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه، ولأن الصلاة أول أعمال الإسلام، وأصل أعمال الإيمان؛ ولاشتمالها على نية وقول وعمل.(69)

وسمى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصلاة إيمانا كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ وفدَ عبد القيس لما قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ: بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ، قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ...).(70)

قال البيهقي: ليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادةٌ سماها الله عز وجل إيمانا، وسمى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ترْكَها كفرا إلا الصلاة.(71)

وبيَّن النبيُّ  -صلى الله عليه وسلم- أن الصلاة هي الحدّ الفاصل بين الكفر والإيمان، عن جَابِر بن عبد الله قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ).(72)

وعن عَبْد اللهِ بْن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ  -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ).(73)

لذلك قَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: لا حَظَّ فِي الْإِسْلامِ لِمَنْ تَركَ الصَّلاةَ.وقالَ عبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: لَا دِينَ لِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ.(74)

وقال عبد الله بن شقيق العقيلي: كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يرون شيئا من الأعمال تركُه كفرٌ غيرَ الصلاة.(75)

الأثر التاسع: أنها تورث العبد محبة  الله  حتى تصير طاعته قرة عينه

إذا تمكنت محبة الله من قلب العبد صارت طاعته قرة عينه ونعيم روحه، فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه: في طاعة محبوبه.بخلاف المطيع كرها، المتحمل للخدمة همّا وثقلا.(76)

فإذا قام المحبّ إلى الصلاة هرب من سوى الله إليه وآوى عنده واطمأن بذكره وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته، فلا شيء أهم إليه من الصلاة، كأنه في سجن وضيق وغمّ حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انفسخ وانشرح واستراح.(77)

وتأمل حال أصدق وأعظم المحبين لرب العالمين -صلى الله عليه وسلم- حين قال: (حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ).(78)

قال ابن الحاج: وما ذاك إلا لما اشتملت عليه الصلاة من المعاني العلية الشريفة.(79)

وتأمَّلْ قولَه: "جُعِلتْ قرةُ عيني في الصلاة"، ولم يقل "بالصلاة" إعلامًا بأن عينَه إنما تَقَرُّ بدخوله فيها، كما تَقَرُّ عينُ المحب بملابسته لمحبوبه، وتَقَرُّ عينُ الخائفِ بدخوله في محل أمنِه، فقرةُ العين بالدخول في الشيء أكملُ وأتمُّ من قرة العين به قبل الدخول.(80)

وقرةُ العين فوق المحبَّة، فإنَّه ليْس كل مَحْبوب تقرُّ به العين وإنَّما تَقرُّ الْعين بأعلَى المحبوبات.(81)

فالمؤمنون تقر أعينهم بالمثول بين يدي مولاهم في الصلاة أعظم مما تقر عيون أهل الدنيا بمقابلة حكامهم والحظوة منهم ولهذا كان علامة الإيمان المسارعة إلى الصلاة وعلامة صحة القلب وسلامته من أمراض الفتنة فرحته بالصلاة وتلذذه بطول إقامتها دون أن يخطر بباله الخروج منها وعلى العكس مريض القلب الذي إن صلاها فصلاته تشبه العادة يأتي بها من غير وعي وإحساس ويرتقب انتهاءها والخروج منها بسرعة حتى أن كثيراً من الناس يشكو الإمام الذي يطيل الصلاة ويهجر مسجده إلى غيره فمثل هذا لا ينتفع بصلاته إلا قليلاً.(82)

قال بعض السلف: إني أدخل الصلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا عرفت أنى خارج منها.(83)

الأثر العاشر: أنها سبب للراحة وهدوء البال وانشراح الصدر

ويتحقق الشعور بالراحة وهدوء البال من عدة وجوه:

1 أن الصلاة ذكرٌ ومناجاة لله وذكر الله سبب لاطمئنان القلوب وانشراح الصدور، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28]

2 في الصلاة يُقرأ القرآن الذي هو مادة حياة القلوب وشفاؤها، قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال: 2]

3 في الصلاة راحة من مشاغل الدنيا وعناءها

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتْ الصَلَاةُ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ، ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ، قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَلَاةِ).(84)

أي أقِمْها لنستريحَ بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى نُزلِه وقرّ فيه وسكن.

