عبادة التفكر (2)

عبادة التفكر

الأسباب المعينة

مرات التفكر

الفهم الخاطئ  للتفكر

1- الخلوة في بعض الأحيان

فالخلوة أدعى للتفكر والتأمل والتذكر، قال ابن تيمية: لابد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته. (1)

وقال الحسن البصري: طول الوحدة أتم للفكرة. (2)

وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: التمس وجود الفِكْر في مواطن الخلوات. (3)

ويدلك على أثر الخلوة حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ وذكر منهم: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ). (4)

قال ابن رجب الحنبلي: فهذا رَجُل يخشى الله فِي سره، ويراقبه فِي خلوته، وأفضلُ الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية، وخشية الله فِي السر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة. (5)

2- جمع الهم وصفاء الذهن وملازمة اليقظة

التفكر من العبادات التي تتطلب صفاء النفس والقدرة على طرد الأفكار والهواجس التي تعيق التفكر. فقد سئل بعض العلماء: ما الذي يفتح الفكر؟ قال: اجتماع الهم، لأن العبد إذا اجتمع همه فكَّر فإذا فكر نظر فإذا نظر أبصر فإذا أبصر عمل. (6)

قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37]

قال ابن القيم: كما أن المبصر لا يدرك حقيقة المرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة، وحدق بها نحو المرئي، ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك، فإن فقد القوة المبصرة، أو لم يحدق نحو المرئي، أو حدق نحوه ولكن قلبه كله في موضع آخر لم يدركه، فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره، وكمال الإصغاء. (7)

3- الإنابة إلى الله وتوثيق الصلة به سبحانه

على قدر صلة العبد بربه وإنابته إليه يفتح الله له عيني بصيرته فيرى بهما آيات الله الكونية والشرعية فتزيده قوة وصلابة في إيمانه، قال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ق: 7، 8]

قال السعدي: فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى الله، كان انتفاعه بالآيات أعظم، لأن المنيب مقبل إلى ربه، قد توجهت إراداته وهمته لربه، ورجع إليه في كل أمر من أموره، فصار قريبا من ربه، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة، لا نظر غفلة غير نافعة. (8)

وأما المعرضون عن الله المتكبرون على شرعه الذين يصرفون الآيات عن ظاهرها ويفسرونها وفق أهوائهم، فهؤلاء صرفهم الله عن التفكر الذي يترتب عليه التذكر والاعتبار قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]   قال ابن جريج: سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا. (9)

وقال سفيان بن عيينة: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. (10)

4- الترتيل لآيات القرآن

قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } [المزمل: 4]

قال ابن كثير: أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. (11)

والترتيل: هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك معين على التفكر في معاني القرآن، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقطّع قراءته حرفا حرفا ولا يمرّ بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ. (12)

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليَّّ من أن أقرأ القرآن كله بغير ترتيل. (13)

وعن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.(14)

5- ترديد الآيات وتكرارها

 قال الغزالي: لا يوجد أنفع من قراءة القرآن بالتفكر فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال وفيه شفاء للعالمين وفيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الأحوال وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العبد ويردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة. (15)

وعن أَبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال: قَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا؛ وَالْآيَةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. (16)

وقام قتادة بن النعمان -رضي الله عنه- الليل لا يقرأ إلا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها لا يزيد عليها. (17)

وعن تميم الداري -رضي الله عنه- أنه كرر هذه الآية حتى أصبح { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. (18)

قال ابن القيم: فإذا قرأ العبد القرآن بتفكر حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة كاملة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية الى الصباح. . . . . فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب. (19)

ثمرات التفكر

1- التفكر من أعظم أسباب  زيادة الإيمان واليقين

قال ابن العربي: أمر الله تعالى بالنظر في آياته، والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادة في اليقين، وقوة في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد.

قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى الفكر عملا من الأعمال؟ قال: نعم. هو اليقين. (20) قال الله تعالى عن خليله {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75]

فالتفكر طريق العبد إلى اليقين وسبيله إلى قوة الإيمان، وهو أعظم فوائد التفكر حيث يستدل به المرء على ما لله من صفات الكمال والجلال، ويعلم أنه لا يخلق أحد كخلق الله ولا يدبر كتدبيره سبحانه وتعالى، قال سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ. . . إلى قوله. . . . . . . رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ } [آل عمران: 190 - 193]

قال الشوكاني: والمعنى: أنهم يتفكرون في بديع صنعهما، واتقانهما، مع عظم أجرامهما، فإن هذا الفكر إذا كان صادقا أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه. (21)

قال ابن القيم: التفكر يوقع صاحبه من الإيمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها ومعرفة أسبابها الموصلة إليها وما يقاوم تلك الأسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه. (22)

عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر.(23)

قال خليفة العبدي: ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم حتى أيقنت قلوبهم بربهم. (24)

2- التفكر هو أصل الطاعات ومبدأ الخيرات

قال ابن القيم: الفكر هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها. . . والخير والسعادة في خزانة مفتاحها التفكر. (25)

قَالَ ابن عباس: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه. (26)

وعن الحسن البصري، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن التفكير يدعو إلى الخير والعمل به. (27)

وقال الفضيل بن عياض: قيل لإبراهيم: إنك لتطيل الفكرة، قال: الفكرة مخ العمل. (28)

وبالجملة فالتفكر أصل كل خير وطاعة، قال ابن القيم: الفكر هو الذي ينقل العبد من موت الفطنة الى حياة اليقظة ومن المكاره الى المحاب ومن الرغبة والحرص الى الزهد والقناعة ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة ومن ضيق الجهل الى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور.(29)

3- التفكر يورث  التذكر  وحياة القلوب

التفكر من أنفع العبادات لحياة القلب، قال ابن القيم: التفكر من أفضل أعمال القلب وأنفعها له حتى قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة. (30)

فالتفكر طريق إلى التذكر، وبينهما ارتباط وثيق، قال ابن القيم: التذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره، وبتذكره على تفكره، حتى يفتح قُفْل قلبه بإذن الفتاح العليم، قال الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت. (31)

وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور تدخله قلبك؛ وكان دائما يتمثل:

إذا المرء كانت له فكرة. . . ففي كل شيء له عبرة(32)

وتذكر المرء واتعاظه بالآيات إنما يبدأ من التفكر؛ قال ابن السماك: اعلم أن للموعظة غطاء، وكشف غطائها التفكر. (33)

والتفكر يذهب الغفلة عن المرء ويجلب الحياة لقلبه، قال إبراهيم الخواص: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين. (34)

 وقال عبد الله بن عون: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة.(35)

4- التفكر طريقك إلى ترك المعاصي

قال بشر الحافي: لو فكر الناس في عظمة الله ما عصوه. (36)

وقال ابن القيم: أصلُ كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة فإن الشيطان يصادف أرض القلب خالية فارغة فيبذر فيها حَبَّ الأفكار الردية فيتولد منه الإرادات والعزوم فيتولد منها العمل، فإذا صادف أرض القلب مشغولة ببذر الأفكار النافعة فيما خُلق له وفيما أُمر به، لم يجد لبذره موضعا وهذا كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى. . . فصادفَ قلبا فارغا فتمكنا(37)

قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف: 201]

قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [آل عمران: 135]

قال إسحاق بن إبراهيم، بلغني عن سفيان بن عيينة، قال: التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أن العبد العاصي يتفكر فيتوب؟. (38)

وكان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقى الجدران إليها سمع تاليا يتلو: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16]، فقال: يا رب، قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمنهم وجاور الحرم حتى مات. (39)

5- التفكر يورث العبد نور البصيرة

قال ابن القيم: التفكر يوقع صاحبه من الإيمان على مالا يوقعه عليه العمل المجرد فإن التفكر يوجب له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له وتميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها ومعرفة أسبابها الموصلة إليها وما يقاوم تلك الأسباب ويدفع موجبها والتمييز بين ما ينبغي السعي في تحصيله وبين ما ينبغي السعي في دفع أسبابه. (40)

