الأولاد بين المنحة والمحنة
المبحث الأول: عناية الإسلام بشأن الأولاد
الثاني: الأولاد إما نعمة أو نقمة
الثالث: رسالة إلى الآباء
المبحث الأول: عناية الإسلام بشأن الأولاد.
من أهم ما يطمح إليه الإنسان في دنياه، ومن أعز الأمنيات على قلبه، وأجمل الرغبات في نفسه: أن يرزقه الله ذرية طيبة وولدًا صالحًا؛ وقد وصف الله عزَّ وجلَّ عباده بأنهم يدعونه أن يهب لهم ذرية نقية صالحة تسعدهم، يقول الله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
فالأولاد نعمة كبرى على الناس؛ تملأ حياتهم بهجة وسرورًا، وتمنحهم راحة واستقرارًا، ويعيشون سعادة وأمانًا.
وهم مصابيح البيوت، وقرة العيون، وفلذات الأكباد، وبهجة الأعياد، ونبض المجتمعات، وهم أحباب الرحمن، وهم زهرة اليوم وثمرة الغد وأمل المستقبل، ويقاس بنضجهم وتقدمهم ونجاحهم تقدم الأمم ونجاحها.
ولما كان الأولاد بهذه المنزلة اهتم الإسلام بهم وجودًا ورعاية ومن هذه الأمور ما يلي:
مشروعية الزواج والنهي عن التبتل، طلبًا للذرية الصالحة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]
والمعنى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ، يَا مُحَمَّدُ، رَسُولًا بَشَرِيًّا كَذَلِكَ قَدْ بَعَثْنَا الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَأْتُونَ الزَّوْجَاتِ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذَرِّيَّةً.(1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(2)
ونهى عن التبتل وبين أنه ليس من سنته في خبر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(3)
ترغيب الإسلام في اختيار الزوجة الصالحة الولود
حثَّ الإسلام الرجل المسلم على البحث عن الزوجة الصالحة؛ لأنها شريكة حياته، وهي التي سوف تربي أولاده، وهي نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72]
ومما ينبغي للرجل المسلم أثناء بحثه عن الزوجة الصالحة ألا يغفل عن المرأة الولود الودود؛ فإن الزواج بالمرأة الصالحة التي لا تلد لا يكون مساعدًا على إنجاب الأولاد، الذين سوف يخدمون الإسلام، وقد ورد في هذا الجانب نصوص من الشريعة الإسلامية تحث على الزواج بالمرأة الولود الودود، فقد أخرج أبو داود بسنده عن معقل بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ".(4)
سؤال الله الذرية الصالحة من الأنبياء وعباد الله الصالحين
إبراهيم عليه السلام {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 100، 101] أي: {رَبِّ هَبْ لِي} ولدًا يكون {مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك عند ما أيس من قومه، ولم ير فيهم خيرًا، دعا الله أن يهب له غلامًا صالحًا، ينفع الله به في حياته، وبعد مماته، فاستجاب الله له.(5)
زكريا عليه السلام: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] أي: دعا زكريا عليه السلام ربه أن يرزقه ذرية طيبة، أي: طاهرة الأخلاق، طيبة الآداب، لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم.فاستجاب له دعاءه.(6)
وكما حكى عن الصالحين أن من صفاتهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
الفرح بمقدم الأولاد، والحذر من التسخط منهم
فالأولاد هبة من الله عر وجل واللائق بالمسلم أن يفرح بما وهبه الله، سواء كان ذلك ذكرًا أم أنثى، ولا ينبغي للمسلم أن يتسخط بمقدمهم، أو أن يضيق بهم ذرعًا، أو أن يخاف أن يثقلوا كاهله بالنفقات؛ فالله عز وجل هو الذي تكفل برزقهم كما قال سبحانه وتعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] فجعَل الرِّزق لهم، والآباء تبعًا، وفي آية الأنعام: (نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151]، جعَل الرِّزقَ للآباء، والأولاد تبعًا لهم؛ أي: أيها الآباءُ والأبناء، استوصوا ببعضِكم خيرًا، لا تدرون مَن يُرزَقُ بسبب مَن.