وتأمَّلْ كيف قال: أرِحْنا بها، ولم يقل: أرِحْنا منها، كما يقوله المتكلف بها الذي يفعلها تكلفًا وغُرمًا، فهو لما امتلأ قلبه بغيرها وجاءت قاطعةً عن أشغاله ومحبوباته، وعلم أنه لابدّ له منها، فهو قائل بلسان حاله وقالِه: نصليِّ ونستريح من الصلاة، لا بها، فهذا لونٌ وذاك لون آخر، فالفرق بين مَن كانت الصلاة لحوائجه قيدًا ولقلبه سجنًا ولنفسه عائقًا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة، ولحوائجه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة.(85)

4 في الصلاة مفزعٌ عند نزول النائبات وحلول المدلهمات

عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى).(86)

وكان حذيفة -رضي الله عنه- إذا أحزنه أمرٌ صلى.(87)

وقَالَ ثَابِت البناني: كَانَتِ الأَنْبِيَاء إِذَا نزل بهم أمرٌ فزعوا إلى الصلاة.(88)

5 وبالصلاة يتخلص العبد من ضيق الصدر، قال الله تعالى لنبيه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الحجر: 97، 98]

قال الشنقيطي: اعلم أن ترتيبه - جل وعلا - الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره -صلى الله عليه وسلم- بسبب ما يقولون له من السوء، دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه ; ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.

وقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة: 45] فأوصى الله عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين.(89)

ويؤيد هذا حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنهما- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (قال اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْن آدم اركع لي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ: أَكْفِكَ آخِرَهُ).(90)

فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه ; أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها.(91)

الأثر الحادي عشر : أنها نور للعبد في دنياه وفي قبره وفي آخرته

 فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَاةُ نُورٌ).(92)

قال المناوي: أي تنور وجه صاحبها في الدنيا وتكسبه جمالا وبهاءً، كما هو مشاهد محسوس و تنور قلبه لأنها تُشرق فيه أنوار المعارف ومكاشفات الحقائق، فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة، ولأنها تمنع عن المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به.(93)

قال ابن رجب: فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم، تشرق بها قلوبهم، وتستنير بصائرهم ولهذا كانت قرة عين المتقين، وهي نور للمؤمنين في قبورهم، ولاسيما صلاة الليل، كما قال أبو الدرداء: صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور.وكانت رابعة قد فترت عن وردها بالليل مدة، فأتاها آت في منامها فأنشدها:

صلاتك نور والعباد رقود...ونومك ضد للصلاة عنيد

وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة، وعلى الصراط، فإن الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم.(94)  فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا فَقَالَ: (مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا؟ كَانَتْ لَهُ نُورًا، وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ، وَلاَ بُرْهَانٌ، وَلاَ نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ).(95)

 وعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (بَشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ).(96)

الأثر الثاني عشر : أنها تورث العبد حسن التوكل على الله وكمال التفويض له في جميع أموره

قال تعالى آمرا نبيه -صلى الله عليه وسلم- وجميع المؤمنين: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ) [طه: 132]

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثةٌ كلّهم ضامنٌ على الله إنْ عاش رُزِق وكُفِيَ، وإنْ ماتَ أدخلهُ الله الجنّةَ،..وذكر منهم: ومَن خرج إلى المسجدِ فهو ضامنٌ على الله).(97)

- وكذلك شرع لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الإقدام على أمر من الأمور المباحة والمشروعة، أن نصلي ركعتين استخارة ليكون ذلك أعظم في تفويض العبد لربه وتمام توكله عليه في كل أمره.

- ومدح اللهُ أهلَ المحافظة على الصلاة والمداومة عليها، وما حملهم على ذلك إلا ثقتهم بربهم، فقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36 - 37]

الأثر الثالث عشر: أنها تشعر العبدَ  بالقرب من الله  والأُنس  به والتلذذ بمناجاته

جعل الله الصلاة سببًا موصلًا للعبد إلى قربه ومناجاته ومحبته والأنس به.(98) فعندما يقف المصلي في رحاب الله، ليس بينه وبين الله واسطة، فيشعر بالقرب من الله، ويشعر بمعية الله له، فتمتلئ جوارحه بالأمن والطمأنينة والثقة واليقين، فيخشع راكعا، ويخشع ساجدا، يستمد العون والتأييد، قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ).(99)

قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وذلك لأن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته.وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه: الصلاة، كما قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19].(100)  أي وَاسْجُدْ لربك وَاقْتَرِبْ منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات، فإنها كلها تُدني من رضاه وتُقرِّب منه.(101)

