منزلة الشكر

منزلة الشكر

أولاً: تعريف الشكر وبيان أركانه.

ثانياً: فضل الشكر والشاكرين.

ثالثاً: الوسائل المعينة على الشكر.

رابعاً: الترهيب من الجحود وعدم الشكر.

لا ريب في عِظَم فضلِ الشُّكرِ ورِفعة شأنِه، شُكرِ الله على نعمه المتوالية وعطاياه المتتالية وأياديه السابغة، وقد أمر الله به في كتابه ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقِه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله وعطائه، وحارساً وحافظاً لنعمته، وأخبر أنَّ أهلَه هم المنتفعون بآياته، ونوّع سبحانه الدلالة إليه والحثَّ عليه.

المبحث الأول: تعريف الشكر وبيان أركانه.

الشكر: مصدر شكر يشكر، وهو عرفان الإحسان ونشره.

وقيل: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وقيل: الشكر هو المجازاة على الإحسان بالثناء على المحسن.

والشكر: اعتراف القلب بمنة الله تعالى، وتلقيها افتقارا إليها، وصرفها في طاعة الله تعالى، وصونها عن صرفها في المعصية

والشكر من الله: المجازاة والثناء الجميل. والشكور: كثير الشكر.

وأما الشكور في صفات الله - عز وجل - فمعناه أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء، وشكره لعباده مغفرته لهم.

والشكور من عباده فهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته وأدائه ما وظف عليه من عبادته.(1)

أركان الشكر(حقيقته وقواعده)

قال ابن القيم: وشكر العبد يدور على ثلاثة أركان لا يكون شكورًا إلا بمجموعها

أحدها: اعترافه بنعمة الله عليه، والثاني: الثناء عليه بها، والثالث: الاستعانة بها على مرضاته.(2)

ويمكن بيانها كالتالي: -

الأول: الاعتراف بالنعمة مع خضوع الشاكر للمشكور وحبه له.

أي تقر وتعترف وتوقن بقلبك وتجزم أن الذي أسداك تلك النعمة هو الله؛ مع المحبة والخضوع له، وما العبد إلا وسيلة فقط للحصول عليها؛ قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].فلا تنسب النعمة للعبد وتنس الرب؛ لأن هذا فعل الجهال الذين في عقيدتهم زيف وضلال؛ فهم ينسبون النعم لغير بارئها؛ فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ "(3)

وفي لفظ حديث ابن عباس -رضي الله عنه-ما قال: "مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: " أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا"(4)

الثاني: التحدث بها والثناء على المنعم. بلسانه وينسب الفضل لله وحده ويتبرأ من حوله وقوته

 قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وهذا يشمل النعم الدينية والدنيوية {فَحَدِّثْ} أي: أثن على الله بها، وخصصها بالذكر إن كان هناك مصلحة.

وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق، فإن التحدث بنعمة الله، داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن.(5)

ولهذا كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يحي ليله كله في الثناء على الله عز وجل.

فعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنه-ا قَالَتْ: " فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"(6)

فإذا أصبت خيراً أو علمت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك على سبيل الشكر لا الفخر والتعالي.

الثالث: أن يستعمل النعمة ويسخرها في طاعة الله ولا يستعملها في سخط الله

قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]  أي: وقلنا لهم اعملوا شكرا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين، وذلك بطاعته وامتثال أمره. ففيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية.

فالله أمر آل داوود بالعمل شكراً، فهناك شكر القول وشكر العمل، لذلك قال: اعملوا، ولم يقل: قولوا شكرًا، لأن الشاكرين بالعمل قلة، لذلك زيل الآية بقوله:

 {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13).(7)

فهذه حقيقته الشكر. ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافًا. وعلى قلبه: شهودا ومحبة. وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة، فمتى عدم منها واحدة: اختل من قواعد الشكر قاعدة.(8)

المبحث الثاني: فضل الشكر والشاكرين ( منزلة وثمرات الشكر)

الشكر شطر الدين لأن العبد تكون حاله  بين الكفر والجحود قال تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر.(9)

فقسم الله الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله وهكذا ندرك أن الشكر فريضة على المسلم، وليس من باب الكماليات.

