أحوال أهل القبور
فتنة القبر
عذاب القبر ونعيمه.
أسباب عذاب القبر
كيف النجاة من عذاب القبر.
المقدمة
جعل الله الدورَ للعباد ثلاثة: دار العمَل وهي هذه الدّنيا، ودار البرزَخ، والدّار الآخِرة.
فدارُ الدنيا دارُ عمَل، يتنافس فيها المتنافسون، ويستبِق فيها المتسابقون، قال تعالى "وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى" [البقرة: 197] وقال تعالى "وَقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ"[البقرة: 123]،
وقال تعالى "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا" [آل عمران: 29] وقال تعالى "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105]. فهي دارُ عمل، يعمَل فيها العِباد، ويتنافس فيها المتَنافسون، والسعيدُ من سَبقَت له من الله السعادَة، فاستغَلّ عمرَه فيما يُرضِي الله عنه.
ودارُ الآخرة هي دار الجزاء على الأعمَال، قال تعالى "لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى" [النجم: 31].
ودارُ البرزخ، وهي بين الدنيا والآخرة، ألا وهو هذا القبر الذي يسكنُه العبد بعدَ مفارقتِه الدّنيا، ويبقى فيه إلى أن يأذنَ الله بقيَام العباد لربّ العالمين، قال تعالى "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ" [يس: 51-53]، قال تعالى "يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ" [الذاريات: 44].
فالقبر إمّا روضةٌ من رياض الجنة، وإمّا حفرة من حفَر النار. القبرُ نتيجةٌ لعملك في الدنيا، فمحسنٌ يكون القبرُ عليه سَعةً وسرورًا، ومسيء يكون القبر عليه ضيقًا وحزنًا وسوءًا.
وكَانَ عُثْمَانُ، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ.(1)
1-فتنة القبر ومدافعة أعمال الميت الصالحة عنه.
عندما ينزل الإنسان القبر ويتخلى القريب والبعيد ويأتيه الملكان لمحاسبته فلا يجد إلا ما قدم من خير أوشر فيجد الصلاة والصيام وتلاوة القرآن وغيرها من الأعمال الصالحة تدافع عنه.
قال تعالى "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" [إبراهيم: 27]
قال ابن القيم: الخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت، ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَتَقُولُ فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ. (3)
2-عذاب القبر ونعيمه
قد دل القرآن والسنة على عذاب القبر ونعيمه قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [الواقعة: 88 - 94]
قال ابن كثير: هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم: إما أن يكون من المقربين، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين، وإما أن يكون من المكذبين الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله. (4)
وكان النبي يستعيذ بالله من عذاب القبر دبر كل صلاة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ". (5)
وكان يذَكِّرُ الصحابة بعذاب القبر في كثير من أحواله فعَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَنَا فِي حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ بَنِي النَّجَّارِ، فِيهِ قُبُورٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْقَبْرِ عَذَابٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ"
3-أسباب عذاب القبر
1- النميمة.
عن حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه- قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ"(6)
قال السيوطي: النميمة نقل كَلَام النَّاس بَعضهم إِلَى بعض على جِهَة الْإِفْسَاد بَينهم فَإِن دعت إِلَى ذَلِك مصلحَة شَرْعِيَّة لم تحرم(7)
2-عدم الاستبراء من البول.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"(8)
وأخبر النبي عن وقوع عذاب القبر بسبب النميمة وعدم التنزه من البول تنبيها على وقوعه فيما هو أحرى بالبعد عنه منهما.
قال ابن القيم: أخبر النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- عَن الرجلَيْن الَّذين رآهما يعذبان فِي قبورهما يمشى أَحدهمَا بالنميمة بَين النَّاس وَيتْرك الآخر الِاسْتِبْرَاء من الْبَوْل فَهَذَا ترك الطَّهَارَة الْوَاجِبَة وَذَلِكَ ارْتكب السَّبَب الْموقع للعداوة بَين النَّاس بِلِسَانِهِ وَإِن كَانَ صَادِقا وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أَن الْموقع بَينهم الْعَدَاوَة بِالْكَذِبِ والزور والبهتان أعظم عذَابا كَمَا أَن فِي ترك الِاسْتِبْرَاء من الْبَوْل تَنْبِيها على أَن من ترك الصَّلَاة الَّتِي الِاسْتِبْرَاء من الْبَوْل بعض واجباتها وشروطها فَهُوَ أَشد عذَابا. (9)
3-هجر القرآن.
عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- وفيه أن الملك قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- "والَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"(10)
4-كيف النجاة من عذاب القبر
1-الاستقامة على طاعة الله واتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا أعظم سبيل للنجاة من عذاب القبر.
قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30]
قال الشاعر:
تزود من معاشك للمعاد. . . وقم لله واعمل خير زاد
ولا تجمع من الدنيا كثيراً. . . فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم. . . لهم زاد وأنت بغير زاد؟(11)
2-اجتناب الأسباب المؤدية لعذاب القبر كالكذب والزنا والربا وهجر القرآن والغيبة والنميمة.
فعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- وفيه أن الملك قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- "أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا. "(12)
3-وَمن انفع الأسباب المنجية من عذاب القبر
كما قال ابن القيم: أن يجلس الرجل عِنْدَمَا يُرِيد النّوم لله سَاعَة يُحَاسب نَفسه فِيهَا على مَا خسره وَربحه فِي يَوْمه ثمَّ يجدد لَهُ تَوْبَة نصُوحًا بَينه وَبَين الله فينام على تِلْكَ التَّوْبَة ويعزم على أَن لَا يعاود الذَّنب إِذا اسْتَيْقَظَ وَيفْعل هَذَا كل لَيْلَة فَإِن مَاتَ من ليلته مَاتَ على تَوْبَة وَإِن اسْتَيْقَظَ اسْتَيْقَظَ مُسْتَقْبلا للْعَمَل مَسْرُورا بِتَأْخِير أَجله حَتَّى يسْتَقْبل ربَّه ويستدرك مَا فَاتَهُ وَلَيْسَ للْعَبد انفع من هَذِه النومة. (13)
---
(1) أخرجه الترمذي (2308) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح(132)
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 136)
(3) صحيح ابن حبان - محققا (7/ 380)، وصححه الألباني في الصحيحة (1444)
(4) تفسير ابن كثير (7/ 548)
(5) أخرجه مسلم (1263)
(6) أخرجه مسلم (168)
(7) شرح السيوطي على مسلم (1/ 119)
(8) أخرجه البخاري (218)
(9) الروح (ص: 77)
(10) أخرجه البخاري (1386)
(11) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 306)
(12) أخرجه البخاري (1386)
(13) الروح (ص: 79)