القنــاعــةُ كنـزٌ ثميـنٌ

القناعة

مفهوم القناعة

القناعة في حياة السلف

كيف نحصّل القناعة

ثمرات القناعة وفوائدها

إن المتأمل لأحوالنا اليوم بعد انفتاح الدنيا من جميع أبوابها انفتاحاً لم يسبق له مثيل، ليشعر بالخوف على نفسه في كل لحظة من أن تأخذه الأمواج، كما أخذت غيره ممن كان يشار إليهم بالبنان في الصلاح والدعوة والجهاد.

ولو وازن أحدنا بين هم الدنيا والحيز الذي تشغله من قلبه وتفكيره، وبين هم الآخرة، وهم هذا الدين لوجد أن البون شاسع والفرق كبير، ولوجد أن الدعوة وأمر هذا الدين ظهر على اللسان والأعمال الظاهرة، أما القلوب؛ فلم يشغل منها إلا القليل، وأما الهم الأكبر فهو لهذه الدنيا ومتاعها الزائل؛ كل حسب اهتمامه وواديه الذي ذهب فيه من وِديانها وشعابها التي ذكر الله عز وجل أهمها في سورة آل عمران بقوله: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران: 14]

ومع هذا الانفتاح الذي حل بالناس إلا أنك ترى التسخط وعدم الرضى بما رزقوا قد ازداد فيهم، وما هذا إلا لقلة قناعتهم بما أوتوا من النعم، وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنّهُم؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تبصر من هم تحتهم؛ فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا.

ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور، ويأبى اللّهُ تعالى الكمال المطلق لأحد من خلقه كائنا من كان؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها(1).

مفهوم القناعة

القَنَاعَةُ: الاجتزاء باليسير من الأعراض المحتاج إليها. يقال: قَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعَةً وقَنَعَاناً(2).

وقال المناوي: القناعة لغة: الرضى بالقسمة، و عرفا: الإقصار على الكفاف ويقال الاجتزاء باليسير من الأعراض المحتاج إليها وفي اصطلاح الصوفية السكون عند عدم المألوفات(3).

وقال ابن الجوزي: "القناعة الرضا بالكفاف وترك الشره إلى الازدياد"(4).

وقال الطبري في تفسير قوله تعالى { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: " وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نَصَبه ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.

وإنما قلت الطبري-ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية، لأن الله تعالى ذكرُه أوعدَ قومًا قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا، والعذاب في الآخرة، فقال تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فهذا لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، فهذا لهم في الآخرة.

 ثم أتبع ذلك لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى: ما عندكم في الدنيا ينفد، وما عند الله باق، فالذي أوعد أهل المعاصي بإذاقتهم هذه السيئة بحكمته أراد أن يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا، والغفران في الآخرة، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره"(5).

والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:

فالوجه الأول: أن يقنع بالبلغة من دنياه، ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه، وهذا أعلى منازل القناعة.

إذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ                 عَلَى حَالَةٍ إلَّا رَضِيتَ بِدُونِهَا

وقال مالك بن دينار: أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بلغته.

وقال بعض الحكماء: الرضى بالكفاف يؤدي إلى العفاف.

وقال بعض الأدباء: يا رُبَّ ضيق أفضل من سعة، وعناء خير من دعة.

والوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة، وهذه أوسط حال المقتنع.

قال بعض البلغاء: من رضي بالمقدور قنع بالميسور.

وقال إبراهيم بن المدبر:

إنَّ الْقَنَاعَةَ وَالْعَفَافَ                                 لَيُغْنِيَانِ عَنْ الْغِنَى

فَإِذَا صَبَرْتَ عَنْ الْمُنَى                         فَاشْكُرْ فَقَدْ نِلْتَ الْمُنَى

والوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سَنَح(6) فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرًا.

وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة.

أما الرغبة؛ فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنَحت.

وأما الرهبة؛ فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت.

وقال أبو حازم الأعرج وجدت شيئين: شيئًا هو لي لن أعجله قبل أجله ولو طلبته بقوة السموات والأرض، وشيئًا هو لغيري وذلك مما لم أنله فيما مضى ولا أناله فيما بقي يَمْنَعُ الذي لي من غيري كما يَمْنَعُ الذي لغيري مني، ففي أيِّ هذين أفني عمري وأهلك نفسي.

وقال أبو تمام الطائي:

مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ                      رَوْضَ الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولَا

لَوْ جَارَ سُلْطَانُ الْقُنُوعِ وَحُكْمِهِ                    فِي الْخَلْقِ مَا كَانَ الْقَلِيلُ قَلِيلَا

الــرِّزْقُ لَا تَــكْمَـدْ عَـــلَيْهِ فَـــإِنَّهُ                       يَأْتِي وَلَمْ تَبْعَثْ عَلَيْهِ رَسُولَا(7).

