الطوفان الخاسر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله المصطفى محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين بشيرًا ونذيرًا، أما بعد:
فهذه نظرة عابرة في أحوال الأمة من حيث العموم، دينيًا وأخلاقيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، وإعلاميًا، تظهر لنا الداء والذي ألمَّ بها، وهو المكر السيء الذي يحيق بها للوقيعة بها فيما ذكرت، لتزداد ضعفًا على ضعف، وانكسارًا، وليشتد الناس بها.
ولكن لما كان المسلم على يقين من حقيقة قوله تعالى: { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43]
قطع وجزم بأن هذا الطوفان غوغائية، وزوبعة تسود وتظهر وقتا وسريعا ما تزول، لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] ولقوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] لكن تجب التفرقة بين دين حق خاتم، ختم الله به الرسالات، وأتم به حقه على العباد، فهو عزيز دائم بعزة الله، وهو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ورسخ وأكد على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر ". (1)
وبين أمة تتبعه في أوامره امتثالا، وفى نواهيه اجتنابا، فلها العزة والسيادة متى تمسكت به في السراء والضراء، والليل والنهار، وكل بنى آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ" (2)
فإن أعرضت الأمة وأدبرت، وتلونت، فلا عصمة لها من حيث الجملة، لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11] ولقوله: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد: 38].
إذا علمنا هذا وفهمناه ودققناه، علمنا قطعا نهاية الطوفان الذى نراه عيانا – لا يريد إسلاما ولا أمة له. . وهذا ما جعلني أعنون مقالتي هذه بـ ( الطوفان الخاسر ).
والطوفان: فيضان عظيم يسيل مفرق، وإن شئت فقل: ما كان كثيرًا أو عظيما من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره، وإلماما بما هو واقع يتلخص في المحاربة بالقول والفعل.
وهذا ما نص عليه القرآن صراحة، كما سيأتي بيانه، وبين يدي ذلك، أذكّر ببعض القواعد والثوابت المقطوع بها عند المسلم في أصول عقيدته التي يحارب فيها محاربة شرسة بالقول والفعل.
الأولى: قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ومثلها في الصف.
الثانية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
الثالثة: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255].
الرابعة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
الخامسة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82].
السادسة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ "(3).
ما الحكمة مما ذكرت؟
1 -ليميز الله الخبيث من الطيب.
2 -ليمحص الله الذين آمنوا منكم.
3- تسلية للمسلم، وتقوية لعقيدته، ورسوخًا لها، فلا سبيل للحديث مع النفس باليأس والإحباط.
4- اعتقادًا في قوة الملك الجبار شديد العقاب.
الطوفان الخاسر، يحارب أمة الإسلام دينيا وأخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا بالقول والفعل.
أما محاربتهم بالقول: ففي قوله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة: 32]، وقوله { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
والشاهد في قوله (بأفواههم) أي بالجدال فيه، والافتراء عليه، والكذب بأقاويلهم الباطلة، ومجادلتهم الزائغة، بكل ما ملكوه فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخة! ! ! وهذا لا سبيل إليه، إذ هو عابث مختل العقل، فما أرسل الله به رسوله لابد أن يتم ويظهر على ما أراد سبحانه وتعالى، إذا هذا الذى نراه غوغائية وزوبعة، سريعا ما تزول عاجلا أو آجلا، فلا تخافوا على الدين، وخافوا على أنفسكم حال إعراضكم عنه وتمردكم عليه. فقد تكفل الله بحفظ دينه بنا أو بغيرنا فقال {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-(إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر )(4).
وأما محاربتهم بالفعل ففي قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال: 36] والشاهد في قوله ( ينفقون أموالهم )، وذلك من وجوه:
1- المال: بطريق الإغراء المادي فبه يبيع دينه وبلده وعرضه.
2- النساء: - وما أدراك ما النساء- فإذا لفت المرأة حبالها على رقبة رجل أتت به إلا من عصم
3-المناصب: في تربية كوادرهم – أي المسلمين – على ما أحبوه ورغبوه - أي الكافرين –ثم يرسلوهم إلى بلادهم بلسانهم وفكرهم.
4-إظهار الحب والولاء لهم، وليس كذلك حقيقة.
وبهذا يكون قد فرقوا شمل المسلمين دولا متنافرة متحاربة، وفرّقوا شمل البلد الواحد أحزابًا وفرقًا، ووصلوا إلى هدفهم المنشود وهو تضييع هوية شباب الـأمة جيل القدوة والقيادة! ! !
ولكنّ وعد الله حق قال {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } ومن أصدق من الله قيلا. . . قل صدق الله. . . .
أسأل الله أن يحفظنا وبلدنا مصر من مكر الماكرين وكيد الكائدين وظلم الظالمين، وأن يجعلها آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين، وأن يرفع عنا البلاء والغلاء والمحن.
كتبه
صبري محمد عبد المجيد
---
(1) صحيح البخاري (1540).
(2) صحيح مسلم (1/ 47).
(3) صحيح مسلم (8/ 51)من حديث أنس
(4) صحيح البخاري (4/ 1540)