وقد شرَط الله على المسلمات قبل مبايعة الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- لهن أمورًا كثيرة، منها: ألا يقتُلْن أولادهن لكي تتمَّ البيعة؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12]
وكما أخَذ البيعة على النساء بعدم قتل الأولاد، أخَذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صحابته أيضًا؛ فقال "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ.."(7)
التحذير من التشاؤم بالبنت وتحريم وأدها
فهذا- قبل أن يكون خللًا في التربية- خلل في العقيدة، فبعض الناس إذا رزقه الله بنتًا تسخط بها، وضاق ذرعًا بمقدمها، ولا شك أن هذا الصنيع من أعمال الجاهلية وأخلاق أهلها، الذين ذمهم الله عز وجل في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58- 59]
ففضل البنات لا يخفى، فهن البنات، وهن الأخوات، وهن الزوجات، وهن الأمهات، وهن - كما قيل - نصف المجتمع، ويلدن النصف الآخر، فهن المجتمع بأكمله.
فكانوا يقتلون البنات وهن أحياء فحرم الله تعالى ذلك قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9]
وعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ.."(8)
وفضل تربية البنات والإحسان إليهن ثابت في الأحاديث الصحيحة، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: " مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ"(9)
المبحث الثاني: الأولاد إما نعمة أو نقمة
الله عز وجل قد بين لنا أن أولادنا نعمة أو نقمة: قال تعالى{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14] وقال تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] هذا في جانب الخطر.
وفي الجانب الآخر قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] وقال {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]
فالولد إما أن يكون قرة عين يسرك أن تلقاه في الدنيا وتجتمع به في الجنة في الآخرة، وإما أن يكون فتنة وعدوًا تقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38].
كيف يكون هذا وكيف يحصل؟ هذا ما نبينه: -
أولًا: الأولاد نعمة
الأولاد زينة: اعتبرت الشريعة الإسلامية الذرية من مظاهر الأنس والبهجة في الحياة، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] وَإِنَّمَا كَانَ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ فِي الْمَالِ جَمَالًا وَنَفْعًا، وَفِي الْبَنِينَ قُوَّةً وَدَفْعًا، فَصَارَا زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.(10)
الأولاد هبة: قال الله عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50].
جَعَلَ الله النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا، فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا يُولَدُ لَهُ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ} أَيْ: بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، {قَدِيرٌ} أَيْ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ، مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.(11)
وقال مذكرًا خلقه بهذه النعمة وممتنا عليهم بها: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [سورة الإسراء الآية 6].وقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [سورة الشعراء الآية 133].وقال: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [سورة نوح الآية 12].
الأولاد سبب في نماء العمل وزيادته إلي يوم القيامة: اعتبرت الشريعة الإسلامية الأولاد من مصادر النفع والخير في الحياة الدنيا، وبعد الممات فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ "(12)
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ "(13)
لذلك لما علم الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذا الثواب والأجر رفعوا شعارًا واحدًا ألا وهو أولادنا أولًا.
فاعلموا أيها الآباء أن الأولاد أمانة ومسؤولية أمام الله عز وجل..
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ.."(14)
قال الغزالي: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه.(15)
ثانيًا: الأولاد فتنة
النفس مجبولة على محبة الأولاد، وإن من الأولاد ما يكون صديقًا معينًا على الطاعة، ومنهم من يكون عدوًا معينًا على المعصية، قد يكونون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة والإصلاح بها في الأرض، وقد يكونون نقمة يبتلى الله بها عبده يشقى بسببهم.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
أَيِ: اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ.لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، فَلَا تُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.(16)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14]
هذه العداوة ليست لذاتها وإنما لما ينتج عنها:
يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم.