الشكر سبب عظيم لثبوت النعم وزيادتها قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، {ولئن كفرتم} أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، {إن عذابي لشديد} وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها.(10)

وقال عمر بن عبد العزيز: قيدوا نعم الله بشكر الله. فكلما شكر العبد زاده الله في نعمته وأحدث له نعمة أخرى حسية أو معنوية.

وقال الحسن البصري: "إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها

عذابا، ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب، لأنه يجلب النعم المفقودة".

 الشكر سبب لرضى الله عن عبده الشاكر: ومن آثار الشكر رضا الله تعالى عن عبده، ومغفرته له، وهو رضا حقيقي يليق بالله تعالى، قال تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"(11)

وعن معاذِ بن أنسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "مَنْ أكَلَ طَعَامَاً، فَقال: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أطْعَمَنِي هَذَا، وَرَزَقنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(12)

فمن أراد أن يكون ممن -رضي الله عنه-م فليحمد الله تعالى ويشكره شكرًا يظهر على جوارحه وتصرفاته، ليحظى بالمزيد من فضل الله وعطائه ومغفرته ورضاه، وهذه سعادة الدنيا والآخرة.

الشكر سبب في الأجر الجزيل في الدنيا والآخرة: قال تعالى: {وسنجزي الشاكرين} [آل عمران: 145].وقال سبحانه: {وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.(13)

الشاكر، والشكور  من أسماء الله، و الشكر  صفة من صفات الله: قال تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23] وقال تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]

وهو الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ويشكر القليل من العمل الخالص، ويعفو عن الكثير من الزلل، بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة بغير عد ولا حساب. ومن شكره أنه: يعطي بالعمل في أيام معدودة نعيمًا في الآخرة غير محدود، {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: " فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ"(14)

وفي كثير من الأحاديث تجد من عمل كذا وكذا فله الجنة، وهذا دليل على أنّ الله شكور يجزل المثوبة لعباده، ويعطي الكثير على القليل، فما أرحمه من رب! وما أعظمه من إله! !

فسمى نفسه شاكرًا وشكورًا وسمى الشاكرين بهذين الاسمين. فأعطاهم من وصفه. وسماهم باسمه. وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلًا.(15)

 الشكر صفة من صفات الأنبياء: قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] أي: يا ذرية من مننا عليهم وحملناهم مع نوح، {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ففيه التنويه بالثناء على نوح عليه السلام بقيامه بشكر الله واتصافه بذلك والحث لذريته أن يقتدوا به في شكره ويتابعوه عليه، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم إذ  أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم.(16)

وقال عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 120، 121] أي: قائما بشكر نعم الله عليه، كما قال: {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 37]، أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به.(17)

وأما عن شكر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فحدث ولا حرج، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"(18)

والفاء في قوله أفلا أكون للسببية وهي عن محذوف تقديره أأترك تهجدي فلا أكون عبدًا شكورًا، والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا فكيف اتركه.(19)

الشكر  من أوامر الله تعالى:

أمر الله به النبيين، فأمر به موسى عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]

وأمر به نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65، 66]

وأمر به المؤمنين  قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]

 وقال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]   والآيات في ذلك كثيرة

 الشكر من صفات المؤمنين: فعَنْ صُهَيْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"(20)

الشكر أمان من العذاب: قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]

أي: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدَّرك الأسفل من النار، إن أنتم أنبتم إلى طاعته، وراجعتم العمل بما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه. لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضُرًّا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه، جزاءٌ منه له على جرَاءته عليه، وعلى خلافه أمره ونهيه، وكفرانِه شكر نعمه عليه. فإن أنتم شكرتم له على نعمه، وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعةٍ له وشكر.قال قتادة رحمه الله: "إن الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا"(21)

المبحث الثالث: الوسائل المعينة على الشكر.

