تأملات في سورة الإخلاص (2)

تأملات في سورة الإخلاص

مباحث السورة ومحاورها

المحور الأول: انفراد الله بجميع الكمالات في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله

وذلك في قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }

أي {قُلْ} قولا جازمًا به، معتقدًا له، عارفًا بمعناه، {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: قد انحصرت فيه الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال، الذي له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والأفعال المقدسة، الذي لا نظير له ولا مثيل، ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عز وجل؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. (1)

فهو سبحانه أحدٌ في صفاته، وأحد في ذاته، وأحد في وجوده، تفرَّد بالربوبية: { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ } [الرعد: 16]، وتفرَّد بالألوهية: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران: 2]، وتفرَّد في الصفات: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى: 11]

والأحد هو الواحد: قال ابن الجوزي: قاله ابن عباس وأبو عبيدة، وفرق قوم بينهما.

قال الخطابي: الفرق بين الأحد والواحد: أن الواحد هو المنفرد بذاته، فلا يضاهيه أحد.

والأحد المنفرد بصفاته ونعوته، فلا يشاركه فيها أحدٌ. (2)

وَقيل: إِن الْأَحَد أبلغ من الْوَاحِد، يُقَال: فلَان لَا يقاومه أحد نفيا للْكُلّ، وَيُقَال: لَا يقاومه وَاحِد، وَيجوز أَن يقاومه اثْنَان، وَأَيْضًا فَإِن الْوَاحِد يكون الَّذِي يَلِيهِ الثَّانِي وَالثَّالِث فِي الْعدَد، والأحد لَا يكون بِمَعْنى هَذَا الْحَال. (3)

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إعلان  وإعلام من المسلم لكل البشرية  بأنه " لا إله إلا الله " ولا معبود لي سواه

ومن أجل هذه الكلمة أُوذي موسى -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } [غافر: 28]، وأوذي من أجلها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قام أبو بكر -رضي الله عنه- ليردع عنه إيذاء المشركين قائلا لهم: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ }، وأوذي من أجلها المؤمنون من بعده، قال تعالى: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج: 40].

 وبعضهم أُحرق في النار بسببها {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج: 8] وما ينقم علينا أهل الكتاب إلا لأجلها {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59]

فمن تمسك بها  واستقام عليها حتى يلقى الله بها، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأحقاف: 13]

وهي أول كلمة يُسأل عنها العبد في قبره؛ فعن البراء بن عازبٍ -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ ). (4)

المحور الثاني: إثبات الغنى المطلق لله تعالى

وذلك في قوله تعالى: { اللَّهُ الصَّمَدُ  }

قال عبد الله بن مسعود: الصمد: السيد الذي قد انتهى سؤدده.

قال عكرمة عن ابن عباس: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم ومسائلهم.

وعنه أيضا قال: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.

وقال السدي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، تقول العرب: صمدت فلانا أصمده صمدا -بسكون الميم -إذا قصدته، والمقصود: صَمَد، بفتح الميم.

وعن مجاهد وسعيد بن جبير: الصمد الذي لا جوف له. (5)

وكلها معان متقاربة تدل على إفراده تعالى بالكمال المطلق من كل الوجوه، وتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وعيب.

ومن تمام الإيمان باسم الله الصمد: فنعتقد أن سبحانه هو الغني بنفسه عن كل ما سواه؛ وكل ما سواه فقير إليه بنفسه وأنه لا ينال أحدٌ ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. (6)

ونعتقد أيضا: أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الإسراء: 74]. (7)

وعن أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ: ( مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ). (8)

وعن أبي بكرة -رضي الله عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ). (9)

فالعبد لا غنى له عن ربه طرفة عين بل هو مضطر إليه على مدى الأنفاس في كل ذرة من ذراته باطنا وظاهرا؛ وضرورته إلى ربه فوق كل ضرورة، ولا تشبهها ضرورة تقاس بها، فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك. (10)

المحور الثالث: تنزيه الله  تعالى عن الوالد  والولد

وذلك في قوله تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة؛ فهو سبحانه  ليس بفانٍ، لأنه لا شيء يَلد إلا هو فانٍ بائدٍ، وليس بمحدَث لم يكن فكان، لأن كلَّ مولود فإنما وُجد بعد أن لم يكن، وحدث بعد أن كان غير موجود. (11)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، كان النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: ( اللهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ ). (12)

وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: جَاء قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ، فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ). (13)

فالله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، ولم يولد فيكون مسبوقا، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. (14)

وقد أشار الله عز وجل إلى امتناع ولادته أيضاً في قوله تعالى: { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101]

فكيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟ والولد إنما يكون متولدا عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه؛ لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد. (15)

وفي قوله: { لم يلد  } ردٌّ على ثلاث طوائف منحرفة من بني آدم، وهم: المشركون، واليهود، والنصارى، لأن المشركين جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، وقالوا: إن الملائكة بنات الله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]

 واليهود قالوا: عزير ابن الله. والنصارى قالوا: المسيح ابن الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]  فكذبهم الله بقوله: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }.