فربط بين السجود والاقتراب من الله، وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله.(102)

 وتأمل هذه الأحاديث بعين بصيرتك، عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ(103)، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ).(104)

فالساجد يقرب الربّ إليه فيدنو قلبُه من ربه وإن كان بدنه على الأرض.(105)

وتأمل مدى القُرْب حتى صارت الصلاة مناجاة بين العبد وربه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ).(106)

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِي رَبَّهُ).(107)

قال ابن حجر: الصلاة هي محل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وربه.(108)

وتأمل جلال وجمال القرب ولذة الأنس في هذه القسمة الربانية، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ).(109)

الأثر الرابع عشر :أنها ترسخ  مبدأ العدل والمساواة بين المسلمين

ففي الصلاة يُلمس معنى إيماني رفيع ألا وهو ترسيخ مبدأ  العدل والمساواة بين أفراد الأمة، ويظهر هذا المعنى في عدة أشياء:

- فيستوي في فرْضية الصلاة الذكر والأنثى والحر والعبد والغني والفقير

- وكذلك لا فرق بينهم في الأجر المترتب على القيام بها إلا من جهة إكمالها أو نقصانها

- وكذلك في صلاة الجماعة تظهر المساواة بين المسلمين، إذ يقف الأمير إلى جانب الفقير والغني في جوار المسكين، والسيد في محاذاة الخادم، فليس في المسجد لائحة تخصص الصف الأول للوزراء والصف الثاني للنواب، والصف الثالث للمدير وإنما الجميع سواسية كأسنان المشط فمن بكَّر في الذهاب إلى المسجد احتل مكانه في مقدمته أيّاً كانت منزلته وأيّاً كان عمله في الناس.

الأثر الخامس عشر:أنها سبيل للاعتراف بالنعم  وشكر المنعم

فمن خلالها تُشكر النعم، ويُحمد الإله ويُثنَى عليه، فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-  يصلي حتى تورمت قدماه، فقيل له: أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: (أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).(110)

وفي هذا الحديث ما فيه من عظيم أدبه -صلى الله عليه وسلم- وتأديبه لأتباعه وأمته، حيث بيّن أن الشكر هو أصل العبودية وقوامها، وأن الصلاة هي أعظم مظاهر شكر النعم والثناء على المنعم، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى).(111)

ويتجلى في الصلاة أعظم مظاهر شكر النعم والثناء على المنعم، إذ تشترك كل الجوارح في أعمال الصلاة، ويوضح هذا المعنى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال (إِنَّ فِي الصَّلاَةِ لَشُغْلًا).(112)

أي شغلا وأيّ شغل أعظم من الاشتغال بالصلاة؛ لأنها مناجاة مع الله تبارك وتعالي، واستغراق في خدمته.(113)

فالوجه متوجه لبيت الله والقلب متوجه لرب البيت منطرح بين يديه، واللسان يلهج بحمد الله والثناء عليه وتسبيحه وذكره وتلاوة آياته، وسائر الأعضاء مشغولة بأعمال الصلاة، وبما يناسبها من حركاتها وأفعالها، فالعبد مقبلٌ بقلبه وقالبه حال صلاته على ربه اعترافا بنعمه وقياما ببعض شكره، ولا أحد من خلقه يحصي ثناء عليه سبحانه.

الأثر السادس عشر :أنها تمد العبد بقوة روحية وبقوة بدنية

فالصَّلاة تمدّ المؤمن بقُوة روحية تعينه على مُواجهة المشقات والمكاره فِي الحياة الدنيا، قَالَ تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45] وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]

- والصَّلاة غذاء روحي للمؤمنِ يُعينه على مقاومة الجزع والهلع عنْد مَسّه الضّر، والمَنْع عنْد الْخَيْر والتغلب على جوانِب الضعف الإنساني، قال تعالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج: 19 - 23]

الأثر السابع عشر : الشعور بوحدة الأمة ونبذ العصبية بكل ألوانها

عندما يتجه المصلون في أنحاء الدنيا إلى القبلة، يشعر المسلم بالتآلف والوحدة، ونبذ الفرقة، فلا مكان للون أو جنس أو طبقية، فكلنا عبيد لله، إلهنا واحد، وديننا واحد، وقبلتنا واحدة، لا فرق بين غني وفقير، وعظيم وحقير، يعيش آلام إخوانه المسلمين وآمالهم، فيصبح عنصرا فعالا في مجتمعه، لبنة صالحة في بناء أمته.(114)