ومن أعظم ما يعين على أداء الشكر لله أمور منها: -

التزام الدعاء لله تعالى: كما أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم-  معاذًا فقال له: " يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ"، فَقَالَ: " أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(22)

وقوله: "وشكرك" المطلوب منه توالي النعم المستجلبة لتوالي الشكر، وإنما طلب المعاونة عليه لأنه عسير جداً، ولذلك قال الله تعالي: {وقليل من عبادي الشكور}.(23)

فيحسن بالمؤمن أن يكثر الدعاء بتيسير الشكر في كل حال.

 استحضار كمال قدرة الله وغناه المطلق وكمال رحمته ولطفه بالعباد وكمال حلمه وأنه يتفضل على عباده بالنعم ويغمرهم برحمته ويجود عليهم رغم تقصيرهم معه قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]

أي: إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين  لقوله  تعالى: {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون} [الروم: 44].وقوله: {ومن كفر فإن الله غني حميد} أي: غني عن العباد، لا يتضرر بذلك، ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا، فإنه الغني عمن سواه؛ فلا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه.(24)

 التفكر في كثرة النعم التي لا يستطيع أن يحصيها من إيمان وأمن وسلامة في البدن والمال والأهل والولد وغير ذلك فكل نعمة يتولد منها نعم كثيرة قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]

قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

التأمل في عظيم جزاء الشكر في الآخرة وثوابه العاجل في الدنيا ويتأمل في عذاب كفر النعم في الآخرة ومحق النعم في الدنيا.

التفكر في عظم السؤال والوقوف بين يدي الله عن شكر النعم التي أسداها الله إليه كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَعْنِي العَبْدَ مِنَ

النَّعِيمِ، أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ".(25)

النظر إلى أحوال الفقراء والمساكين ومن هم أدنى حالا في الدنيا فيدرك العبد عظيم النعم التي هو فيها فيحدث ذلك شكرها لتثبت وتزيد.

فإن ذلك يوجب احترام النعمة وعدم احتقارها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ"

وفي لفظ لمسلم "انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَلَيْكُمْ"(26)

قال النووي: قال ابن جرير وغيره هذا حديث جامع لأنواع من الخير لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أو يقاربه هذا هو الموجود في غالب الناس وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها ظهرت له نعمة الله تعالى عليه فشكرها وتواضع وفعل فيه الخير.(27)

والمؤمن إذا شاهد نعمة تذكر حق المولى عليه وأحدث ذلك في نفسه شكر عظيم لمولاه كما حصل للنبي سليمان عليه الصلاة والسلام لما سمع كلام النملة فاستشعر عظيم نعمة الله عليه بسعة ملكه وتسخير البهائم له ومعرفته منطقهم فشكر الله في الحال وخضع قلبه لله قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 18، 19]

المبحث الرابع: الترهيب من الجحود وعدم الشكر.

سبب في نزول العذاب الشديد: كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]  أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، {إن عذابي لشديد} وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها.(28)

 سبب لتبديل الرغد من العيش إلى الضيق والشدة: قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}[سبأ: 15 - 17]

قيل: المراد بالعرم المياه. وقيل: الوادي. وقيل: الجرذ. وقيل: الماء الغزير. فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته

وخمط: مر، وأثل: لا ثمر فيه.

فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة، والظلال العميقة والأنهار الجارية، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل؛ ولهذا قال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} أي: عاقبناهم بكفرهم.(29)

سبب لزوال الأمن وحلول الجوع والخوف قال تعالى مبينًا حال تلك القرية العظيمة التي كانت ترفل بالنعم والأمن ثم كفرت بنعم الله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]

وعبر باللباس لملازمته صاحبه، فالجوع والخوف لا يبرحان ساحتهم، وهما لهم كاللباس الذي يباشر صاحبه ولا فكاك عنه.