قال الحسن البصري: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك. (41)

6- التفكر يفتح للعبد باب العلم والحكمة

قال ابن القيم: التفكر والتذكر بذار العلم، وسقيه مطارحته، ومذاكرته تلقيحه. (42)

قال كعب الأحبار: من أراد أن يبلغ شرف الآخرة فليكثر التفكير يكن عالما. (43)

قال ابن القيم: إذا غذي القلب بالتذكر وسقي بالتفكر ونقي من الدغل رأى العجائب وألهم الحكمة. (44)

7- التفكر سبب لحفظ الأعمال والإتيان بها على الوجه الشرعي المطلوب

فالعبرة في الأعمال إتقانها وإحسانها، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الملك: 2] وقال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- ركعتان مقتصدتان فِي تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَالْقَلْبُ سَاهٍ. (45)

وقال ابن القيم: قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن. (46)

فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب.

ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات. . . . . وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة. . .. . . . . . . . وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب - وقد اشتد به العطش يأكل الثرى. (47)

فعبادة التفكر هي عبادة الأنبياء ودرب الأتقياء ونور وبرهان للاهتداء فيها العبرات والعظات وبحر من الخيرات وفيها اليمن والبركات فالزموا يا عباد الله.

الفهم الخاطئ للتفكر

لا يعني التفكر والتأمل أن يغلق المرء على نفسه أو يتكلف وضعا معينا، أو هيئة معينة، كما يفعله بعضهم عند التأمل أو التفكير، أو مَن ينشغل بالتفكر عن العمل طوال دهره فهذا يخادع نفسه  قال القرطبي: أما طريقة الصوفية أن يكون الشيخ منهم يوما وليلة وشهرا مفكرا لا يفتر، فطريقة بعيدة عن الصواب غير لائقة بالبشر، ولا مستمرة على السنن.

- ولا يلزم للتفكر: الصمت عن الكلام لفترات طويلة

ليس المقصود بالتفكر الصمت عن الكلام؛ لأن الصمت المجرد من عمل الجاهلية، وليس من هدي الإسلام، عن علِيّ بن أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ ). (48)

قال الخطابي: كان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير.(49)

قال المناوي: وَلَا صُمَاتَ: أي لا عبرة به ولا فضيلة له وليس مشروعا عندنا كما شرع للأمم قبلنا فنهى عنه لما فيه من التشبه بالنصرانية. (50)

 وعن قيس بن أبي حازم، قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها  لا تَكلَّم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مُصمتة، قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. (51)

قال ابن تيمية: فأخبر أبو بكر: أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه. (52)

- ولا يلزم للتفكر السكون التام وترك الحركة مطلقا

التفكر لا يستلزم سكون البدن وعدم تحرك شيء منه، فإن الحركة لا تنافي التفكر والتأمل كما جاء في حديث عَلِيّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  فِي جَنَازَةٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ الأَرْضَ بِعُودٍ، فَقَالَ: ( لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ). الحديث. (53)

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ( اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا ). (54)

وعَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-: أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عُودٌ يَضْرِبُ بِهِ بَيْنَ المَاءِ وَالطِّينِ. (55)

قال ابن حجر: وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من العبث المذموم لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء ثم لا يستعمله فيما لا يضر تأثيره فيه بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء الذي فيها فسادا فذاك هو العبث المذموم. (56)

- وكذلك ترديد الأذكار على صورة غير شرعية

 فقد ضلت في ذلك طوائف عندما ابتدعوا ألفاظا يرددونها مرات ومرات، يتعبدون بها أو يظنون بها صلاحا لأنفسهم.