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك.(17)
فتنة الأولاد عند الرزق وعند الحرمان:
كثير من المسلمين عندما يتزوج يكون شغوفًا على الذرية فإذا ما رزق بالبنت يتغير حاله مع أن الله تعالى هو المتصرف في ملكه وهذه هبة من الله تعالى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50] ونخشى أن يكون حاله كحال من أخبر الله عنهم بقوله{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] فهذه فتنة، والأخرى عندما يحرم من الولد فتراه يتسخط ولا يرضى بقضاء الله وقدره مع أن هذا اختبار من الله تعالى {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}
والعبد لا يدري أين يكون الخير قال تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] فقد يكون في الحرمان نعمة، فلو رزق به لكان نقمة على والديه واعتبر بحال الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام كمال قال تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81]
وكان ذلك الغلام قد قُدِّر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، (18) أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟ " وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه، ولهذا قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.(19)
فتنة التفاخر بالأولاد:
المال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة الله، ولقد أخبر الله تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل، وما أوقعهم في ذلك إلا بالتفاخر بالمال والولد.قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 34، 35] فأجابهم الله تعالى، بأن الأموال والأولاد ليست بالتي تقرب إلى الله زلفى وتدني إليه، وإنما الذي يقرب منه زلفى، الإيمان بما جاء به المرسلون، والعمل الصالح الذي هو من لوازم الإيمان كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].
اعْتَقَدُوا أن كَثْرَة الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ وَاعْتِنَائِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعْطِيَهُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهَيْهَاتَ لَهُمْ ذَلِكَ.قَالَ اللَّهُ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ.نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] وَقَالَ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا.وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا.وَبَنِينَ شُهُودًا.وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا.ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ.كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا.سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا.} [المدثر: 11-17].وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ: أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ وَوَلَدٍ وَثَمَرٍ، ثُمَّ لَمْ تُغن عَنْهُ شَيْئًا، بَلْ سُلب ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ؛ افتخر على صاحبه بذلك أيضًا {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]
والكفار يستحقون النار بكفرهم، ولا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئًا كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)} [آل عمران: 10].(20)
ولقد أخبر الله تعالى في كتابه أن من الأمور التي زيت للناس الأبناء وخطر هذا التزيين إذا كان للتفاخر قال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]
فعادة أهل الأهواء التكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة.
فتنة الأولاد في الطاعة وعن العمل الصالح
ابتلى الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ووحيده إسماعيل عليه السلام فما كان منه إلا أن استسلم لأمر الله {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات 102]؛ ليمتحن صبره وجلده على أقدار الله فكان من الصابرين المتحسبين، وقد وصف الله ذلك بأنه بلاء مبين {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات 106].
وقد يكون الأولاد سببًا في التقصير عن القيام ببعض الأعمال الصالحة كم في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَحْزَنَةٌ"(21)
مَبْخَلَةٌ: بفتح الميم وسكون الموحدة، أي يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه فيبخلان بالمال لأجله.
مَجْبَنَةٌ: بفتح الميم وسكون الجيم وفتح الموحدة، معناه أن الولد يوقع أباه في الجبن خوفًا من أن يقتل- في الحرب- فيضيع ولده بعده.
مَجْهَلَةٌ: أي العمل على الجهل لأنّه يشغل الأوقات عن التعلم.
مَحْزَنَةٌ: من الحزن لأنّه يحزن أبويه إن أصابه مكروه.(22)
وكما حدث لأناس في مسألة الهجرة: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَأَلَهُ، رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: هَؤُلاَءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَوْا النَّاسَ قَدْ فَقُهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآيَةَ.(23)
فتنة الأولاد عند المصيبة بهم (بالموت)
غرس الله في قلوب الآباء محبة الأولاد والشغف بهم، فلا تكاد تجد أبًا أو أمًّا إلا وهو متعلق بأولاده، كلف بهم، مهما بلغ جفاء قبله وخشونة أخلاقه، وقد أشار إلى ذلك المولى جل وعلا في كتابه الكريم بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [سورة آل عمران الآية 14] وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة الكهف الآية 46].
