اسم الله الرزاق (2)
ثمرات التعبد باسم الله الرزاق
الدعاء باسم الله الرزاق
بعض أسباب الرزق
ثمرات التعبد باسم الله الرزاق
إن تحقيق الإيمان باسم الله الرزاق يوجب للعبد ثمرات عظيمة ومعاني إيمانية جليلة منها :
أولا : تمام التوكل على الله تعالى
أول الثمرات التي يجنيها العبد من الإيمان باسم الله الرزاق أن يزداد ثقةً ويقينًا في ربه فلا يتوكل إلا عليه ولا يعلق قلبه إلا به ، فإذا آمن العبد وأيقن أن رزقه بيد الله وحده تعلق به قلبه واعتمد عليه ، وعند ذلك تساق له الأرزاق من حيث لا يحتسب ؛ قال بعض السلف: توكل على الله تُسقْ إليك الأرزاق بلا تعبٍ ولا تكلّف.(1) ، عن عُمرَ بْن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: أنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا).(2)
قال ابن رجب : هذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3] ولو أن الناس حققوا التوكل على الله بقلوبهم، لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير.(3)
قال ابن القيم : هذا إخبار بأنه سبحانه يرزق المتوكلين عليه من حيث لا يحتسبون وأنه لا يخليهم من رزق قط كما ترون ذلك في الطير فإنها تغدو من أوكارها خماصا فيرزقها سبحانه حتى ترجع بطانا من رزقه، وأنتم أكرم على الله من الطير وسائر الحيوانات فلو توكلتم عليه لرزقكم من حيث لا تحتسبون ولم يمنع أحدا منكم رزقه.(4)
تَوكلْتُ فِي رِزْقِي عَلى اللهِ خَالِقي ... وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللَّهَ لا شكَّ رَازقِي
وما يَكُ مِنْ رِزْقِي فَلَيْسَ يَفُوتُنِي ... ولَوْ كَانَ فِي قَاعِ البِحَارِ الغَوَامِقِ
فَفِي أيِّ شيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حسرةً ... وقَدْ قَسَّم الرَّحْمَنُ رِزْقَ الخلائقِ(5)
ثانيا : اليقين والثقة بما في يد الله واليأس مما في أيدي الناس
فيكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه أو بما في أيدي الناس ، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، فإن الله ضمن أرزاق عباده ، وتكفل بها فمن حقق اليقين، وثق بالله في أموره كلها، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين ، قال تعالى عن مريم عليها السلام {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]
وقال تعالى : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [يونس: 31]
قال الحسن البصري : إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل.
وقيل لأبي حازم: ما مالُك؟ قال: لي مالانِ لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس.
وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!.
وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول: اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا، ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا.(6)
ثالثا : الإيمان باسم الله الرزاق : يجعل العبد مشغولا بالغاية التي خُلِقَ من أجلها دون غيرها
إذا صح إيمان العبد باسم الله الرزاق ، انشغل بالغاية التي خلقه الله من أجلها وهي العبادة لأنه يعلم أن رزقه بيد الله فلا يحمل لذلك هما ، وهو يوقن أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
لما ذكر الله قضية العبادة ذكر بعدها أعظم الصوارف عنها فقال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 56 - 58]
قال ابن القيم : فرِّغ خاطرك للهَمِّ بما أمرتَ به ولا تشغله بما ضمن لك ، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان فما دام الأجل باقيا كان الرزق آتيا ، وإذا سَدَّ عليك بحكمته طريقا من طرقه فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه ، فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة وهو السُّرة فلما خرج من بطن الأم وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول لبنا خالصا سائغا.(7)
قال حاتم الأصم : علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي ، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه.(8)
ولكن الكثير من الناس انشغل بالرزق المضمون ، عن عبادة مدبر الكون ، قال ابن القيم : حال أكثر النفوس أنهم يحرصون على الدنيا وقد أدبرت عنهم ويزهدون في الآخرة وقد هجمت عليهم ، ويهتمون بما ضمنه الله ولا يهتمون بما أمرهم به ويفرحون بالدنيا ويحزنون على فوات حظهم منها ولا يحزنون على فوات الجنة وما فيها ولا يفرحون بالإيمان فرحهم بالدرهم والدينار.(9)
رابعا : ومن ثمرات الإيمان باسم الله الرزاق : الإكثار من الإحسان والتخلص من البخل والشح
فمن أيقن أن رزقه بيد الله الكريم الذي يخلف على عبده ، فسيُكثر من الإحسان ، ولن يبخل بما رزقه الله ، قال تعالى :{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ: 39]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ).(10)
قال النووي : ذكروا فيه وجهين ؛ أحدهما : معناه أنه يبارك فيه ويدفع عنه المضرات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية وهذا مدرك بالحس والعادة. والثاني : أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة.(11)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ).(12)
قال النووي : هذا الحديث هو معنى قوله عز وجل { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } فيتضمن الحث على الإنفاق معنى في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى.(13)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا).(14)
قال العلماء : هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا والإمساك المذموم هو الامساك عن هذا.(15)
ومن تأمل في سورة الليل يرى كيف ربط الله بين البخل والاستغناء عنه سبحانه فقال : {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}. يبخل حين يحب المال ويصفه الله أنه إذا فعل فإنه بهذا يستغني عنه، لأنه يركن إلى ماله ويرى فيه الأمان والمستقبل والعزة.
