شروط قبول العمل

شروط قبول العمل

أركان قبول العمل

أسباب قبول العمل

عقبات في طريق قبول الأعمال

كيفية المحافظة على الأعمال الصالحة

فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلما نقص الإيمان نقصت المحبة، فعلى العبد المؤمن أن يسعى بكل طاقته وقدر استطاعته إلى زيادة الإيمان في قلبه بفعل المأمورات وترك المنهيات، وأول خطوة نحو تحقيق ذلك، بل وأسه وأساسه، تحقيق العبودية لله وتحقيق المتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-  وذلك بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فلا يقوم العبد المؤمن بأي عبادة ويرجو من الله قبولها، إلا بتحقيق الإخلاص لله عز وجل، واتباع سنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ويجعل نصب عينيه أن أي عمل دخله شيء من الشرك الأكبر أو الأصغر، فإن ذلك العمل غير مقبول، وأن أي عمل ليس موافقاً لسنة وهدي سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-  فإن ذلك العمل مردود وغير مقبول، ويستيقن العبد المؤمن في نفسه أن الشرك الأكبر يبطل جميع الأعمال، قال تعالى في خطابه لسيد الموحدين -صلى الله عليه وسلم- : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [الزمر: 65، 66].(1)

وقال الله جل وعلا:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الله جعل الإخلاص والمتابعة سببا لقبول الأعمال فإذا فقد لم تقبل الأعمال".(2)

 وقال تبارك وتعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

أركان قبول العمل الصالح

 الركن الأول إخلاص العمل لله وحده.

 والركن الثاني المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-  .

الركن الأول: فإن الله جل جلاله لا يقبل عمل أي عامل إلا أن يكون هذا العمل خالصًا لله، يبتغي به عامله وجه الله والدار الآخرة، فإن يكن العمل رياءَ الناس ومحبة مديح الناس، وثناء الناس عليه، ولم يكن المقصود منه التقرب إلى الله، كان عملاً باطلاً.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : " قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ " ، وفي رواية ابن خزيمة:" أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمَلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ" ، وَفي رواية: "فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَلْيَلْتَمِسْ ثَوَابَهُ مِنْهُ".(3)

أما الركن الثاني: هو أن يكون هذا العمل على وفق ما دل عليه كتاب الله وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم-  ، فكل عمل على خلاف كتاب الله وخلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  فإن الله لا يقبله من عامله، ولو أراد به التقرب إلى الله، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2 - 4].

فهؤلاء عملوا أعمالا لكنها على خلاف شرع الله، قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 103 - 106].

وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ، فلا بد أن يكون العمل على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه. وقد أنكر الله تعالى على من اهتدى بغير كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-  فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21].

الركن الثالث: أن يكون فاعله مؤمناً؛ لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل/97].(4)

فلابد من الإيمان لله جل وعلا فمن انحَرفَ عن الإيمان فوقع في الإشراك أو الكفر بالرحمن، فمهما عمل من الأعمال الحسان ترد عليه ولا تقبل عند ذي الجلال والإكرام، وقد قرر الله هذا في كثير من آيات القرءان فقال جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .

وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [النساء: 48].

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].

أخبرنا الله جل وعلا أن من خرج عن الإيمان فهو من أهل الخسران {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]، فإذا لم يتصف الإنسان بصفة الإيمان أعماله مردودة عند ذي الجلال والإكرام، فلو قدر أنه قام بصدقة أو صلة رحم أو غير ذلك من أنوع البر كل هذا سيرد عليه ولا يقبل عند الله عز وجل.(5)

إذا فالعمل الصالح ما وافق كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-  ، وكان صاحبه من المؤمنين، فإن كان هذا العمل خالصاً ولكنه على خلاف شرع الله ما قبله الله تعالى.

 فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ".(6)  وفي رواية عنها -رضي الله عنها- قالت، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".(7)

قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث " إنما الأعمال بالنيات " ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء".(8)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ، قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".(9)

فانظر كيف جعل الإيمان والاحتساب شرطا في مغفرة الذنوب ، فلا بد من الإخلاص، ولا بد من موافقة شرع الله.

إن المستقريء لنصوص الكتاب والسنة يجد أن الأدلة قد استفاضت بذكر أركان وشروط العمل الصالح، وأن رفعه إلى الله وقبوله مرهون بتحقيق هذه الشروط والأركان، وبقدر الإخلال في تحقيقها يكون حساب العبد ومنزلته، فإن حقق هذه الشروط والأركان سعد ونجا، وإن أخل بها هلك وحبط عمله.

قال الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فمفهوم هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى لا يرفع إليه إلا العمل الصالح.

إن العبد العاصي إذا وقف على شفير النار يوم القيامة يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] فهذه هي الحياة حقاً: أن ينجو من النار، وأن يدخل الجنة.

