مع النبي -صلى الله عليه وسلم-  في حجة الوداع (1)

مع النبي صلى الله عليه وسلم  في حجة الوداع

في  مدينة  رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وبعد تسع سنوات من هجرته -صلى الله عليه وسلم- وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقبلت الوفود من قبائل العرب تؤم طيبة الطيبة، يفدون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنة الوفود، سنةِ تسع للهجرة.

وتدخل سنة عشر فيؤذِن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ بالحج، فتزدحم المدينة ببشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعمل مثل عمله. (2)

بداية الرحلة المباركة

خرج -صلى الله عليه وسلم- من المدينة بعد صلاة الظهر من يوم السبت السادس والعشرين من شهر ذي القعدة(3)، ثم نزل بذي الحليفة فأقام بها يومه وبات بها ليلته؛ حتى يتتابع إليه الناس ويدركه من بعد عنه، فلما أصبح، قال: (( أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، أَنْ صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ )). (4)

 ثم تهيأ -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه، أشعر هديه وقلده(5)، واغتسل ولبَّد رأسه (6)، وتطيب من كفي عائشة -رضي الله عنها- بأطيب الطيب، ثم لبس إحرامه وصلى الظهر، ثم استقل راحلته على غاية من التواضع والخشوع، والتعظيم والخضوع.

انظر إلى راحلته ورحله، وإلى فراشه ومتاعه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَحْلٍ، رَثٍّ، وَقَطِيفَةٍ لا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: (( اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا، وَلَا سُمْعَةَ )). (7)

وعندما انبعثت به راحلته استقبل القبلة وحمد الله وسبح وكبر وأحرم بالحج ولبى: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. (8)

الموكب المهيب الذي يهز الأفئدة

سار -صلى الله عليه وسلم- بهذه الجموع الزاحفة، تحيط به القلوب وترمقه المقل، وتفديه المهج، لم توطأ له المراكب، ولم تتقدمه المواكب، وإنما سار في غمار الناس، ليس له شارة تميزه عنهم إلا بهاء النبوة وجلال الرسالة.

 وينزل عليه جبريل فيقول: (( يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ)).(9)، فاهتزت الصحراء بضجيج الملبين، وتجاوبت الجبال بهتافهم بتوحيد رب العالمين. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك إله الحق، لبيك ذا المعارج، لبيك وسعديك، والخير في يديك والرغباء والعمل. (10)

فكان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرخون بالتلبية صراخا ولذلك قال يَعْقُوبُ بْنُِ  زَيْدٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لاَ يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ، حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ تَلْبِيَتِهِمْ. (11)

ولما قَرُب النبي -صلى الله عليه وسلم-من مكة نزل مكاناً يقال له "سَرف"، فحاضت عائشة -رضي الله عنها-، فدخل عليها فإذا هي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: والله لوددت أن لم أكن خرجت العام، قال: لعلك نَفِستِ؟ أي حضتِ، قالت: نعم. فجعل -صلى الله عليه وسلم- يواسيها ويقول: ((إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)).(12)

وقد أخذ العلماء من هذا أن المرأة المتمتعة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف العمرة، ولم تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة فإنها تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة، وتفعل ما يفعل الحاج، وتؤخر الطواف والسعي حتى تطهر. (13)

على مشارف أم القرى  و يا لهفة المشتاق

وبعد ثمانية أيام، وصلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، ولما قرب من مكة بات عند بئر "ذي طوى". في المكان المعروف اليوم بجرول أو آبارِ الزاهر، ليستريح من نصب الطريق ووعثاء السفر، فلما أصبح اغتسل ثم دخل مكة ضحى يومِ الأحد من ثَنِيَّة كَداء، وهي التي تنزل اليوم على جسر الحَجون. (14)

فأناخ راحلته عند المسجد، ودخل من باب بني شيبة لأنه أقرب الطرق إلى الحجر الأسود(15)، وهو الباب الذي كان يدخل منه يوم كان بمكة أيام الدعوة والصبر والبلاء، فيا لله ما الذي كان يتداعى في خاطره في تلك الساعة. . أَمَا دخل الحرم ليصلي فيه قبل نحو عشر سنين فألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد؟ أَمَا دخل الحرم فقام إليه ملأ من قريش فأخذوا مجامع ردائه فخنقوه به. . فإذا به اليوم يدخل الحرم، وقد صَدَقه ربُّه وعده، وأظهره على الدين كله.