قال ابن عباس: لم يلد كما وَلدتْ مريم، ولم يولد كما وُلد عيس وعزير.

وقال مقاتل: إن مشركي العرب، قالوا: الملائكة بنات الله. وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله. فأكذبهم الله تعالى، فقال: لم يلد يعني: لم يكن له ولد، ولم يولد من أحد كما ولد عيسى، وعزير، ومريم. (16)

ونسبة الولد لله من أشنع الأقوال وأقذع السب والشتم من العبد للرب تبارك وتعالى،

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ ). (17)

قال ابن حجر -رحمه الله-: إنما سماه شتما لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح والناكح يستدعي باعثا له على ذلك والله سبحانه منزه عن جميع ذلك.(18)

قال الطيبي: ومما في التكذيب والشتم من الفظاعة والهول أن المكذب منكر للحشر يجعل الله كاذبا والقرآن المجيد الذي هو مشحون بإثباته مفترى ويجعل حكمة الله في خلقه السماء والأرض عبثا والشاتم يحاول إزالة المخلوقات بأسرها ويزاول تخريب السماوات من أصلها. (19)

قال الله تبارك وتعالى مبينا شناعة هذه المقالة وفظاعتها وبطلانها ومدى تأثر المخلوقات عند سماعها: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 - 95]

قال ابن كثير: أي: يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم، إعظاما للرب وإجلالا؛ لأنهن مخلوقاتٌ ومُؤَسساتٌ على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا شريك له، ولا نظير له ولا ولد له، ولا صاحبة له، ولا كفء له، بل هو الأحد الصمد:

وفي كل شيء له آية. . . تدل على أنه واحد(20)

قال ابن عباس وكعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا: اتخذ الله ولدا. (21)

قال محمد بن كعب القرظي: لقد كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة بقولهم هذا. قال ابن العربي معلقا: وصَدَق، فإنه قول عظيمٌ سبق القضاء والقدر، ولولا أن البارئ لا يَضَعُهُ كفرُ الكافر، ولا يرفعُه إيمانُ المؤمن، ولا يزيد هذا في ملكه، كما لا ينقص ذلك من ملكه، ما جرى شيء من هذا على الألسنة، ولكنه القدوس الحكيم الحليم، فلم يبالِ بعد ذلك بما يقوله المبطلون. (22)

ومع ذلك فالله عز وجل يصبر عليهم ويعافيهم في أبدانهم ويرزقهم، عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ ). (23)

المحور الرابع: نفي المثيل والنظير عن الله

وذلك في قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}

قال أبو عبيدة: كُفُوٌ وَكُفْءٌ وَكِفَاءٌ كُلُّهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمِثْلُ والنظير والمكافئ.

وللمفسرين فيه أقاويل أحدها: قال كعب وعطاء: لم يكن له مثل ولا عديل، ومنه المكافأة في الجزاء لأنه يعطيه ما يساوي ما أعطاه. وثانيها: قال مجاهد: لم يكن له صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال: لم يكن أحد كفؤا له فيصاهره، ردا على من حكى الله عنه قوله: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا }. فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى: لم يلد

وثالثها: وهو التحقيق أنه تعالى لما بيَّن أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله: { لم يلد ولم يولد }، فحينئذ ختم السورة بأن شيئا من الموجودات يمتنع أن يكون مساويا له في شيء من صفات الجلال والعظمة.

فالله سبحانه وتعالى لا يماثله ولا يساويه أحد، وليس له ضد ولا ند ولا شبيه، ولا صاحبة، لتفرده سبحانه بالكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره. (24)

من درر  الفوائد

الفائدة الأولى: في السورة ردٌ على أهل التعطيل والتمثيل

- قال ابن تيمية  -رحمه الله-: تضمنت هذه السورة من وصف الله سبحانه وتعالى الذي ينفى قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات. (25)

فالله سبحانه وتعالى أثبتَ لنفسه ذاتا ليست كالذوات، وصفاتا ليست كالصفات ونفى عن نفسه كل النقائص والتهمات، فنثبت له سبحانه حقائق الأسماء والصفات، وننفي عنه فيها مماثلة المخلوقات، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تحريف ولا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل، فإن كلا منهما منزل ذميم، ومرتع على علاته وخيم، لأن زُكام التعطيل والتمثيل مفسدٌ لحاسة الشم، كما هو مفسد لحاسة الذوق، فلا يذوق العبد معه طعم الإيمان، ولا يجد ريحه.(26)

الفائدة الثانية: أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد؛ ويدل الصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يُصمد إليه حتى يكون محسنا و: { لم يلد ولم يولد } على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلا، ولا يكون جودُه لأجل جرِّ نفع أو دفع ضر، بل بمحض الإحسان وقوله: { ولم يكن له كفوا أحد } إشارة إلى نفي ما لا يجوز عليه من الصفات.