قال الأحنف: آفة الحرص الحرمان ولا ينال الحريص إلا حظه.
خامسا : الإيمان باسم الله الرزاق يوجب للعبد دوامَ الافتقار والحاجة إلى الله تعالى
قال ابن القيم : حقيقة العبودية كمال الافتقار إِلي الله من كل وجه ، وهذا الافتقار هو عين الغنى به.(16)
وتأمل حال موسى عليه السلام الذي هو كليم الله ، حين توسل إلى ربه بإظهار حاجته وافتقاره لربه : { ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24]
قال السعدي : أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال.(17) فإن اللَّه تعالى كما يحبُّ من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، ونعمه العامة والخاصة، فإنه يحب منه أن يتوسّل إليه بضعفه، وعجزه، وفقره، وعدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع الأضرار عن نفسه، لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة، والافتقار للَّه - عز وجل - الذي هو حقيقة كل عبد.(18)
فإن الغنى وصف ذاتي للرب، والفقر والحاجة والضرورة وصف ذاتي للعبد.
المحور الرابع : الدعاء باسم الله الرزاق
فالدعاء باسم الله الرزاق من لوازم الإيمان بهذا الاسم فينبغي للمسلم أن يستعمل اسم الله (الرزاق) في دعائه إذا جاء مقتضاه ، عن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ).(19) فدلنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ندعو الله تعالى ونوقن بالإجابة ونعزم في المسألة ونقول : اللهم ارزقنا
وعن أَبي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ -رضي الله عنه- ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ، عَلَّمَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: (اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي).(20)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا).(21)
وعَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ -صلى الله عليه وسلم- .(22)
المحور الخامس : بعض الأسباب التي تجلب الرزق
هذه بعض مفاتيح الرزق كأسباب يأخذ بها العبد استجلابا للزق منها :
- كثرة الاستغفار والتوبة
من الأسباب التي تجلب الرزق الاستغفار والتوبة، يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً }. [نوح:10-12].
يقول القرطبي : في هذه الآية والتي في هود دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ يُسْتَنْزَلُ بِهِ الرِّزْقُ والْأَمْطَارُ.(23)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ -رضي الله عنه- ، يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا نَرَاكَ اسْتَسْقَيْتَ؟ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمُجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ ، ثُمَّ قَالَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}.(24)
- تقوى الله تعالى والإيمان به
جعل الله تعالى التقوى من الأسباب التي تجلب الرزق وتزيده، فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.[الطلاق: 2] فكل من اتقى الله ولازم مرضاته في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرَجاً ومخرجاً من كل شدة ومشقة، ويسوق إليه الرزق من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به.
قَالَ قَتَادَةُ : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} أَيْ: مِنْ شُبُهَاتِ الْأمورِ والْكَرْبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وَمِنْ حَيْثُ لَا يَرْجُو أَوْ لَا يَأْمُلُ.(25)
ويقول الله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)) [الأعراف:96].
يقول السعدي : لو أن أهل القرى آمنوا بقلوبهم إيماناً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهراً وباطناً بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدراراً، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب.(26)
- التبكير في طلب الرزق
عَنْ صَخْر بن وداعة الْغَامِدِيِّ -رضي الله عنه- ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا). وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ.(27)
- صلة الرحم
ومن الأسباب الجالبة للرزق أيضاً صلة الرحم ؛ عن أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).(28)
وقد عنون البخاري رحمه الله على هذين الحديثين بقوله : (باب من بُسط له في الرزق بصلة الرحم). أي بسبب صلة الرحم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ، قَالَ: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ).(29)
- المتابعة بين الحج والعمرة
المتابعة بين الحج والعمرة من أسباب سعة الرزق ويسر الحال، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ).(30)
- التفرغ للعبادة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ) .(31)
وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (قَالَ رَبُّكُمْ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَامْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، ابْنَ آدَمَ لَا تَبَاعَدْ عَنِّي فَأَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا، وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ شُغْلًا).(32)
ففي هذين الحديثين وعد الله تعالى مَنْ تفرغ لعبادته بشيئين هما: ملء قلبه بالغنى، ويديه بالرزق، وتوعَّد من لم يتفرغ بعقوبتين هما: ملء قلبه فقراً ويديه شغلاً، ومن المعلوم أن من أغنى الله قلبه لا يقرب منه الفقر أبداً، ومن ملأ الرزَّاق يديه رزقاً لا يفلس أبداً.