ويسير -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة المشرفة، فيستلم الحجر الأسود ويكبر فتفيض عيناه بالبكاء، ثم يضعُ شفتيه عليه فيقبلُه، ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط، فلما فرغ من طوافه مشى إلى مقام أبيه إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم عاد إلى الحجر فقبله، ثم توجه إلى الصفا فصعده وهو يقرأ: {إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: 158] (( أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ )) فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: (( لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ )) ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ: مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ. (16)

القلوب المشتاقة لرؤية الحبيب

وفي هذه الأثناء، فشا الخبر في مكة وتنادى الناس: رسول الله في المسجد. . . ، رسول الله على الصفا والمروة. . . فجاءت القلوب المتشوقة، والعيون الظامئة، تريد أن ترى مُحيَّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى خرج العواتق والإماء يقلن: هذا رسول الله، هذا رسول الله! وازدحم الناس عليه ينظرون إلى وجهه المنور، فلما كثروا حوله وكان كريماً سهلاً، أمر براحلته فركبها ليُشرِف للناس ويروه كلهم، شفقة عليهم، ثم أتم -صلى الله عليه وسلم- سعيه راكباً(17)، فلما قضى سعيه أمر من لم يسق الهدي من أصحابه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، ثم سار بمن معه حتى نزل بالأبطح شرق مكة وهو مكان فسيح واسع يشمل اليوم ما يسمى العدل والمعابدة إلى الحَجون، فنزل بالناس وأقام بهم أربعة أيام، يومَ الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء. (18)

الخروج إلى مِنى وبلوغ المُنى

فلما كان ضحى الخميس اليومِ الثامن يومِ التروية، ركب -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، وخرج معه الصحابة الذين كانوا قد حلوا مهلين بالحج، وفي منى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يقصر الرباعية ركعتين، ويصلي كل صلاة في وقتها، وكأنما كان هذا النفير تهيئةً وإعداداً للنفير الأكبر إلى عرفات.

وبات -صلى الله عليه وسلم- بمنى ليلة التاسع، فلما أشرقت شمس اليوم التاسع، خيرِ يوم طلعت فيه الشمس، يومِ الجمعة يومِ عرفة، سار الركب الشريف من منى إلى عرفات، حتى وصل إلى نَمِرة فإذا قبة قد ضُرِبت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس، ثم ركب راحلته القصواء، ونزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة، فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي، وهو على راحلته، وأشرف للناس ليخطُبهم خُطبة عظيمة، جمع فيها معاقد الدين، وعصم الملة، وعظّم الحرمات، فدوى صوته بين أهل الموقف، وقال: (( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ )). ثم أقبل -صلى الله عليه وسلم- على هذه الجموع يستشهدهم شهادة عظيمة، شهادة البلاغ والأداء ويقررهم بالجواب إذا سئلوا: أيها الناس، إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟.

ألا ما أعظم السؤال! وما أعظم المَقام! ثلاثة وعشرون عاماً قضاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البلاغ والدعوة، والصبر والمصابرة، والجهد والجهاد، ومع ذلك يَسأل ويَستشهِد على بلاغه لأمته، فأجابته الجموع بفمٍ واحد: نشهد أنك قد بلَّغت ونصحت وأديت الذي عليك، فرفع -صلى الله عليه وسلم- إصبعه الشريفة إلى السماء، وجعل ينكتها إلى الناس وهو يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد. (19)

ولما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خطبته، أذن بلال وأقيمت الصلاة، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر قصراً وجمعاً، ثم ركب راحلته ودفع إلى عمق عرفة ليقف عند الصخرات مستقبلاً القبلة رافعاً يديه داعياً وملبياً.

وظن أصحابه أنه قد صام يومه ذلك، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشرب منه والناس ينظرون إليه. (20)

وينزل الروح الأمين جبريل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- بالوحي من ربه في هذا الموقف العظيم بهذه الآية العظيمة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]  فسري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأها على الناس معلناً كمال الدين وتمام النعمة، فلما سمعها عمر رضي الله عنه فَقِهها، واستشعر من معناها أن مهمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد انتهت، فاستعبر باكياً وهو يقول: ليس بعد الكمال إلا النقصان.

وقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقية يوم عرفة في حال من التضرع واللهج بالدعاء والثناء على الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

ولما كان آخرَ النهار دعا -صلى الله عليه وسلم- بأسامة بن زيد، ليكون رديفه، هذا الشاب الأسود الأفطس الأجعد -رضي الله عنه- هو الذي حظي بشرف إرداف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الانتخاب والاختيار يعلن تحطيم الفوارق بين البشر، ويدفن تحت مواطئ راحلته كل النعرات الجاهلية، والنزعات العنصرية، فلا فضل لعربيٍ على أعجمي، ولا لأبيضَ على أسودٍ إلا بالتقوى.

فلما غربت الشمس أشار -صلى الله عليه وسلم- للناس قائلاً (( ادفعوا على اسم الله )). (21)

 وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ودفع الناس معه وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى (( أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ )).

 فلما وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم نام -صلى الله عليه وسلم- ليلته تلك إلى السحر، بعد يومٍ طويلٍ، حافلٍ بالأعمال العظيمة.

وفي صباح اليوم العاشر، قام -صلى الله عليه وسلم- مسارعاً إلى صلاة الفجر، فصلاها في غاية البُكور في أول الوقت، ثم ركب راحلته وتوجه إلى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة ورفع يديه، يدعو ويلبي، ويكبر ويهلل حتى أسفر جداً، وقاربت الشمس أن تطلع، فدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً هدي المشركين، وأردف ابن عمه الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وأمره أن يلقط له حصى الجمار، فالتقط له سبع حصيات صغار بحجم حبة الحمص أو أكبر قليلاً، حتى إذا وصل وادي محسّر، بين مزدلفة ومنى، أسرع قدر رمية بحجر.

وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فبدأ بجمرة العقبة فاستقبلها جاعلاً منىً عن يمينه، ومكةَ عن يساره، فرمى الجمرة بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، وكان في شأنه كله متواضعاً لله، معظماً لشعائره، وازدحم الناس حوله فقال: (( يا أيها الناس لا يقتلْ بعضكم بعضا، وإذا رميتم فارموا بمثل حصى الخذف، ولتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)). (22)

ثم انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر لينحر هديه، فلما قُرِّبت إليه الإبل لينحرها إذ بها تزدلف إليه وتتسابق أيُّها ينحره بيده الشريفة. . إذا كان هذا هو شعور الحيوانات العجماوات فكيف بقلوب المحبين التي امتلأت حباً وشوقاً لمحمد -صلى الله عليه وسلم-.

نحر -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، بعدد سني عمره المبارك، ثم أمر علياً بنحر ما بقي منها، وأن يقسم لحومها وجلودها بين الناس. (23)

ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحلاق ليحلق رأسه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ  -صلى الله عليه وسلم- أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ. (24)

ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمحلقين ثلاثاً، فقال: (( اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ)) قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (( اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ )) قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((وَالمُقَصِّرِينَ )). (25)

وبعد أن حلق -صلى الله عليه وسلم- رأسه، نزع إحرامه، وطيبته عائشة -رضي الله عنها- بأطيب ما تجد من الطيب، ثم ركب إلى البيت، فلما وصل الكعبة طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ كَانَ مَعَهُ، وَأَتَى السِّقَايَةَ، فَقَالَ: (( اسْقُونِي ))، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: (( اسْقوني ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ وَلَكِنَّا نَأْتِيكَ بِهِ مِنَ البَيْتِ، فَقَالَ: (( لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ، اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ)). (26)

وبعد أعمال يوم النحر، عاد -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فصلى بالناس صلاة الظهر، ثم مكث بها يومه يصلي الصلوات قصراً في أوقاتها، ويعمر وقته بذكر الله.

فلما زالت الشمس في اليوم الحادي عشر توجه إلى الجمرات ماشياً فبدأ بالصغرى فرماها بسبع حصيات يكبر الله مع كل حصاة، ثم تقدم حتى أسهل بعيداً عن زحام الناس، فرفع يديه واستقبل القبلة ودعا وتضرع طويلاً، ثم قصد الجمرة الوسطى فرماها كما رمى الصغرى، ثم أخذ ذات الشمال واستقبل القبلة ورفع يديه داعياً متضرعاً وأطال الوقوف، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها. وهكذا صنع في رمي الجمار في اليوم الثاني عشر والثالث عشر.