الفائدة الثانية: استعمال السورة؛ تُقرأ سورة الإخلاص في صلاة الوتر وركعتي الفجر، وفي أذكار الصباح والمساء وفي أذكار النوم وفي أدبار الصلوات المكتوبات وفي الرقية

وقد تقدمت الأدلة على كل ما ذُكِر، وأما قراءتها دبر الصلوات المكتوبات فلحديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ-رضي الله عنه- قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ. (27)

قال ابن حجر -رحمه الله-: المعوذات أي السور الثلاث وذكر سورة الإخلاص معهما تغليبا لما اشتملت عليه من صفة الرب وإن لم يصرح فيها بلفظ التعويذ. (28)

قال النووي -رحمه الله-: وفي رواية أبي داود: " بالمعوّذات "، فينبغي أن يقرأ: " قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ بربّ الناس ". (29)

الفائدة الثالثة: سورة الإخلاص أعظم ما يعين العبد على الإخلاص

فإذا قال العبد { قل هو الله أحد } بلسانه واعتقد معناها بقلبه وعمل بمقتضاها بجوارحه فهو المخلص علما وعملا ظاهرا وباطنا، فأقواله لله وأفعاله لله وأحواله لله وحركاته وسكناته كلها لله وحياته ومماته لله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]

ولو تأملنا كل معاني الإخلاص وتعريفاته لعلمنا أنها لا تخرج عن سورة الإخلاص

 فمثلا من معاني الإخلاص: - أن يخلص العبد قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط.

وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.

وقال بعضهم: الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله، ولا مجازيا سواه.

ولنعلم أن الإخلاص أشد شيء وأثقله على النفس: قيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب.

وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا: الإخلاص. وكم أَجتهدُ في إسقاط الرياء عن قلبي. فكأنه ينبت على لون آخر.

  وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي، إنها تتقلب عليَّ. (30)

الفائدة الرابعة: التحقق بهذه السورة علما وعملا أعظم ما يُزيل أثر الشهوات والشبهات من القلوب

فعلى قدر صدق العبد وإخلاصه في التوحيد  يُعطى من النور الذي يحرق مواضع الشهوات ويبدد ضباب الذنوب؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور - قوة، وضعفا - لا يحصيه إلا الله تعالى.

فمن الناس من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس.

ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري.

ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم.

وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم، وبين أيديهم، على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة، ولا ذنبا، إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده، الذي لم يشرك بالله شيئا، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته، وولى الباب ظهره. (31)

الفائدة الخامسة: العقيدة هي أساس الأعمال وقاعدتها

فتصحيح العقيدة قبل كل شيء، وأهم من كل شيء قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]

قال ابن القيم: من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به؛ فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه، فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط. (32)

قال تعالى: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]

وقال -رحمه الله-: وأهل السنة إن قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم. (33)

---

(1) تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 527) وتفسير السعدي (ص: 937)

(2) زاد المسير لابن الجوزي (4/ 506) ومجموع رسائل ابن رجب (2/ 539)

(3) تفسير السمعاني (6/ 303)

(4) رواه أحمد (4/ 287) وأبو داود (4753) وصححه الألباني في  صحيح الجامع (1/ 346)

(5) راجع تفسير ابن كثير (8/ 528) وتفسير البغوي (8/ 588) والسنة لابن أبي عاصم ومعها ظلال الجنة للألباني (1/ 299) و (1/ 300)

(6) الفوائد لابن القيم (ص: 28)

(7) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 136)

(8) رواه النسائي (10330) وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص: 48) وحسنه الألباني في الصحيحة (7/ 558)

(9) رواه أحمد (5/ 42) وأبو داود (5090) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 449)

(10) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 77) الفوائد لابن القيم (ص: 56)

(11) تفسير الطبري (24/ 737) وتفسير ابن كثير (8/ 529)

(12) رواه مسلم (2713)

(13) رواه البخاري (7418)

(14) تفسير القرطبي (2/ 85)

(15) تفسير ابن كثير ت سلامة (3/ 308)

(16) تفسير القرطبي (20/ 246) والتفسير الوسيط للواحدي (4/ 571)

(17) رواه البخاري (4974)

(18) فتح الباري لابن حجر (8/ 168)

(19) فيض القدير (4/ 473)

(20) تفسير ابن كثير ت سلامة (5/ 266)

(21) تفسير البغوي - طيبة (5/ 257)

(22) أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (3/ 250)

(23) رواه البخاري (6099) ومسلم (2804)

(24) راجع تفسير الرازي (32/ 365) وتفسير ابن عطية (5/ 537) زاد المسير لابن الجوزي (4/ 506) وغرائب التفسير لبرهان الدين الكرماني(2/ 1408) والصواعق المرسلة لابن القيم (4/ 1444)

(25) أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 62)

(26) مدارج السالكين  (1/ 230) و (3/ 413)

(27) رواه أبو داود (1523) والنسائي (3/ 68) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 306)

(28) فتح الباري لابن حجر (9/ 62)

(29) الأذكار للنووي (ص: 73)

(30) راجع مدارج السالكين (2/ 91) وإحياء علوم الدين (4/ 316)  الجامع للخطيب البغدادي (1/ 317)

(31) مدارج السالكين (1/ 338)

(32) الفوائد لابن القيم (ص: 155)

(33) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 255)