خذ من أموالهم صدقة
المفهوم الواسع للصدقة الأدلة على مشروعية الصدقة وفضلها
شروط وآداب الصدقة مبطلات الصدقة مسائل وأحكام
من حكمة ربنا تعالى أن فاوتَ بين العباد في أرزاقهم كما فاوتَ بينَهم في أخلاقهم، وله الحكمة في تفاوت الخلق في أرزاقهم، فإنه فاوتَ بينَهم فجَعل أغنياءَ وفقراء، بل جعل الأغنياءَ متفاوتين في قدر الغنى، كما أن الفقراءَ متفاوتون في قدر الفقر، قال تعالى مبيِّنًا ذلك وأنه يبسط الرزق لمن يشاء: {قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[سبأ: 36]، لا يعلمون هذه الحقيقة، لا يدركون كُنهَها، والله جل وعلا هو العليم الحكيم الذي يقسم رزقَه بين عباده على كمال الحكمة والعلم والرحمة والعدل.
وفِي هذهِ الحياة الدّنيا متاعبُ وأعباء وفقرٌ أحداثٌ جسام، والإنسان لا غنى له عن أخيه؛ يشدّ عضدَه، ويقوِّي عزمتَه، ويخفِّف شِدّته، ويفرِّج كربَه، طمعًا في الأجر وطلبًا للفضَل، وبهذا يقوم المجتمعُ على أسُسٍ قويّة وقواعدَ متينة في نظامٍ من التّكافل والتّعاون.
إنّها رقّة القلب والرّحمة الفيّاضة التي تدفع المسلمَ لإسداء المعروفِ وإغاثةِ الملهوف ومعاونة المحتاج والبرِّ بالفقراء والمساكين والعطفِ على الأراملِ ومسحِ دموعِ اليتامى والإحسانِ إليهم وإدخالِ السرور على نفوسهم، قال تعالى: {إنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18]. أيّ حافزٍ للصدقة أوقع وأعمقُ من شعورِ المعطي بأنّه يقرِض الغنيَّ الحميدَ، وأنّه يتعامل مع مالك الملك، وأنّ ما ينفِقه مخلَفٌ عليه مضاعفًا، وله بعدَ ذلك كلِّه أجرٌ كريم؟! قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. أي: يخلَف عليكم في الدّنيا بالبَدَل وفي الآخرةِ بالجزاء الثواب، وقال رسول الله: ((ما مِن يومٍ يصبح العبادُ فيه إلا ملكان ينزِلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعطِ منفِقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهمّ أعطِ مُمسكًا تلفًا)) (1)
المفهوم الواسع للصدقة
يتسع مفهوم الصدقة ليشمل كل أنواع معروف
*عن أبي موسى الأشعري قال: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ)) قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: ((فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ)) قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: ((فَيُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ)) قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: ((فَيَأْمُرُ بِالخَيْرِ)) أَوْ قَالَ: ((بِالْمَعْرُوفِ)) قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: ((فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ))(2)
*عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ))(3)
الأدلة على مشروعية الصدقة وفضلها
أولا من القرآن:
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [البقرة / 254]
وقال تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [البقرة / 261، 262]
وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [البقرة / 267]
قال الله تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [البقرة: 245].
وفي السنة كثير منها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلوَّه حتى تكون مثل الجبل ". (4)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله أنفق يا ابن آدم أنفق عليك. (5)
شروط وآداب الصدقة
1- الإخلاص: وهو شرط في قبول جميع العبادات ومنها الصدقات قال الله تبارك وتعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ)) [ البينة آية: 5]
2- ألا تقترن الصدقة بالمن والأذى قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْـهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ)) [البقرة الآية: 264].
3- أن تكون من كسب طيب قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )) ( البقرة آية: 267) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا الآية. وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ (6)
4- أن تكون الصدقة عن ظهر غنى
عن حكيم ابن حزام -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ)(7)
وقد تكون من اليد السفلى خير لقول النبي
5- المبادرة بالصدقة
عن حارثة بن وهب قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ( تصدقوا فإنه يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها يقول الرجل لو جئت بها بالأمس لقبلتها فأما اليوم فلا حاجة لي بها )(8)
مبطلات الصدقة
1) المن والأذى
لقد أثنى الله على من ينفق ماله في سبيل الله وذم سبحانه من يفسد هذه النفقة بالمن والأذى فقال: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ سورة البقرة(262)(263).
وعن أبي ذر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره. (9)
وعبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" (10)
2) أن تكون من مال خبيث أو من غلول
قال الله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة 276]
3) الرياء
الرياء يبطل الصدقة إذا قارنها و طغى عليها؛ فقد ذم الله تعالى من فعل ذلك، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} (3). وقال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (4).
مسائل وأحكام
أيهما أفضل إخفاء الصدقة أم إظهارها؟
أولا: الصدقة الواجبة.
نقل عدد من العلماء الإجماع على أن إظهارها أفضل
قال ابن بطال: " ولا خلاف بين أئمة العلم أن إعلان صدقة الفريضة أفضل من إسرارها، وأن إسرار صدقة النافلة أفضل من إعلانها "(11)
وقال ابن العربي: " أما صدقة الفرض فلا خلاف أن إظهارها أفضل، كصلاة الفرض وسائر فرائض الشريعة؛ لأن المرء يحرز بها إسلامه، ويعصم ماله.
وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر ولا في تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح يعول عليه، ولكنه الإجماع الثابت. "(12)
ثانيا: صدقة التطوع
قال النووي: " الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها ليراه غيره فيعمل عمله ولئلا يساء الظن به وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب إظهارها وإنما يستحب الإخفاء في نوافل الصلاة والصوم "(13)
وقد فصَّل ابن العربي فقال: " فأما صدقة النفل فالقرآن صرح بأنها في السر أفضل منها في الجهر؛ بيْد أن علماءنا قالوا: إن هذا على الغالب مخرجه.
والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطي لها، والمعطى إياها، والناس الشاهدين لها.
- أما المعطِي فله فائدة إظهار السنة وثواب القدرة، وآفتها الرياء والمن والأذى.
- وأما المعطَى إياها فإن السر أسلم له من احتقار الناس له أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفف.
- وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطي لها بالرياء، وعلى الآخذ لها بالاستثناء؛ ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكن هذا اليوم قليل."(14)
ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء خاصة للصدقة
لقد خص النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء بدعوتهن إلى الصدقة وبين لهن العلة في ذلك،
فعن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر
على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن" قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: "أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل" قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان دينها" (15)
أحكام المسألة والتسول
حذر الشارع الحكيم من السؤال من غير حاجة ومن الإلحاف في المسألة
قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].
قال ابن كثير رحمه الله: "أراد: لا يُلِحُّونَ في المسألة، ولا يُكَلِّفُونَ الناسَ ما لا يحتاجون إليه؛ فإن مَنْ سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد أَلْحَفَ في المسألة"(16)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سأل الناس أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسأل جمرَ جهنَّم، فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِرَ"(17)
وقال الغزالي رحمه الله: "السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ
قَرِيبَةٍ مِنَ الضَّرُورَةِ فإن كان عنها فهو حرام وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:
الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى. . .
الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسئول
الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة. (18)
فضل الاستعفاف والنهي عن المسألة
قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].
قال ابن كثير: "أراد: لا يُلِحُّونَ في المسألة، ولا يُكَلِّفُونَ الناسَ ما لا يحتاجون إليه؛ فإن مَنْ سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد أَلْحَفَ في المسألة"(19)
عن الزُّبير بن العوَّام -رضي الله عنه-: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأَنْ يأخُذَ أحدُكم حَبْلَهُ، فيأتي بحِزْمَةِ الحَطَب على ظهره، فيبيعها، فيَكْفِ الله بها وجهَه - خيرٌ له من أن يسأل الناس، أعطَوْهُ أو منعوه"(20)
عن حَكيم بن حِزَام -رضي الله عنه- قال: سألتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم، إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَنْ أَخَذَهُ بسَخاوَة نَفْسٍ، بُورِكَ له فيه، ومَنْ أَخَذَهُ بإشراف نَفْسٍ، لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى"، قال حكيم: فقلتُ: يا رسول الله، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ، لا أرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أُفارِقَ الدُّنيا، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يدعو حكيمًا إلى العطاء، فيأبى أن يَقْبَلَ منه، ثم إن عمر-رضي الله عنه- دعاه ليعطيه، فأبى أن يَقْبَلَ منه شيئًا، فقال عمر: إني أُشْهِدُكم يا معشرَ المسلمين: أنِّي أعرض عليه حقَّه من هذا الفَيْء، فيأبى أن يأخذه؛ فلم يَرْزَأْ حكيمٌ أحدًا من الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفيَ -رضي الله عنه-. (21)
وقال النووي: (باب النهي عن المسألة)مقصود الباب وأحاديثه النهي عن السؤال واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة. (22)
الوعيد لمن سأل الناس من غير حاجة
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ( ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم )(23)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سأل الناس أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسأل جمرَ جهنَّم، فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِر"(24)
وعن أبي كبشة الأنماري، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا "(25)
والحمد لله رب العالمين
---
(1) رواه البخاري (1374) ومسلم (1010)
(2) البخاري(6022) ومسلم (1008)
(3) البخاري( 6021)
(4) رواه البخاري (1344) ومسلم (1014)
(5) رواه البخاري (5073) ومسلم (993)
(6) رواه مسلم (1015)
(7) رواه البخاري (1361) ومسلم (1034)
(8) رواه البخاري (1345)ومسلم (1011)
(9) رواه مسلم (106)
(10) رواه مسلم (224)
(11) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/ 420)
(12) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 315)
(13) المجموع شرح المهذب (6/ 233)
(14) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 315)
(15) رواه البخاري (304) مسلم (79)
(16) تفسير ابن كثير (1/324)
(17) رواه مسلم (1041)
(18) إحياء علوم الدين (4/210)
(19) تفسير ابن كثير (1/324)
(20) رواه البخاري (1471)
(21) رواه البخاري (1472)، و مسلم (1035)
(22) شرح النووي على مسلم (7/ 127)
(23) رواه البخاري (1405)، ومسلم (1040)
(24) رواه مسلم (1041)
(25) رواه الترمذي ت (2325)