وقفات تربوية مع شهر شعبان
خصائص شهر شعبان
احذر من الغفلة
فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعات
الاستعداد لرمضان
مقدمة: شهر شعبان من الشهور التي لها منزلة عظيمة ومكانة رفيعة غيرَ أن الكثر من الناس لا يعرفون منزلته فضلا أن يقوموا بحقه، لذلك ينبغي لنا أن نقف مع هذا الشهر بعض الوقفات حتى لا نكون ممن يغفل عن هذا الشهر، ومن هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: خصائص شهر شعبان
كان الناس في الجاهلية يعظمون شهر رجب ويُهملون شهر شعبان، فجعل الله لهذا الشهر مِن الخصائص ما زاده مكانة في نفوس المسلمين، فمن هذه الخصائص:
1- جعله الله بمثابة الختام لأعمال السنة، ففيه ترفع أعمال السنة
عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: (. . . . . . هُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ). (1)
وقفة تربوية: شهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟
إنها لحظة حاسمة في تاريخ المرء، حين تصعد الملائكة بحصاد عامه كله، لتعرض هذه الأعمال على الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]
فهل تحب أن يرفع عملك وأنت في طاعة لله وثبات على دينه وفي إخلاص وعمل واجتهاد وتضحية، أم تقبل أن يرفع عملك وأنت في سكون وضعف همة وقلة بذل وإعراض عن الله؟. . . . . . . راجع نفسك – يا عبد الله - وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى الله في شهر رفع الأعمال، واعلم أن (اللهَ تعالى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا). (2)
2- خصَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بمزيد صيام واجتهاد
عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قالت: كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ. (3)
وقفة تربوية: هل تُحب ما أحبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهل تجد في نفسك الشوق لهذا الشهر كما وجَدَه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ إنه الاختبار العملي والمعيار الحقيقي لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ترى نفسك تحب ما يحب الله ورسوله وتشتاق إلى ما يشتاق إليه وتحذو حذوه وتسير على دربه.
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ. (4) وفي لفظ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا. (5)
قال ابن الْمُبَارَكِ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ. (6)
قال ابن حجر: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ. (7)
قال ابن رجب: وإنما صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور. (8)
قال الصنعاني: في الحديث دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَخُصُّ شَعْبَانَ بِالصَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. (9)
قال ابن رجب: أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض. (10)
وقفة تربوية: كم يوماً تنوي صيامه من هذا الشهر اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؟
3- خصه اللهُ بليلةٍ كريمة يطَّلعُ الله فيها على عباده فيغفر لكل موحِّد غير حاقد ولا مشاحن
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ). (11)
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (يَطْلُعُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ).(12)
وقفة تربوية: ليلة النصف من شعبان فرصة عظيمة
- لكل مخطئ ومقصر في حق الله لأن يعود ويُنيب {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]
- وهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود، وليكن شعارنا جميعا قوله تعالى: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ مَن بلغ لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة. (13)
- وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه، أن يحسن الظنَّ بربه العظيم، الذي لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره مهما كان هذا الذنب، لذلك نادى على عباده قائلا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]
وفَتَحَ لهم أبواب رحمته ورجاءه فقال: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً). (14)
الوقفة الثانية: احذر أن تكون من الغافلين
عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ.(15)
وكأن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُبَيِّنُ للمؤمنين أنهم لا ينبغي أن يغفلوا حين يَغفُلُ النَّاس عن الله تعالى، بل لابد أن يكونوا متيقظين لربهم سبحانه وتعالى، غير غافلين عنه جلَّ وعلا، مقبلين عليه حال إعراض النَّاس، ذاكرين له حال غفلة النَّاس، مهتدين بهدايته حال ضلال النَّاس. لهم شأن، والنَّاس لهم شأن آخر.