والتفرغ للعبادة ليس معناه ترك الكسب والانقطاع عن طلب الرزق والجلوس في المسجد ليلاً ونهاراً، وإنما المراد أن يكون العبد حاضر القلب والجسد أثناء العبادة، خاشعاً خاضعاً لله، مستحضراً عظمة خالقه ومولاه، مستشعراً أنه يناجي مالك الأرض والسماء.
- شكر الله تعالى
فالشكر سبب عظيم لحفظ النعم وزيادتها ، قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم:7]، فعلَّق سبحانه المزيد بالشكر، والمزيد منه لا نهاية له.
قال عمر بن عبدالعزيز: قيَّدوا نعم الله بشكر الله، فالشكر قيد النعم وسبب المزيد.
وقال جعفر بن محمد لسفيان الثوري : يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها فإن الله عز وجل قال في كتابه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}.(33)
وقال تعالى : {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40]
قال القرطبي : أَيْ لَا يَرْجِعُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَّا إِلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ اسْتَوْجَبَ بِشُكْرِهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَدَوَامَهَا وَالْمَزِيدَ مِنْهَا. وَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعْمَةِ الْمَوْجُودَةِ، وَبِهِ تُنَالُ النِّعْمَةُ الْمَفْقُودَةُ.(34)
- اللجوء إلى الله عند الفاقة
فاللجوء إلى الله في كل الأحوال وخاصة عند الأزمات سبب عظيم لكفاية العبد ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، : (مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ).(35)
- اجتناب الذنوب المعاصي
فالطاعات سبب لنزول النعم، وحصول البركات، والمعاصي والذنوب تزيل النعم وتحل النقم ، قال الله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]
وقال تعالى :{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96]
- الإنفاق على من تفرغ لطلب العلم الشرعي
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- ، قَالَ: كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا المُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ).(36)
كان أحد الأخوين يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ويلازمه ليتلقى من معارفه ويأخذ من أقواله وأفعاله (والآخر يحترف) من الحرفة: وهي الصناعة وجهة الكسب (فشكا المحترف أخاه) في ترك الاحتراف (إلى النبي فقال) مسلياً له (فلعلك ترزق به) أي: فلعل قيامك بأمره سبب لتيسير رزقك، لأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.(37)
- إكرام الضعفاء والإحسان إليهم
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ).(38)
قال المناوي : أي بدعوتهم وإخلاصهم ، لأن عبادة الضعفاء أشد إخلاصا لخلاء قلوبهم عن التعلق بالدنيا وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله فجعلوا همهم واحدا فزكت أعمالهم وأجيب دعاؤهم ، والمراد أن ذلك من أعظم أسباب الرزق والنصر.(39)
---
(1) جامع العلوم والحكم (2/ 502)
(2) رواه أحمد (1/ 30) والترمذي (2344) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 620)
(3) جامع العلوم والحكم (2/ 496 - 502) باختصار
(4) جلاء الأفهام (ص: 287)
(5) موسوعة الكتيبات الإسلامية (137/ 31)
(6) جامع العلوم والحكم (2/ 180)
(7) الفوائد لابن القيم (ص: 57)
(8) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 73)
(9) الفوائد لابن القيم (ص: 157)
(10) رواه مسلم (2588)
(11) شرح النووي على مسلم (16/ 141)
(12) رواه البخاري (5352) ومسلم (993)
(13) شرح النووي على مسلم (7/ 79)
(14) رواه البخاري (1442) ومسلم (1010)
(15) شرح النووي على مسلم (7/ 95)
(16) طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 47)
(17) تفسير السعدي (ص: 614)
(18) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن للسعدي (1/ 228)
(19) رواه البخاري (7477)
(20) رواه مسلم (2697)
(21) رواه البخاري (6460) ومسلم (1055)
(22) رواه البخاري (1890)
(23) تفسير القرطبي (18/ 302)
(24) المطر والرعد والبرق لابن أبي الدنيا (ص: 106)
(25) تفسير ابن كثير(8/ 147)
(26) تفسير السعدي(ص: 298)
(27) رواه أبو داود (2606) والترمذي (1212) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 278)
(28) رواه البخاري (2067) (ينسأ له في أثره) يمد له في عمره ويؤخر أجله ويخلد ذكره.
(29) رواه الترمذي (1979) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 570)
(30) [رواه الترمذي (810) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 560)
(31) رواه الترمذي (2466) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 388)
(32) رواه الطبراني (500) والحاكم 4 / 326وصحح إسناده ووافقه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 229)
(33) صفة الصفوة (1/ 391)
(34) تفسير القرطبي (13/ 206)
(35) رواه الترمذي (2326) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1044)
(36) رواه الترمذي (2345) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 906)
(37) دليل الفالحين لطرق لابن علان(2/ 287)
(38) رواه البخاري (2896)
(39) فيض القدير (6/ 354)