الأثر الثامن عشر : أنها تعود المسلم النظام ودقة المواعيد

في الصلاة تدريب للمسلم على النظام وتعويد له على الطاعة ويظهر هذا واضحا في:

- ارتباط الصلوات المفروضات بمواقيت محددة شرعا (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103]

- صلاة الجماعة إذ يقف المسلمون في صفوف مستقيمة متلاصقة فلا عوج ولا فرج المنكب إلى المنكب والقدم إلى القدم فإذا كبر الإمام كبروا وإذا قرأ أنصتوا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا، من خرج على هذا النظام فكأنما خرج على الإنسانية وانحط إلى مستوى الحيوانية(115)، فعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ  إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ).(116)

تعوده الصلاة على الدقة في الموعد، والحرص على الوقت، تنظم له أوقاته، فيتعود النظام في جميع أمور حياته

الأثر التاسع عشر: أنها سبب للإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة

قال الشنقيطي: العبد إذا قام بين يدي ربَّه يناجيه، ويتلو كتابه هان عليه كل ما في الدنيا رغبة فيما عند الله ورهبة منه، فيتباعد عن كل ما لا يرضي الله فيرزقه الله ويهديه.(117)

فمن أعظم الآثار الإيمانية للصلاة، الإعراض بالقلب عن الدنيا والإقبال على الآخرة ويتحقق ذلك في الصلاة من عدة جهات:

- التوجه إلى القبلة بالوجه وإلى الله بالقلب وترك الدنيا خلف الظهر (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]

- دعاء الاستفتاح الذي يقوله المصلي بعد تكبيرة الإحرام: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).(118)

- بتكبيرة الإحرام يمتنع المصلى من الطعام والشراب والكلام وكل ما يتعلق بأمور الدنيا، ويقبل على الآخرة بقلبه وجوارحه، (إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ).(119)

- وكذلك وردَ النهي عن الالتفات في الصلاة، عَنْ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ اللهَ أَمْرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا نَصَبْتُمْ وُجُوهَكُمْ فلَا تَلْتَفِتُوا).(120)

مشاهد الصلاة التي تؤتي ثمارها وتترتب عليها آثارها

قال ابن القيم: وممَّا يَنْبغِي أن يُعلم أن الصَّلاة التِي تقر بها العين ويستريح بها القلب هيَ التِي تجمع سِتَّة مشاهد

المشهد الأول الْإِخْلَاص: وَهُوَ أَن يكون الْحَامِل عَلَيْهَا والداعي إِلَيْهَا رَغْبَة العَبْد فِي الله ومحبته لَهُ وَطلب مرضاته.

المشهد الثانِي مشهد الصدْق والنصح

 وَهُوَ أَن يفرغ قلبه لله فِيهَا ويستفرغ جهده فِي إقباله فِيهَا على الله وَجمع قلبه عَلَيْهَا وإيقاعها على أحسن الْوُجُوه وأكملها ظَاهرا وَبَاطنا فَإِن الصَّلَاة لَهَا ظَاهر وباطن فظاهرها الْأَفْعَال الْمُشَاهدَة والأقوال المسموعة وباطنها الْخُشُوع والمراقبة وتفريغ الْقلب لله والإقبال بكليته على الله

المشهد الثَّالِث: مشهد الْمُتَابَعَة والاقتداء

 وَهُوَ أَن يحرص كل الْحِرْص على الِاقْتِدَاء فِي صلَاته بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَيُصلي كَمَا كَانَ يُصَلِّي

المشهد الرَّابِع: مشهد الْإِحْسَان

وَهُوَ مشْهد المراقبة وَهُوَ أَن يعبد الله كَأَنَّهُ يرَاهُ وَهَذَا المشهد إِنَّمَا ينشأ من كَمَال الْإِيمَان بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته

ومشهد الْإِحْسَان أصل أَعمال الْقُلُوب كلهَا فَإِنَّهُ يُوجب الْحيَاء والإجلال والتعظيم والخشية وَيجمع الْقلب والهم على الله....فحظ العَبْد من الْقرب من الله على قدر حَظه من مقَام الْإِحْسَان

المشهد الْخَامِس: مشهد الْمِنة

وَهُوَ أَن يشْهد أَن الْمِنَّة لله سُبْحَانَهُ كَونه أَقَامَهُ فِي هَذَا الْمقَام وَأَهله لَهُ ووفقه لقِيَام قلبه وبدنه فِي خدمته فلولا الله سُبْحَانَهُ لم يكن شَيْء من ذَلِك كَمَا كَانَ الصَّحَابَة يحدون بَين يَدي النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ

وَالله لَوْلَا الله مَا اهتدينا...وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا

وَفِيه من الْفَوَائِد أَنه يحول بَين الْقلب وَبَين الْعجب بِالْعَمَلِ ورؤيته

المشهد السَّادِس: مشْهد التَّقْصِير

 وَأَن العَبْد لَو اجْتهد فِي الْقيام بِالْأَمر غَايَة الِاجْتِهَاد وبذل وَسعه فَهُوَ مقصر وَحقّ الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ أعظم وَالَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يُقَابل بِهِ من الطَّاعَة والعبودية والخدمة فَوق ذَلِك بِكَثِير وَأَن عَظمته وجلاله سُبْحَانَهُ يَقْتَضِي من الْعُبُودِيَّة مَا يَلِيق بهَا

وملاك هَذا الشأن أَربَعة أمور

نِيَّة صَحِيحَة وَقُوَّة عالية يقارنهما رَغْبَة وَرَهْبَة

فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة هِيَ قَوَاعِد هَذَا الشَّأْن وَمهما دخل على العَبْد من النَّقْص فِي إيمَانه وأحواله وَظَاهره وباطنه فَهُوَ من نُقْصَان هَذِه الْأَرْبَعَة أَو نُقْصَان بَعْضهَا.(121)

---

(1) الكلام على مسألة السماع لابن القيم (1/ 86)

(2) القناعة والتعفف لابن أبي الدنيا (ص: 72)

(3) وصف مفصل للصلاة للطيار (ص: 16)

(4) العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع لمحمود شيخون (ص: 94) بتصرف

(5) الوابل الصيب (ص: 21)

(6) تفسير ابن رجب الحنبلي (1/ 423)

(7) حلية الأولياء (8/ 153) وصفة الصفوة (1/ 422)

(8) وصف مفصل للصلاة (ص: 84)

(9) رواه الترمذي (55) من حديث عمر -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 95)

(10) الكلام على مسألة السماع (1/ 93)

(11) تحفة الذاكرين للشوكاني (ص: 156)

(12) رواه البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(13) رواه أحمد وصححه شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند، ط الرسالة (1/ 316)

(14) رواه مسلم (10) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

(15) رواه الطبراني في الأوسط (4427) والمخلص في المخلصيات (1121) وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/ 547)

(16) الصلاة وأحكام تاركها (ص: 141 - 145) باختصار

(17) وصف مفصل للصلاة (ص: 83)

(18) رواه البخاري (405) ومسلم (551)  

(19) تفسير القاسمي (7/ 121)

(20) تفسير أبي السعود (6/ 8)

(21) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 468)

(22) الصواعق المرسلة (4/ 1474)

(23) حلية الأولياء (4/ 247)

(24) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 48)

(25) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 71)

(26) بدائع الفوائد (2/ 245)

(27) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 181)

(28) الكلام على مسألة السماع (1/ 113 - 115)

(29) رواه أحمد (4/ 130) وابن خزيمة (483) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 358)

(30) رواه أحمد (5/ 172) وأبو داود (909) وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 360)

(31) رواه البخاري (751)

(32) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 21)

(33) مدارج السالكين (2/ 94)

(34) الزهد والرقائق لابن المبارك (2/ 24) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 21)

(35) الكلام على مسألة السماع (1/ 114)

(36) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 154)

(37) وصف مفصل للصلاة للطيار (ص: 22)

(38) الاستقامة (1/ 318)

(39) تفسير السعدي (ص: 632)

(40) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 214)

(41) رواه المخلص في المخلصيات  (12 / 69 / 1) والبزار في المسند (81) و الديلمي في مسنده (1 / 1 / 108) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 315)

(42) شرح كتاب الجامع لأحكام العمرة والحج والزيارة – لأحمد حطيبة (1/ 15 )

(43) رواه الترمذِيّ (3594) والطبراني (7466) وحسنه الألباني بشواهده في مشكاة المصابيح (1/ 387)

(44) رواه أحمد (2/ 447) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 389)

(45) شرح المشكاة للطيبي (4/ 1210)

(46) مرقاة المفاتيح للهروي (3/ 931)

(47) تفسير ابن كثير (6/ 281)