القناعة في حياة السلف

لقد جاءت الشريعة الإسلامية بالترغيب في التعفف عما في أيدي الناس والقناعة بالرزق الطيب الحلال مهما كان قليلاً، ورفع الإسلام من مكانة ودرجة من كانت القناعة والتعفف وغنى النفس خلقاً له، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ "(8).

ومعنى[الكفاف]: ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحق بأهل الترفهات.

ومعنى هذا الحديث: أن من فعل تلك الأمور، واتصف بها، فقد حصل على مطلوبه، وظفر بمرغوبه في الدُّنيا والآخرة(9).

ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: [وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ]، قال الطيبي: "أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزيادة لمعرفته، بأن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له.

وقال: الفلاح هو الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما. والمراد بالرزق الحلال منه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم-مدح المرزوق وأثبت له الفلاح. وذكر أمرين وقيد الثاني بـ [قنع] أي رزق كفافا وقنعه الله بالكفاف فلم يطلب الزيادة، وأطلق الأول: ليشتمل جميع ما هو الإسلام متناول له(10).

والمتأمل لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحياته يجد أعظم مثال للقناعة والكفاف والعفاف كيف لا؟! وهو الذي جعله ربه أسوة وقدوة للعالمين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]

ولقد تشعبت القناعة في أموره وحياته كلها فتجده -صلى الله عليه وسلم-:

* قنوع في أكله وشرابه:

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ فَقُلْتُ يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتِ الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا(11).

وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ(12).

وعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْر(13).

و عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ قَالَ كُلُوا فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ، وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ(14).

وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشبع من طعام بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض وهي مدة عشر سنوات، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ما أكل أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر.

ونحن نأكل في اليوم الواحد ثلاث مرات-أو يزيد- من البر ومما هو خير من البر فكيف يكون شكرنا لله تعالى، وبم يكون؟ والجواب يكون شكرنا لله تعالى بلفظ الحمد لله الذي لا يفارق ألسنتنا في غالب أوقاتنا، ويكون بطاعاتنا للمنعم سبحانه وتعالى وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه، كما يكون بحبه وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبحب كل ما

يحبانه من الاعتقاد والأقوال والأعمال والذوات(15).

*  قنوع في فراشه:

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ(16).

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعُود، قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا(17).

تلك نماذج من عيشه وحياته صلوات الله عليه وهو الذي ملك الدنيا بأسرها، وعلى هذا سار الصحابة والتابعون لهم، فلقد تحملوا الفقر والقلة التي كانت في أول أمرهم، فلما فتحت لهم الفتوح قنعوا وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل الله عز وجل، ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه، لأنه كان نبياً عبداً، لا نبياً ملكاً، فأسلم الملك لله، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش، ولانوا في الحق، وحملوا جفاء الغريب، واتبعوا اثره في العبودية، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى، ولم ينازعوه شيئاً منه(18).

 وهذه نماذج من عيشهم:

قَالَ أَبو هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ(19).

قال ابن حجر: قوله: "لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة"، يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين(20).

وعن أم ذرة، وكانت تغشى عائشة -رضي الله عنها-، قالت: بُعث إليها بمال في غرارتين قالت: أراه ثمانين أو مائة ألف فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة فجلست تقسم بين الناس فأمست وما عندها من ذلك درهم فلما أمست قالت: "يا جارية هلمي فطري" فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحما بدرهم نفطر عليه قالت: "لا تعنفيني لو كنت ذكرتيني لفعلت"(21).

وعن عامر بن عبد الله: أنَّ سَلْمَانَ الْخَيْرِ-الفارسي- حِينَ حَضَرَة الْمَوْتُ، عَرَفوا مِنْهُ بَعْضَ الْجَزَعِ فَقَالُوا: مَا يجْزِعُكَ يَا أبَا عَبْدِ الله؟ ، وَقَدْ كَانَتْ لَكَ سَابِقَةٌ فِي الْخَيْر: شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَغَازِيَ حَسَنَةً وَفُتوحاً عِظَاماً.

 قَالَ: يُجْزِعُنِي أنَّ حَبِيبَنَا -صلى الله عليه وسلم- حِينَ فَارَقَنَا، عَهِدَ إلَيْنَا قَالَ: "لِيَكْفِ الْمَرْءَ مِنْكُمْ كَزَادِ الرَّكْبِ، فَهذَا الَّذِي أَجْزَعَنِي. فَجُمعَ مَالُ سَلْمَانَ، فَكَانَ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَماً(22).

وقال الطبري: في اختيار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيار السلف من الصحابة والتابعين شظف العيش، والصبر

على مرارة الفقر والفاقة ومقاساة خشونة خشن الملابس والمطاعم على خفض ذلك ودعته، وحلاوة الغنى ونعيمه ما أبان عن فضل الزهد في الدنيا وأخذ القوت والبلغة خاصة.

 وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يطوى الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع؛ إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذه الطريقة جرى الصالحون، ألا ترى قول أبى هريرة أنه كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، وخرج يتعرض من يمر به من الصحابة يسأله عن آي القرآن ليحمله ويطعمه(23).

كيـف نحصّـل القناعة

 إن التزام المرء بالقناعة أمر صعب عسير على النفوس، لكنه يسير على من يسره الله عليه، لأن النفس مفطورة على حب التملك والترأس والازدياد من الأموال قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] يعني: وتحبون جمع المال أيها الناس واقتناءه حبًا كثيرًا شديدًا، من قولهم: قد جمّ الماء في الحوض: إذا اجتمع(24).

ولا تستقيم النفوس إلا بتوفيق من الله، ثم بأخذها بالزهد والقناعة والرضى، ومن أسباب تحصيل القناعة:

1-الاستقامة على طريق الله جل وعلا:

وأخذ النفس بالإيمان بالله تعالى، والتعبد لله بأسمائه وصفاته، والتفكر في آثار أسماء الله وصفاته.

فالله جل جلاله هو الرزاق، يرزق من يشاء ويعطي من يشاء.

2-اليقين بأن الرزق مكتوب مسطور:

عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ(25).

3- الإلحاح في الدعاء والمسألة:

وليكن من دعائنا "اللهم قنعني بما رزقتني"، فقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو من أقنع الناس وأزهدهم فكان من دعائه: " اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا"، أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم إلى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه انما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال وقد قال خير الأمور أوساطها(26).

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي لَا يَدَعُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، أَنْ يَقُولَ: "رَبِّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ"(27).

4-النظر إلى من هو أقل منك في أمور الدنيا:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ "(28). أي: أحق ألا تحتقروا نعمة الله(29).

قال ابن جرير الطبري وغيره: هذا حديث جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى من فضّل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه.

هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها ظهرت له نعمة الله تعالى عليه، فشكرها، وتواضع، وفعل فيه الخير.

وإذا تأمل ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه؛ علم أنها وصلت إليه ولم تصل إلى كثير من خلقه، فضله الله بها من غير أمر أوجب ذلك له على خالقه، ألزم نفسه من الشكر عليها أن وفق لها ما يعظم به اغتباطه فى معاده(30).

5-كثرة المطالعة والقراءة في أخبار وسير السابقين الصالحين:

لقد أدرك سلفنا من الدنيا الكثير ولكنهم قنعوا منها بالقليل، وانشغلوا بما هو خير لهم من أمر الآخرة، وآثروا الباقية على العاجلة، حالهم كقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]

وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِىَّ قال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ قَالَ فَإِنَّ لِي خَادِمًا قَالَ فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ(31).

ومن نظر إلى الفارق بين الفقر والغنى يجده بسيطًا جدًا، فالغنيُّ: مهما كثر ماله لا يأخذ منه إلا ما يسد حاجته، وما زاد على حاجته فهو موضوع مدخر، فلو فرضنا أنه عنده طعام ما يكفي ألف إنسان فلا يأخذ منه إلا ما يحتاجه، ولو كان عنده من الركاب ألف مركب فلا يركب منها إلا ما يحتاجه، ولو كان عنده ألف ملبس لا يلبس إلا ما يحتاجه، ولو أنه ملك الأرض بأسرها وأراد أن ينام فلا يأخذ منها إلا ما يساوي حجم جسده، فلا يمكن أن يستعمل كل هذا في وقت واحد، فعلام يحسد مثل هذا وهو سيحاسب على هذا كله، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "أَهْلُ الْأَمْوَالِ يَأْكُلُونَ وَنَأْكُلُ، وَيَشْرَبُونَ وَنَشْرَبُ، وَيَلْبَسُونَ وَنَلْبَسُ، وَيَرْكَبُونَ وَنَرْكَبُ، لَهُمْ فُضُولُ أَمْوَالٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَنَنْظُرُ إِلَيْهَا مَعَهُمْ، عَلَيْهِمْ حِسَابُهَا، وَنَحْنُ مِنْهَا بَرَاءٌ"(32).

ثمرات القناعة وفوائدها

إن في القناعة فوائد وثمرات كثير ة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والأمان والطمأنينة في الحياة الدنيا، ومن ذلك:

1-امتلاء القلب الإيمان بالله تعالى، والثقة به والرضى بما قسم به ورزق وقدّر، ومن رُزق الرضا والقناعة طابت حياته فلا يضره ولا يهمه من الدنيا شيء قل أو كثر ما دام على الإسلام، كما قال ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: "مَا يَضُرُّ عَبْدًا يُصْبِحُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُمْسِي عَلَيْهِ، مَاذَا أَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا"(33).