فالأولاد لهم مكانة عالية في نفوس أهليهم، ولذلك فالابتلاء فيهم – لا سيما عند فقدهم- له وقع شديد على النفوس، وأثر لا تمحوه الأيام، إلا من تدرع بالصبر، واحتسب الجزاء عند رب العلمين
فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا كَانَ يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: « أَتُحِبُّهُ ».فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ.فَفَقَدَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: « مَا فَعَلَ ابْنُ فُلاَنٍ».قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ.فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لأَبِيهِ: « أَمَا تُحِبُّ أَنْ لاَ تَأْتِىَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلاَ وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ ».فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَهُ خَاصَّةً أَوْ لِكُلِّنا قَالَ « بَلْ لِكُلِّكُمْ ».(24)
وعَنْ أَبِي سِنَانٍ(عِيسَى بْنِ سِنَانٍ) قَالَ: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا، وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: أَلا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ؟ قُلْتُ: بَلَى.فَقَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ.فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ".(25)
المبحث الثالث: رسالة إلى الآباء
خير ميراث يورثه الآباء للأبناء، هو الإعداد الصالح والتوجيه الصحيح، وإذا كان الولد من زينة هذه الحياة، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فخير لنا أن نحرص على تكميل هذه الزينة، ونجتهد في العناية بها، والولد قبل أن تربيه المدرسة والمجتمع يربيه البيت والأسرة.
قال ابن القيم: وَكم مِمَّن أَشْقَى وَلَده وفلذة كبده فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بإهماله وَترك تأديبه وإعانته لَهُ على شهواته وَيَزْعُم أَنه يُكرمهُ وَقد أهانه وَأَنه يرحمه وَقد ظلمه وَحرمه ففاته انتفاعه بولده وفوت عَلَيْهِ حَظه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِذا اعْتبرت الْفساد فِي الْأَوْلَاد رَأَيْت عامته من قبل الْآبَاء.(26)
وأولى الناس ببرك وأحقهم بمعروفك أولادك فإنهم أمانات جعلهم الله عندك وأمرك الله بتربيتهم تربية صالحة لأبدانهم وقلوبهم وعقولهم ودينهم ودنياهم وآخرتهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]
وحتى يكون الأولاد نعمة وسعادة لنا في الدنيا والآخرة فلا بد من الآتي: -
دعاء الله تعالى أن يصلح الأبناء والحذر من الدعاء عليهم: كما دعا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وكما دعا زكريا عليها السلام حيث قال {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6] هذه دعوات الأنبياء لأولادهم فاقتدوا بهم في ذلك.
وإياكم والدعاء عليهم فإنهم إذا فسدوا وانحرفوا فإن الوالدين أول من يكتوي بذلك، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: " لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"(27)
تربية الأبناء على الإيمان والعقيدة الصحيحة: أن يتعرف الأبناء على ربهم عز وجل وعلى نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، وعلى دينه الذي رضيه لهم، فهذه العقيدة وصى بها يعقوب عليه السلام بنيه عند الموت فقال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وقال لقمان عليه السلام لولده الوصية الجامعة التي جمعت الأصول والفروع معلمًا إياه كما قال الله: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
تربية الأبناء على الالتزام بالشعائر التعبدية وامتثال أمر الله تعالى وكونوا كحال سيدنا إسماعيل حيث مدحه رب العالمين فقال تعالى {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] وكحال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ خاطبه ربه فقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وامتثالًا لأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: " مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في الْمَضَاجِعِ".(28)
تعليم الأبناء القيم الحميدة والخلال الكريمة: حتى يشبوا محبين لمعالي الأمور، ومكارم الأخلاق.
وجنبوهم الأخلاق الرذيلة، وتقبيحها في نفوسهم: فيكره الوالد لهم الكذب، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وغيرها من سفاسف الأخلاق ومرذولها؛ حتى ينشأوا مبغضين لها، نافرين منها.
تعليم الأبناء الآداب الإسلامية وتدريبهم عليها: كتشميت العاطس، وآداب الطعام والشراب، وآداب السلام ورده وغير ذلك، فإذا تدرب الولد على هذه الآداب والأخلاق، منذ الصغر ألفها وأصبحت سجية له.كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.(29)
العمل على تعليم الأبناء كتاب الله والعمل بمحكمه: فهذا العمل من أجل الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الوالدان؛ فالاشتغال بحفظه، والعمل به اشتغال بأعلى المطالب، وأشرف المواهب، ثم إن فيه حفظًا لأوقاتهم، وحماية لهم من الضياع والانحراف، فإذا حفظوا القرآن أثر ذلك في سلوكهم وأخلاقهم، وفجر ينابيع الحكمة في قلوبهم.وعاد النفع على والديهما في الآخرة كما في الحديث
"وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَانِ، لَا يَقُومُ لَهُمَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَيَقُولَانِ: يَا رَبُّ، أَنَّى لَنَا هَذَا؟ فَيُقَالُ لَهُمَا: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ.."(30)
الحرص على التربية بالقدوة: فهذه مسألة مهمة، فينبغي للوالدين أن يكونا قدوة للأولاد في الصدق، والاستقامة، وغير ذلك، وأن يتمثلا ما يقولانه.