شأنهم وحالهم: القُرب من الله تعالى، والوقوف ببابه، والتضرع له. والدعاء، والذكر، والبكاء، والتذلل، والانكسار إلى ربهم في كل حين، لا يخرجون عن ذلك طرفة عين. فأشواقهم لمحبته. . . ونعيمهم ولذتهم وشهواتهم في طاعته. (16)
ما سبب غفلة الناس عن شعبان؟
قال ابن رجب: لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام (رجب) وشهر الصيام (رمضان) اشتغل الناس بهما، فصار مغفولاً عنه. (17)
أيها الغافل:
- انتَبِه لرَحِيلكَ ومَسْراك، واحذرْ من موافقةِ هواك، انتقل إلى الصلاح قبل أن تُنقل، وحاسب نفسك على ما تقول وتفعل، ولا تغفل عن التدارك. . . اللهَ اللهَ لا تفعل. (18)
أيها الغافل: انتبه قبل أن يدخل رمضان وأنتَ في غفلتك فتُحرم الخيرات والنفحات
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلاَ يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ). (19)
أيها الغافل: انتبه حتى لا تحرم من المغفرة
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرة -رضي الله عنه- قَالَ صَعِدَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (آمِينَ آمِينَ آمِينَ) فَلَمَّا نَزَلَ سُئِلَ عَن ذَلِكَ فَقَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ قُلْ: آمِينَ. قُلْتُ: آمِينَ). (20)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ). (21)
أيها الغافل: انتبه حتى لا تكون من المُبعَدين المطرودين
عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ حِينَ ارْتَقَى دَرَجَةً: (آمِينَ)، ثُمَّ ارْتَقَى الْأُخْرَى فَقَالَ: (آمِينَ)، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ فَقَالَ: (آمِينَ)، فَلَمَّا نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَفَرَغَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ كَلَامًا الْيَوْمَ مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ؟ ، قَالَ: (وَسَمِعْتُمُوهُ؟)، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (إِنَّ جِبْرِيلَ -صلى الله عليه وسلم- عَرَضَ لِي حِينَ ارْتَقَيْتُ دَرَجَةً فَقَالَ: بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ). (22)
الوقفة الثالثة: فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعة؟
في تعمير أوقا ت الغفلة كثير من الفوائد والثمرات منها:
1- دليل على علو الهمة وصدق العزيمة
قال ابن الجوزي: اعلم أن الأوقات التي يغفل الناس عنها مُعَظَّمةُ القدر لاشتغال الناس بالعادات والشهوات، فإذا ثابر عليها طالبُ الفضل دل على حرصه على الخير. ولهذا فُضِّل شهودُ الفجر في جماعة لغفلة كثير من الناس عن ذلك الوقت.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ( سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ) قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ). (23)
ومعنى الْمُفَرِّدُونَ: أي المنفردون المعتزلون عن الناس، من فرد إذا اعتزل وتخلى للعبادة فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله أي سبقوا بنيل الزلفى والعروج إلى الدرجات العلى. (24)
2- موافقة الله فيما يحب
فالله سبحانه وتعالى يحب أن يُطاع في كل وقت وحين، وخاصة وقتَ غفلة الناس وانشغالهم عن طاعته، وكلما ازدادت الغفلة في وقتٍ، كلما ازدادت محبةُ الله لأن يُطاع في ذلك الوقت. قال ابن رجب تعليقا على حديث أسامة بن زيد:
فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوبٌ لله عز وجل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة ولذلك فضل القيام في وسط الليل لأنه يشتمل على الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر، فعن عَمْرُو بْن عَبَسَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ). (25)
ولهذا المعنى كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: (مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرَكُمْ). (26)
وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له، ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق، وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة. (27)
3- الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى
إن أولى الناس بمحبة الله تعالى الذين لا يشغلهم عن عبادته شاغلٌ ولا يصرفهم عن طاعته صارف، هم في شأن والناس في شأن، عن أَبِي ذَرٍّ الغفاري -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (ثَلاَثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، قَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُؤُوسَهُمْ فَيَتَنَحَّى أَحَدُهُمْ فَيُصَلِّي يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي حَتَّى يُوقِظَهُمْ لِرَحِيلِهِمْ...).(28)
فهذا الرجل لما انفرد عن رفقته بالقيام بين يدي الله مع حاجته للراحة أحبَّه الله، فكذلك كلُّ مَن يذكر الله في غفلة الناس أو يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام. (29)
وهذه الصورة من أجلى صور المحبة لله أن تراه يقبل على ربه والناس منشغلون، وعن طاعته لاهون، فبينما الناس في دنياهم، في غُدُوهم ورواحهم، هو يقبل على الطاعة، لأن ربه أغلى عنده من كل شيء، لذلك كان الجزاء من جنس العمل.
4- مضاعفة الأجور
غفلة النَّاس تجعل الطاعات شاقة على النفس؛ بخلاف ما إذا ما كثُر الطائعون لله تعالى فإنَّ النَّاس كُلَّهم يألفون الطاعة فلا يجدون لها مشقة، أما إذا كانت أوقات الغفلة، وتفرَّد المرء بالطاعة كانت شاقة على نفسه وصعبة عليه؛ لأنه لا يجد مَن يتأسى به؛ لأجل ذلك كان العمل عند غفلة الناس وانصرافهم عن الطاعة له أجر كبير، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ مِنْكُمْ). ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوَمِنْهُمْ؟ قَالَ: (لَا، بَلْ مِنْكُمْ). ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَوْ أَرْبَعًا. (30)
قال الشيخ كمال الدِّين الزملكاني: يُضاعف ثواب العامل منهم (أي المتأخرين) على عمله لقلة من يعمل ذلك العمل، ولا يلزم من ذلك أفضليته على من تقدَّم (أي الصحابة)، بل يكُون ذلك العمل الخاص الذي عمله هذا المتأخر مضاعف الثواب لقلة الأعوان عليه، كما قال -صلى الله عليه وسلم- (إنَّكم تجدون على الخير أعوانًا).