لقد كان -صلى الله عليه وسلم-  سمحاً في إقامة المناسك، فرخص للرعاة أن يرموا يوم النحر ثم يدعوا يوماً ثم يرموا من الغد، ورخص للعباس -رضي الله عنه- أن يبيت بمكة لأجل سقايته، وكان يقول لمن قدم وأخر: افعل ولا حرج، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: (( افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ )).(27)

ذكريات  و أيام لا تُنسى

ولما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج من منى، تذكر أيام الدعوة الأولى التي شهدتها هذه الأماكن، فقال: (( نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ )). يَعْنِي ذَلِكَ المُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ، تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ: أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-. (28)

لقد اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيف بني كنانة لنزوله؛ ليظهر جميلَ صنع الله وصدقَ موعوده، فهذا المكان هو الذي تحالفت فيه بنو كنانة مع قريش عَلَى إِخْرَاج النبي -صلى الله عليه وسلم- وَبَنِي هَاشِم وَبَنِي الْمُطَّلِب مِنْ مَكَّة إِلَى هَذَا الشِّعْب، وَكَتَبُوا بَيْنهمْ الصَّحِيفَة الْمَشْهُورَة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فها هو محمد -صلى الله عليه وسلم- ينزل في ذات المكان وقد أظهره الله على الدين كله، ونصره وأعزه، وفتح له فتحاً مبيناً.

فلما رمى في اليوم الثالث عشر نفر إلى خيف بني كنانة المسمى بالمحصَّب، فصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم نام حتى كان آخر الليل فاستيقظ وسار بمن معه إلى الكعبة، فطاف طواف الوداع، وصلى بالناس صلاة الصبح يترسل في قراءته بسورة الطور، وكانت هذه آخر صلاة صلاها أمام الكعبة.

ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- من مكة من أسفلها من ثَنيَّة (كُدَي) وهي المعروفة اليوم بالشُّبَيكة، وتفرقت الجموع التي كانت معه في فجاج الأرض، وما علمت أنه وهو يودعها كان يودع الدنيا، وأن كان في الأيام الأخيرة من حياته، فلم يمض إلا شهران وأيام حتى لحق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.

صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين

---

(1) مأخوذة من خطبة للشيخ سامي بن خالد الحمود ومختصرة من زاد المعاد لابن القيم

(2) رواه مسلم (1218) من حديث جابر -رضي الله عنه-

(3) رجح ذلك ابن القيم لظاهر روايات الصحيح وللجمع بينها. راجع زاد المعاد (2/ 98)

(4) رواه البخاري (7343) وغيره من حديث عمر -رضي الله عنه-

(5) الإشعار هو أن يجرح البدنة في صفحة سنامها اليمنى بسكين أو نحوها ثم يسلت الدم عنها.

 والتقليد: أن يجعل في عنقها قلادة لتعرف أنها من الهدي.

(6) التلبيد هو أن يجعل المحرم في رأسه شيئا من الصمغ ليلتصق شعره فلا يسقط منه شيء وهو محرم

(7) رواه ابن ماجه (2890) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 279)

(8) روى ذلك البخاري ومسلم  من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر -رضي الله عنهم-.

(9) رواه أحمد (4/ 56) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 73) من حديث السائب بن خلاد -رضي الله عنه-

(10) كلها ألفاظ صحيحة إما في الصحيحين وإما خارجهما مع تصحيح الألباني لها

(11) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 849) راجع مناسك الحج والعمرة للألباني (ص: 17)

(12) رواه البخاري (305) ومسلم (1211)

(13) فتح الباري لابن حجر (3/ 609)

(14) رواه البخاري (1574) ومسلم (1259) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، ورواه مسلم (1240) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

(15) مناسك الحج والعمرة للألباني (ص: 19)

(16) رواه مسلم (128)

(17) رواه مسلم (1264) بنحوه

(18) روى نحو ذلك البخاري (1653) ومسلم (1309) راجع زاد المعاد لابن القيم (2/ 215)

(19) رواه مسلم (1218) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

(20) رواه البخاري (1661) ومسلم (1123)

(21) رواه ابن ماجه (3024) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 358)

(22) رواه أبو داود (1966) وحسنه الألباني صحيح أبي داود (6/ 208)

(23) رواه مسلم (128) بمعناه من حديث جابر -رضي الله عنه-.

(24) رواه مسلم (1305)

(25) رواه البخاري (1727) ومسلم (1301) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

(26) رواه البخاري (1635) وأحمد (1/ 214)

(27) رواه البخاري (124) ومسلم (1306) من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.

(28) رواه البخاري (1590)