(48) تفسير ابن كثير (6/ 281)

(49) مجموع الفتاوى (10/ 753)

(50) تفسير ابن كثير (6/ 282)

(51) تفسير ابن عطية (4/ 319)

(52) وصف مفصل للصلاة للطيار (ص: 23)

(53) تفسير البغوي (6/ 244)

(54) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 19)

(55) تفسير الرازي (6/ 482)

(56) الموافقات (3/ 142)

(57) تفسير الطبري (17/ 10)

(58) رواه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-

(59) القواعد النورانية لابن تيمية (ص: 75)

(60) رواه مسلم (479) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(61) الكلام على مسألة السماع (1/ 104)

(62) وصف مفصل للصلاة (ص: 21)

(63) تفسير الرازي (6/ 482)

(64) الكلام على مسألة السماع (1/ 103)

(65) وصف مفصل للصلاة (ص: 24)

(66) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 307)

(67) تفسير ابن كثير (1/ 458)

(68) شرح النووي على مسلم (1/ 149)

(69) تفسير القرطبي (2/ 157) والفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 116)

(70) رواه البخاري (53) ومسلم (17)

(71) شعب الإيمان (4/ 288)

(72) رواه مسلم (82)

(73) رواه أحمد (5/ 346) والترمذي (2621) وصححه الألباني في صحيح الجامع(2/ 760)

(74) تعظيم قدر الصلاة (2/ 1003)

(75) رواه الترمذي (2622) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 183)

(76) مدارج السالكين (2/ 102)

(77) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 307)

(78) رواه أحمد (3/ 128) والنسائي (7/ 61) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 599)

(79) المدخل لابن الحاج (2/ 189)

(80) الكلام على مسألة السماع (1/ 117)

(81) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 31)

(82) الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، للشيخ عبد الرحمن الدوسري(ص: 113)

(83) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 321)

(84) رواه أحمد ( 23202 ) وأبو داود (4986)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 393)

(85) الكلام على مسألة السماع (1/ 117)

(86) رواه أبو داود (1319) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 858) ومعنى حَزَبَهُ: نابَهُ، وَأَلَمَّ بِه، واشتدَّ عليه.

(87) بدائع الفوائد (4/ 113)

(88) تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2442)

(89) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 12)

(90) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ (475) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 412)

(91) أضواء البيان (2/ 323)

(92) رواه مسلم (223)

(93) فيض القدير (4/ 291) و (4/ 246)

(94) جامع العلوم والحكم (2/ 23)

(95) رواه أحمد (2/ 169) وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند  (11/ 142)

(96) رواه الترمذي (223) وصححه الألباني لغيره في صحيح الجامع (1/ 545)

(97) رواه أبو داود (2494) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 248)

(98) الكلام على مسألة السماع (1/ 92)

(99) وصف مفصل للصلاة (ص: 18)

(100) جامع العلوم والحكم (2/ 336)

(101) تفسير السعدي (ص: 930)

(102) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/ 29)

(103) وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستواءه على عرشه.بل يجامعه ويلازمه.فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض.تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.ولكنه نوع آخر.والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي.ويجده أقرب إليه من جليسه.كما قيل.

ألا رب من يدنو.ويزعم أنه...يحبك.والنائي أحب وأقرب

وأهل السنة أولياء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وورثته وأحباؤه، الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم.وأحب إليهم منها: يجدون نفوسهم أقرب إليه.وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها.هذا مع عدم تأتي القرب منها.فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء، وهو مستو على عرشه.مدارج السالكين (2/ 255)

(104) رواه مسلم (482)

(105) مجموع الفتاوى (5/ 509)

(106) رواه البخاري (405) ومسلم (551)

(107) رواه أحمد (2/ 67) وصححه الألباني في  مشكاة المصابيح (1/ 271)

(108) فتح الباري لابن حجر (11/ 345)

(109) رواه مسلم (395)

(110) رواه البخاري (4837) ومسلم 2820) 

(111) رواه مسلم (720)

(112) رواه البخاري (1216) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-

(113) شرح المشكاة للطيبي (3/ 1069)

(114) وصف مفصل للصلاة (ص: 24)

(115) العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع (ص: 91)

(116) رواه البخاري (691) ومسلم (427)

(117) أضواء البيان (1/ 35)

(118) رواه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

(119) رواه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-

(120) رواه أحمد (4/ 130) وابن خزيمة (483) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 358)

(121) رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 34)