2-الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة:

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]

وقد رُوى عن الحسن البصريّ وغيره أنه قال: الحياة الطيبة: القناعة(34).

3-الفلاح والبشرى لمن قنع بعيشه ورزقه:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ "(35).

وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " طُوبَى لِمَنْ هُدِىَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ "(36).

قال الصنعاني: " فإنه بالقُنُوعِ يفوز بالأجر لعلمه بأن الله تعالى لم يزوِ عنه شيئًا يستحقه ولأنه يريح قلبه بتفرغ لعبادة مولاه فإن من زاد ماله زادت أشغاله وذهب عنه عافيته وماله"(37).

4-القناعة تورث المرء العزة:

فالعز كل العز في القناعة، والذل كل الذل في الطمع، وذلك أن المرء القَنُوع لا يحتاج إلى غيره من الناس فلا يزال عزيزًا، وأما الطامع فيذل نفسه بطلبه المزيد من غيره، قال أعرابيٌّ لأهل البصرة: من سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم، وما أحسن قول بعض السَّلف في وصف الدُّنيا وأهلها:

وما هِيَ إلاَّ جِيفةٌ مستحيلةٌ                             عليها كلابٌ هَمُّهُنَّ اجتذابُها

فإنْ تَجْتَنبها كنتَ سِلْماً لأهلها                        وإنْ تجتذبها نازعتك كِلابُها(38).

وفي المقابل فإن "القناعة في القلب لا في اليد"، فالقناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين؛ ولكن القناعة تأبى أن تَلجَ هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه؛ حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض! من أجلها، ويرتكب المحرمات من ربًا ورشوة وكسب خبيث حفاظًا عليها أو تنمية لها.

وكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا غشّ في تجارته، ولا منع أجَراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات، إن ربح شكر وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.

وكم من مستور يجد كفافًا؛ ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا بملك درهمًا ولا فلسًا(39).

هي القنـــاعة فالزمها تعش ملكا                  لو لم يكن منك إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها              هل راح منها بغير القطن والكفن؟(40).

---

(1) انظر [كتاب "فاستقم كما أمرت(ص: 254)"، لعبد العزيز الجليل، و"القناعة، مفهومها(ص: 31)"، لإبراهيم الحقيل]. . بتصرف.

(2) مفردات القرآن للراغب (ص: 685).

(3) التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي(ص: 590).

(4) كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي(ص: 1106).

(5) تفسير الطبري(17/ 291).

(6) يقال: سَنَحَ لِي رَأْيٌ فِي كَذَا ظَهَرَ وَسَنَحَ الْخَاطِرُ بِهِ جَادَ. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (4/ 338).

(7) أدب الدنيا والدين للماوردي(ص: 281).

(8) أخرجه مسلم(2473).

(9) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي(9/ 66).

(10) شرح المشكاة للطيبي(10/ 3279).

(11) أخرجه البخاري(2567)، ومسلم(7642).

(12) أخرجه البخاري(6454).

(13) أخرجه البخاري(6455).

(14) أخرجه البخاري(5421).

(15) عظات وعبر من أحاديث سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر الجزائري(ص: 6).

(16) أخرجه البخاري(6456).

(17) أخرجه الترمذي(2377)، وقال الألباني صحيح لغيره وانظر صحيح الترغيب والترهيب (3/ 153).

(18) وانظر نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي(4/ 310).

(19) أخرجه البخاري(442).

(20) فتح الباري لابن حجر (1/ 536).

(21) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم(2/ 47).

(22) أخرجه ابن حبان في صحيحه(2480)، والدينوري في القناعة (ص: 53)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3319).

(23) شرح صحيح البخارى لابن بطال(10/ 176).

(24) تفسير الطبري(24/ 415).

(25) أخرجه البخاري(7454)، ومسلم(6893).

(26) فتح الباري لابن حجر (11/ 275).

(27) أخرجه البخاري في الأدب المفرد(681)، وابن أبي شيبه في المصنف(15816).

(28) أخرجه مسلم(2963).

(29) النهاية في غريب الأثر لابن الأثير(2/ 737).

(30) انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 199)، وشرح النووي على مسلم(9/ 349).

(31) أخرجه مسلم(7653).

(32) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (592).

(33) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 197).

(34) تفسير الطبري(17/ 290).

(35) أخرجه مسلم(2473).

(36) أخرجه الترمذي(2522)، وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والطبراني في المعجم الكبير(15182).

(37) التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني(7/ 160).

(38) جامع العلوم والحكم لابن رجب(2/ 893).

(39) وانظر دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ لشحاته صقر(1/ 257).

(40) نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار لابن درهم(ص: 244).