فدخول الجنة والنجاة من النار مرهونة بتحقيق ركني العمل الصالح وشرطيه، وبقدر الخلل في تحقيق الركنين والشرطين يكون حساب العبد وتكون منزلته.(10)

فيا أيها العبد، إذا وُفقت لعمل صالح فاعلم أن هذا من فضل الله عليك، وكرمٌ الله عليك، وكم ضل أقوام وزاغت قلوب أقوام ما وفقهم الله للصواب، والله يقول لنبيه{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].(11)

فما أحوجنا إلى هذا التثبيت ، وما أفقرنا إلى هذا الفضل وهذه الرحمة من الله تبارك وتعالى.

أسباب قبول العمل الصالح

1- الدعاء قال تعالى عن إبراهيم الخليل|: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم } [البقرة: 127].

وقال تعالى عن امرأة عمران {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [آل عمران: 35].

2- الاستغفار قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [البقرة: 199].

وعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ: "اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: " كَيْفَ الْاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ ".(12)

يقول ابن القيم -رحمه الله- : "وإِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ ثَلَاثًا، وَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ الْحَجِّ. وَمَدَحَهُمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ عُقَيْبَ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَشَرَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  عُقَيْبَ الطُّهُورِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ.(13)

 3- استشعار المؤمن لتقصيره في عمله ومنة الله عليه، وتوفيقه لهذا العمل، وأنه لولاه لما حصل، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [الحجرات: 17].

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وَقَدْ قِيلَ: وَعَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلَالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ.

فَمَنْ شَهِدَ وَاجِبَ رَبِّهِ وَمِقْدَارَ عَمَلِهِ، وَعَيْبَ نَفْسِهِ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اسْتِغْفَارِ رَبِّهِ مِنْهُ، وَاحْتِقَارِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِصْغَارِهِ.(14)

4- أن يَحِسَّ العبد بلذة العبادة فتكون أنسه وراحته، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبِي، إِلَى صِهْرٍ لَنَا مِنَ الْأَنْصَارِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: يَا جَارِيَةُ ائْتُونِي بِوَضُوءٍ لَعَلِّي أُصَلِّي فَأَسْتَرِيحَ، قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، يَقُولُ: "قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ".(15)

وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ ذلك فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين} [البقرة: 45].

قال بعض أهل العلم: خفة الطاعة من آثار محبة المطاع وإجلاله، فإن قرة عين المحب في طاعة المحبوب، وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ".(16)

5- أن يوفق العبد لطاعة بعدها، وإن من علامات قبول الحسنة: فعل الحسنة بعدها، فإن الحسنة تقول: أختي أختي. وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى وفضله؛ أنه يكرم عبده إذا فعل حسنة، وأخلص فيها لله أنه يفتح له باباً إلى حسنة أخرى؛ ليزيده منه قرباً ، فالعمل الصالح شجرة طيبة، تحتاج إلى سقاية ورعاية، حتى تنمو وتثبت، وتؤتي ثمارها، وإن أهم قضية نحتاجها أن نتعاهد أعمالنا الصالحة التي كنا نعملها، فنحافظ عليها، ونزيد عليها شيئاً فشيئاً. وهذه هي الاستقامة التي تقدم الحديث عنها.(17)

الخوف من عدم قبول العمل

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُون * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون *} [المؤمنون: 57 - 61].

وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.(18)

قال العلامة الألباني -رحمه الله- : "والسر في خوف المؤمنين أن لا تقبل منهم عبادتهم، ليس هو خشيتهم أن لا يوفيهم الله أجورهم، فإن هذا خلاف وعد الله إياهم في مثل قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] ، بل إنه ليزيدهم عليها كما قال تعالى {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30] ، والله تعالى (لا يخلف وعده) كما قال في كتابه، وإنما السر أن القبول متعلق بالقيام بالعبادة كما أمر الله عز وجل، وهم لا يستطيعون الجزم بأنهم قاموا بها على مراد الله، بل يظنون أنهم قصروا في ذلك، ولهذا فهم يخافون أن لا تقبل منهم. فليتأمل المؤمن هذا عسى أن يزداد حرصا على إحسان العبادة والإتيان بها كما أمر الله، وذلك بالإخلاص فيها له، واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم-  في هديه فيها. وذلك معنى قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110]".(19)

ولقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة يخشون أن تحبط أعمالهم، وأَلَّا تُقبَل منهم لرسوخ علمهم وعميق إيمانهم.

يقول عبد الله بن أبي مليكة -رحمه الله-: " أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ".(20)

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ -رحمه الله-: "مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا".(21)

وكَانَ مُطَرِّفٌ بن عبد الله بن الشخير -رحمه الله- يَقُولُ: " اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي صَلَاةَ يَوْمٍ ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي صَوْمَ يَوْمٍ ، اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي حَسَنَةً، ثُمَّ يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].(22)

فالإيمان والخشية يدفعان العبد للمداومة على العمل الصالح الذي يستوفي شروط قبوله:

عقبات في طريق قبول الأعمال

يعرض للعامل إذا عمل عملاً صالحاً كالصلاة، والصيام، والصدقات ونحوها ثلاث آفات.