وقال الشيخ عز الدِّين ابن عبد السلام: هذا الحديث مبنيٌّ على قاعدتين: إحداهما: أنَّ الأعمال تشرف بثمراتها.
الثانية: أنَّ الغريب في أول الإسلام هو كالغريب في آخره، وبالعكس لقوله -صلى الله عليه وسلم- (بدأ الإسلام غريب وسيعُود كما بدأ، فطوبى للغرباء من أمتي). أي المتفردين بالتقوى دُون أهل زمانهم. (31)
الوقفة الرابعة: شعبان والاستعداد لرمضان
القاعدة: مَن أحسن الاستعداد، وتعاهد بالسُّقيا وبالخدمةِ جاد، سرَّه ذلك يوم الحصاد
لن تحصد في رمضان إلا ما غرسته في رجب وتعاهدتَ سقياه في شعبان، ولا تسل عن حال الغافلين.
فمَن زرعَ الحبوبَ وما سقاها. . . تأوَّهَ نادما يومَ الحصاد
يا مَن طالت غيبته عنَّا قد قرُبت أيام المصالحة؛ يا مَن دامتْ خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، مَن لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح، مَن لم يقرب فيه من مولاه فهو على بُعْده لا يربح. (32)
شعبان تمهيدٌ وتدريب لنتهيأ لرمضان
القاعدة: العرقُ في التدريب يقلل من الخسائر إذا بدأت المعركة
قال ابن رجب: لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن، ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاضُ النفوس بذلك على طاعة الرحمن
قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القُرَّاء
وكان حبيب بن أبي ثابت: إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء
وكان عمرو بن قيس الملائي: إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن
وكان عمار بن ياسر: يتهيأ لصوم شعبان كما يتهيأ لصوم رمضان.
يا من فرَّط في الأوقات الشريفة وضيعها، وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها.
مضى رجبٌ وما أحسنتَ فيه. . . وهذا شهرُ شعبانُ المباركْ
فيَا مَن ضيَّع الأوقاتَ جَهْلا. . . بحُرْمَتِها أَفِقْ واحذرْ بَوارَكْ
فسوفَ تُفارقُ اللذاتِ قَسرا. . . ويُخلِي الموتُ كرها مِنْكَ دارك
تدارك ما استطعتَ مِن الخطايا. . . بتوبةِ مُخلِصٍ واجعلْ مَدَارك
على طلبِ السلامةِ مِن جحيمٍ. . . فخيرُ ذَوي الجرائمِ مَن تَدارك(33)
---
(1) رواه النسائي (2678) وحسنه الألباني في إرواء الغليل(4/ 103)
(2) رواه مسلم (1015) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
(3) رواه أبو داود (2431) والنسائي (2671) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 848)
(4) رواه البخاري (1969) ومسلم (1156)
(5) رواه البخاري (1970) ومسلم (1156)
(6) فتح الباري لابن حجر (4/ 214)
(7) فتح الباري(4/ 215)
(8) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 128)
(9) سبل السلام (1/ 583)
(10) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 129)
(11) رواه ابن ماجه (1390) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 373)
(12) رواه ابن أبي عاصم في السنة (511) والطبراني (590) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 385) و رواه ابن أبي عاصم في السنة (509) عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه-، ورواه ابن حبان (5665) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ-رضي الله عنه-.
(13) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 140)
(14) رواه الترمذي (3540) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 251) من حديث أنس -رضي الله عنه-
(15) رواه النسائي (2678) وحسنه الألباني في إرواء الغليل(4/ 103)
(16) حال المؤمنين في شعبان / لمحمد الدبيسي (ص: 34)
(17) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 130)
(18) التبصرة لابن الجوزي (2/ 48)
(19) رواه ابن ماجه (1644) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 612)
(20) رواه البزار (4277) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 76)
(21) رواه الترمذي (3545) والبزار (8465) وابن حبان (908) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 292)
(22) رواه الطبراني (315) والحاكم (4/ 170) والبيهقي في شعب الإيمان (3/ 134) وصححه الذهبي وقال الألباني: صحيح لغيره، راجع صحيح الترغيب والترهيب (1/ 583)
(23) رواه مسلم (2676)
(24) فيض القدير (4/ 92)
(25) رواه الترمذي (3579) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 387)
(26) رواه البخاري (566) ومسلم (638) من حديث عائشة -رضي الله عنها-
(27) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 131)
(28) رواه أحمد (5/ 153) والحاكم (2/ 123) وصححه الذهبي، وصححه الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (35/ 285)
(29) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 131) بتصرف
(30) رواه المروزي في السنة (32) والطبراني (289) وصححه الألباني، وله شاهد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. راجع السلسلة الصحيحة (1/ 892)
(31) قوت المغتذي على جامع الترمذي للسيوطي (2/ 762)
(32) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148)
(33) التبصرة لابن الجوزي (2/ 47) ولطائف المعارف لابن رجب (ص: 135)