ومن الأمور المستحسنة في ذلك أن يقوم الوالدان بالصلاة أمام الأولاد؛ حتى يتعلم الأولاد الصلاة عمليًا من الوالدين، وهذا من والحكم التي شرعت لأجلها صلاة النافلة في البيت.
فإذا أردت أن يصلح الله أبناءك فعليك فصلاح نفسك أولًا
قال تعالى {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] فهذا يدل على أن الله يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده.
تجنيب الأبناء الزينة الفارهة والميوعة القاتلة: كالإفراط في التجمل، والمبالغة في التأنق والتطيب، وأن ينهاهم عن التعري والتكشف، والتشبه بأهل الأهواء؛ لأن هذه الأعمال تتسبب في قتل مروءتهم، وإفساد طباعهم، وتقود إلى إغواء الآخرين وفتنتهم.(31)
---
(1) تفسير ابن كثير (4/ 468)
(2) البخاري(5065 )، مسلم (1400)
(3) البخاري(5063)، مسلم(1401)
(4) أبو داود(2050)، وصححه الألباني في آداب الزفاف في السنة المطهرة (ص: 132)
(5) تيسير الكريم الرحمن (ص: 706)
(6) تيسير الكريم الرحمن (ص: 129)
(7) البخاري(3892)، مسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. واللفظ للبخاري
(8) البخاري (2408)، مسلم (593)
(9) البخاري(1418)، مسلم (2629)واللفظ له من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(10) تفسير القرطبي (10/ 413)
(11) تفسير ابن كثير (7/ 216)
(12) مسلم (1631)
(13) أحمد (10610)، وابن ماجه(3660)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1598)
(14) البخاري(2409)، مسلم (1829) واللفظ له.
(15) موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين (ص: 184)
(16) تفسير القرطبي (18/ 142)، تفسير ابن كثير (8/ 139)
(17) أحكام القرآن لابن العربي (4/ 264)، روح المعاني (14/ 321)أَدْخَلَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسُوا بِأَعْدَاءَ. وَلَمْ يذكر مِنْ في قوله تعالى: {إ نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لِأَنَّهُمَا لَا يَخْلُوَانِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِهِمَا. تفسير القرطبي (18/ 143)
(18) فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا" مسلم(2661)
(19) تيسير الكريم الرحمن (ص: 483)
(20) تفسير ابن كثير (6/ 521)، تيسير الكريم الرحمن (ص: 681)
(21) أخرجه أحمد (17562)، وابن أبي شيبة (32844) من حديث يعلى بن مرة (العامري). وأخرجه الحاكم (5284) من حديث الأسود بن خلف. وأخرجه الطبراني في الكبير(147) من حديث الأشعث بن قيس. وصححه الألباني في صحيح الجامع (1990).
(22) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 103)، شرح المشكاة للطيبي (10/ 3063)، التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 549) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2970).
(23) الترمذي(3317)
(24) صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/233، وأحمد في مسنده 3/436، والنسائي 4/323. والحديث صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(2007)
(25) الترمذي (1021)، والطيالسي(510)، و أحمد (19725) وحسنه الألباني بمجموع طرقه السلسلة الصحيحة(1408)
(26) تحفة المودود (ص: 242)
(27) مسلم (3009)
(28) أبو داود(495) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وصححه الألباني في الإرواء(247)
(29) البخاري(5376)، مسلم (2022).
(30) الطبراني في الأوسط (5764) من حديث أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة (30668) وأحمد (22950) من حديث بريده، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2829)
(31) تذكير العباد بحقوق الأولاد: عبد الله بن جار الله، التقصير في تربية الأولاد: محمد بن إبراهيم الحمد.