1-  رؤية العمل.

2-  طلب العوض عليه

3- رضاه به وسكونه إليه.

1 - فالذي يخلِّصه من رؤية عمله: مطالعته لمنة الله عليه، وتوفيقه له، وأنه من الله وبه لا من العبد.

2 - والذي يخلِّصه من طلب العوض عليه: علمه بأنه عبد محض مملوك لسيده لا يستحق على الخدمة أجرة، فإن أعطاه سيده شيئاً من الأجرة والثواب فهو إحسان وإنعام من سيده لا عوضاً عن العمل.

3 - والذي يخلِّصه من رضاه بعمله وسكونه إليه: مطالعة عيوبه، وتقصيره في عمله وما فيه من حظ النفس والشيطان، وعلمه بعظيم حق الله، وأن العبد أعجز وأضعف أن يقوم به على الوجه الأكمل، نسأل الله الإخلاص والعون والاستقامة.(23)

وقد لا يُقْبَلُ العمل وإن كان كثيراً في نظر صاحبه، إما لِعُجبٍ، أو رياءٍ، أو غرورٍ، أو منةٍ صاحبت ذلك العمل، فكانت سبباً لِرَدِّهِ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: 264].

وأعظم موانع قبول العمل: الشرك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين } [آل عمران: 91]. فمن تَعَبَّدَ لله بدين غير دين الإسلام فلن تقبل منه أعماله ولو كثرت، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين } [آل عمران: 85].

إذاً فليس الشأن في العمل الصالح القيام به فحسب، إنما الشأن في المحافظة على العمل مما يفسده ويحبطه، فالرياء وإن دق مفسد للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكون العمل غير مقيد باتباع السنة محبط للعمل، والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وأذى الخلق منقص له، وتعمد مخالفة أوامر الله والاستهانة بها مبطل له ونحو ذلك.(24)

كيفية المحافظة على الأعمال الصالحة

وهذا لا يكون إلا بحسن الأخلاق فلو كانت أعمال العبد كالجبال وهو يؤذي الناس فهو خاسر؛ لأن الناس يأخذون حسناته يوم القيامة.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".(25)

 ولا ينبغي للمؤمن أن يحتقر العمل وإن كان قليلاً، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ-رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ".(26)

 فقد يُقبل العمل مهما كان قليلاً ويكون سبباً لدخول الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".(27)

يقول الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: "ينبغي للمرء أن لا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشر أن يجتنبه، فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها".(28)

---

(1) موسوعة خطب المنبر (ص: 1566).

(2) الروح (1/ 135).

(3) صحيح مسلم (4/ 2289) 

(4) مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة (ص: 412).

(5) خطب ودروس الشيخ عبد الرحيم الطحان (56/ 2).

(6) صحيح البخاري (3/ 184) رقم 2697، صحيح مسلم (3/ 1343) رقم 17(1718).

(7) صحيح مسلم (3/ 1343) رقم 18(1718).    

(8) جامع العلوم والحكم لابن رجب(1/ 176).

(9) صحيح البخاري (3/ 45) رقم 2014، صحيح مسلم (1/ 523) رقم 175(760). 

(10) دروس للشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله.

(11) موسوعة خطب المنبر (ص: 2561).

(12) صحيح مسلم (1/ 414) رقم 135(591).     

(13)  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 62).

(14) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 62).

(15) أخرجه أبو داود في سننه (4/ 296) 4986، وانظر صحيح الجامع (2/ 1307) 7892 – 2986.

(16) حسن أخرجه النسائي في سننه (7/ 61) رقم 3940، وأحمد في مسنده (21/ 433) رقم 14037، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1448) رقم 5261 [31].     

(17) أرشيف منتدى الفصيح.

(18) صحيح لغيره أخرجه الترمذي في سننه (5/ 180) رقم 3175، وابن ماجه في سننه (5/ 287) رقم 4198، وغيرهما وله شاهد من حديث أبي هريرة وانظر السلسلة الصحيحة (1/ 304) رقم 162.

(19) السلسلة الصحيحة للألباني(1/ 306).

(20) صحيح البخاري (1/ 18) معلقاً.

(21) صحيح البخاري (1/ 18) معلقاً.

(22) صحيح أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 178) رقم 35121، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 759) رقم 1062.

(23) مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة (ص: 412).

(24) مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة (ص: 412).

(25) صحيح مسلم (4/ 1997) رقم 59(2581). 

(26) صحيح مسلم (4/ 2026) رقم 144(2626).   

(27) صحيح البخاري (4/ 173) رقم 3467، صحيح مسلم (4/ 1761) رقم 155(2245).

(28) فتح الباري (11/ 321).