من أخطاء بعض الدعاة (3) عـدم التـدرج فـي إنكار المنكر
يقـولـون: بعض الشر أهون من بعض، والعاقل من عرف خير الخيرين، وشر الشرين، وقد يكون من المعروف عدم إنكار المنكر لعارض ما ترجح مصلحته على مصلحة الإنكار.
يقصـد بالتـدرج: الأخذ بالأمر شيئا فشيئا، وعدم تناوله دفعة واحدة.
الداعية يدرس واقع مجتمعه دراسة متأنية، ويعرف أهم المشاكل التي تعج بها المجتمعات، ثم يبدأ في التركيز على الأخطر فالأخطر، وأخطر الذنوب الشرك.
وليس بالضرورة أن تتفق المجتمعات في ذلك، فقد يركز الدعاة في بلد على أمر فيظن غيرهم ممن يسكنون بلدا آخر أن ذلك مما يجب أن يُركز عليه، ولم يعلموا السر أو السبب في ذلك.
وهـذا هـو منهـج الأنبياء صلوات الله عليهم، فكلهم حذروا قومهم من الشرك، وركزوا على العيوب الكبيرة في مجتمعاتهم، وإلا فهل نظن أن قوم لوط لم يكن فيهم إلا إتيان الذكران وقطع الطرق؟ وهل نظن أن مدين لم يكن فيهم إلا تطفيف الكيل والميزان؟ لكن لحكمة كان التنبيه على مثل هذه الأمور خاصة مع عدم إغفال ما سواها في الوقت المناسب وبالطريقة اللائقة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا -رضي الله عنه-عَلَى اليَمَنِ، قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»(1).
فهذا الحديث يدل على أهمية التدرج في الدعوة ومراعاة أحوال الناس، وما تنطوي عليه أنفسهم وعقولهم من أشياء تقتضي الترفق والتدرج بهم في الدعوة.
كلما كان المنكر أعظم كان الاعتناء بتصحيحه أشد، وهناك فرق كبير بين عدم إنكار المنكر، وبين الرضا به، فولي الأمر أو العالم أو غيرهما قد يسكت عن الإنكار لمصلحة راجحة، ولكنه إذا سُئل عن الحكم فلا يسعه إلا أن يبين الحق الذي يعلمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فَفَرْقٌ بَيْنَ تَرْكِ الْعَالِمِ أَوْ الْأَمِيرِ لِنَهْيِ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ فِي النَّهْيِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ وَبَيْنَ إذْنِهِ فِي فِعْلِهِ. وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ. فَفِي حَالٍ أُخْرَى يَجِبُ إظْهَارُ النَّهْيِ: إمَّا لِبَيَانِ التَّحْرِيمِ وَاعْتِقَادِهِ وَالْخَوْفِ مِنْ فِعْلِهِ. أَوْ لِرَجَاءِ التَّرْكِ. أَوْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ؛ وَلِهَذَا تَنَوَّعَ حَالُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَجِهَادِهِ وَعَفْوِهِ؛ وَإِقَامَتِهِ الْحُدُودَ وَغِلْظَتِهِ وَرَحْمَتِهِ(2).
فعلى سبيل المثال يعيش بعض الدعاة في مجتمعات يترك قطاع كبير من أهلها الصلاة وغيرها من مباني الإسلام، ويأكلون الربا، ويشربون المسكرات، وتتبرج نساؤهم وغير ذلك من النواقض أو الكبائر؛ ثم تجده ينشغل في دعوته بمعالجة أمور أخرى لا تعلق لها بما ذكر.
قال ابن القيم: وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ، وَقُلْت لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ(3).
نتفق في وجوب إنكار أي منكر دقّ أو جلّ، ولكن لا بد من النظر إلى مآلات الأمور، فالبعيد عن الدين لا يناسبه أن تبدأ معه بالنهي عن الصغائر بله المكروهات، فهذا قد يؤدي إلى توسيع الفجوة بينه وبين الحق؛ لأنه سيرى أن الوصول إلى الحق والالتزام به دونه خرط القتاد!.
قال ابن القيم: فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة؛ فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع(4).
للتـدرج حكــم عـديـدة منــها:
أولا: موافقة الفطرة، فالإسلام دين الفطرة، والتشريع يلتقي مع النفوس السليمة، والعقول الراجحة في تقبل الأخبار والتكاليف شيئا فشيئا.
ثانيا: التيسير والتخفيف، فالتدرج الزمني في التشريع يسَّر فهم أحكامه ومعرفتها على أحسن وجه.
ثالثا: تغيير العادات، إن العادة تتحكم في صاحبها، حتى اعتبرت طبيعة ثانية، فيراعى إبطال العادات السيئة والضارة، وبناء الأحكام والقيم الإسلامية مكانها.
رابعا: بناء الفرد السوي قبل بناء المجتمع، بإصلاحه وتغيير ما بنفسه قبل البدء ببناء المجتمع، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
من الحكمة أن يركز الداعية على الاستجابة لله وللرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن يغرسها في نفوس الناس، فلو استقامت هذه الكلمة في قلوبهم لصلح العباد والبلاد.
فالاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- صرفت الصحابة عن الخمر، رغم أنها كانت مصدرًا من مصادر الدخل القومي لمجتمعهم، فضلا عن إدمانها.
والاستجابة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- دفعت نساء المسلمين إلى امتثال الأمر بالحجاب.
والاستجابة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أنهت المصارف الربوية في هذا الوقت رغم ما كان يلاقيه أربابها من أرباح كثيرة.
الدعاة يصرفون الهمة إلى تربية الناس على الطاعة المطلقة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، لاختصار الطريق، وقطع الأميال في وقت قصير يسير.
الناس ليسوا ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، بل هم بشر يخطئون ويصيبون.
على الدعاة التدرج في بيان الأحكام الشرعية، وذلك بالبدء بالأهم فالمهم، دون إثقال أذهان المدعوين بما لا حاجة له الآن.
والتدرج في التطبيق والعمل، بحيث يراعي قدرة المدعوين وظروفهم، مع الانتباه إلى أن العقائد والفرائض والمحرمات لا تدرج فيها ولا تهاون.
والله الموفق، وعليه التكلان
---
(1) البخاري (1458) واللفظ له، ومسلم (31).
(2) مجموع الفتاوى (35/32).
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (3/13).
(4) إعلام الموقعين لابن القيم (3/12- 13).