والتكرير الوارد في السنة إنما هو لأذكار مخصوصة، وليس لأحد أن يبتدع أذكارا أو ألفاظا لم يأذن بها الشارع، ولو فعل ذلك لم ينتفع بها في الدنيا ولا في الآخرة، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ ). (57)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو كرر الإنسان اسم " الله " ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته. (58)

وقال تعليقا على ما يقوله أبو حامد الغزالي: ذكر العامة: " لا إله إلا الله " وذكر الخاصة: " الله الله " وذكر خاصة الخاصة: " هو " " هو ". قال: والذكر بالاسم المفرد مظهرا ومضمرا بدعة في الشرع وخطأ في القول واللغة فإن الاسم المجرد ليس هو كلاما لا إيمانا ولا كفرا. (59)

وقال أيضا: الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل " لا إله إلا الله " ومثل " الله أكبر " ومثل " سبحان الله والحمد لله " ومثل " لا حول ولا قوة إلا بالله "  فأما " الاسم المفرد " مظهرا مثل: " الله " " الله ". أو " مضمرا " مثل " هو " " هو ". فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة. ولا هو مأثور أيضا عن أحد من سلف الأمة ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين. (60)

فاللهم اجعلنا من المتفكرين في آياتك الشرعية والكونية والممتثلين لأمرك والمجتنبين لمعصيتك وجميع سخطك.

---

(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 163)

(2) مفتاح دار السعادة (1/ 180)

(3) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 288)

(4) رواه البخاري (660) ومسلم (1031)

(5) فتح الباري لابن رجب (6/ 50)

(6) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 144)

(7) مدارج السالكين (3/ 219)

(8) تفسير السعدي (ص: 676)

(9) تفسير الطبري (10/ 443)

(10) تفسير ابن كثير (3/ 475)

(11) تفسير ابن كثير (8/ 250)

(12) تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 423)

(13) شرح البخاري للسفيري (1/ 243)

(14) تفسير البغوي (8/ 251)

(15) إحياء علوم الدين (4/ 431)

(16) رواه النسائي (2/ 177) وابن ماجه (1350) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة (3/ 350)

(17) رواه البخاري (5014)

(18) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 477)

(19) مفتاح دار السعادة (1/ 187)

(20) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 352)

(21) فتح القدير للشوكاني (1/ 470)

(22) مفتاح دار السعادة (1/ 180)

(23) تفسير ابن كثير (2/ 185)

(24) حلية الأولياء (6/ 303)

(25) مفتاح دار السعادة (1/ 183)

(26) إحياء علوم الدين (4/ 425)

(27) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 134)

(28) حلية الأولياء (8/ 109)

(29) مفتاح دار السعادة (1/ 183)

(30) مفتاح دار السعادة (1/ 183)

(31) مدارج السالكين (1/ 440)

(32) حلية الأولياء (7/ 306)

(33) حلية الأولياء (8/ 208)

(34) حلية الأولياء (10/ 327)

(35) تفسير البغوي (2/ 152)

(36) مفتاح دار السعادة (1/ 180)

(37) مفتاح دار السعادة (1/ 183)

(38) حلية الأولياء (7/ 306)

(39) الرسالة القشيرية (1/ 40)

(40) مفتاح دار السعادة (1/ 180)

(41) حلية الأولياء (8/ 109)

(42) مفتاح دار السعادة (1/ 183)

(43) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 376)

(44) الفوائد لابن القيم (ص: 98)

(45) إحياء علوم الدين (1/ 151)

(46) مفتاح دار السعادة (1/ 187)

(47) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 340)

(48) رواه أبو داود (2873) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1261)

(49) معالم السنن (4/ 87)

(50) فيض القدير (6/ 444)

(51) رواه البخاري (3834)

(52) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 371)

(53) رواه البخاري (1362) ومسلم (2647)

(54) رواه أحمد (4/ 287) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 513)

(55) رواه البخاري (6216) ومسلم (2403)

(56) فتح الباري لابن حجر (10/ 597)

(57) رواه البخاري (2697) ومسلم  (1718)

(58) مجموع الفتاوى (10/ 562)

(59) مجموع الفتاوى (10/ 396)

(60) مجموع الفتاوى (10/ 556)