سبب لحلول الهلاك والعذاب: فقد ذكر الله عزّ وجلّ قصة قارون في سورة القصص، وما حصل له من النعم العظيمة التي توالت عليه؛ حتى إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وقال إن ما أوتيه من هذه النعم لكونه حقيقًا بذلك وأنه أهل لذلك؛ فكَفَر هذه النعم ولم يشكرها، ولم يضفها إلى المنعِم بها، ولم يصرفها في طاعة الله عزّ وجلّ.

قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ..} حتى قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}

هذه نتيجة كفران النعم، نتيجة كفران النعم، أن الله خسف به وبداره الأرض، فهذه النعم التي أنعم الله تعالى بها عليه، لما لم يشكرها صارت وبالاً عليه، وذهبتْ وذهب معها من غير أن يستفيد، بل تضرر وخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

سبب في تبديل الحال إلى أسوأ  كما في قصة الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأقرع  والأعمى.

 فلما جحد الأبرص والأقرع عاقبهما الله تعالى وردهما إلى أسوأ حال، أما الأعمى فلأنه شكر نعمة الله عليه أدامها الله تعالى عليه.(30)

وأخيرًا احذر الاستدراج: فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ" ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].(31)

ذلك حين ترى زيادة النعم و إسباغها بدون شكر لله عز وجل. فهذه علامة خطر ينبغي الوقوف عندها، كما قال الله عز وجل {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56] ولذا فسر سفيان ابن عيينة قول الله عز وجل: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ قال: "نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر".(32)

نعوذ بالله من ذلك.

--

(1) مدارج السالكين (2/ 235)، فيض القدير (2/ 116)، التنوير شرح الجامع الصغير (3/ 113)، تيسير الكريم الرحمن (ص: 677)

(2) عدة الصابرين (ص: 148)

(3) البخاري(846)، مسلم (71)

(4) مسلم(73)  قال النووي: اختلف العلماء في كفر من قال مطرنا بنوء كذا على قولين: -  أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان مخرج من ملة الإسلام قالوا وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشىء للمطر كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء،

والقول الثاني: أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب أصبح من الناس شاكر وكافر. شرح النووي على مسلم (2/ 60)

(5) تيسير الكريم الرحمن (ص: 929)

(6) مسلم (486)

(7) تفسير ابن كثير (6/ 500)، التفسير الميسر (1/ 429)

(8) مدارج السالكين (2/ 234)

(9) تفسير القرطبي (19/ 122)

(10) تفسير ابن كثير (4/ 479)

(11) رواه مسلم(2734)

(12) أخرجه أحمد (15632)، والبخاري في التاريخ(7/361)، والترمذي(3458)، وابن ماجه (3285) وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 123)، الألباني في إرواء الغليل (1989)

(13) تفسير ابن كثير (2/ 130)

(14) البخاري(2363)، مسلم (2244)

(15) مدارج السالكين (2/ 233)

(16) تيسير الكريم الرحمن (ص: 453)

(17) تفسير ابن كثير (4/ 611)

(18) مسلم (2820)

(19) فتح الباري لابن حجر (3/ 15)

(20) مسلم (2999)

(21) جامع البيان (9/ 342)

(22) أحمد(22119)، أبو داود(1522)، النسائي(1303)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7969)

(23) شرح المشكاة للطيبي (3/ 1052)

(24) تفسير ابن كثير (6/ 335)

(25) الترمذي(3358)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(539)

(26) البخاري(6490)، مسلم (2963)

(27) شرح النووي على مسلم (18/ 97)

(28) تفسير ابن كثير (4/ 479)

(29) تفسير ابن كثير (6/ 508)

(30) البخاري(3464)، مسلم (2964)

(31) أحمد(17311)، الروياني (261)، الطبري في التفسير (11/361)، الكنى والأسماء للدولابي(605)، الطبراني في الكبير(913) وصححه الألباني في الصحيحة (413)

(32) الشكر لابن أبي الدنيا(116)