قبسات من مشكاة النبوة
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، بِيَدِي فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ)، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رسول الله، قَالَ: (إِنِّي أُحِبُّكَ)، قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ يا رسول الله، قَالَ: (أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاة؟ ) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (( قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ )).(1)
راوي الحديث:
هو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل الأنصاري -رضي الله عنه-، أسلم وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد العقبة وبدراً والمشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، (أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ).(2)
لذلك اختاره النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليكون سفيراً له إلى اليمن ليدعو الناس إلى توحيد الله ويعلمهم أركــان الـدين، وجاء في الأثر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (يأتي مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ يوم القيامة). (3) أي يحشر يوم القيامة متقدما على العلماء برمية سهم أو حجر. مات -رضي الله عنه-، بناحية الأردن في طاعون عمواس: سنة ثماني عشرة وهو ابن ثلاث وقيل: أربع وقيل ثمان وثلاثين سنة.
شرح الحديث
* قوله -صلى الله عليه وسلم-، لمعاذ -رضي الله عنه- (يَا مُعَاذُ إِنِّي أُحِبُّكَ).
- فيه بيان لما كان عليه -صلى الله عليه وسلم-، من تواضعه وترفقه وحسن تعليمه لأصحابه -رضي الله عنهم-.
قال تعالى في وصف نبيه {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]
وقال تعالى{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128]
وصدق فيه قول مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رضي الله عنه-: بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ. (4)
- وفيه بيان لما ينبغي أن يكون عليه حال الراعي مع رعيته وكل مَن ولاه الله ولاية، لأن الأصل في علاقة الراعي مع رعيته، الرحمة والعطف والتناصح والتواصل والمحبة، وإلا فسدت حياة الناس ووقع بينهم التنازع والتناحر والتقاتل، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ). (5)
- وفيه تعليم وتوجيه للدعاة إلى الله تعالى من سيد الدعاة -صلى الله عليه وسلم-، أن يقدموا بين يدي دعوتهم ما يدل على محبتهم وحرصهم على المدعو، وهذا أدعى لقبول دعوتهم وأسكن لنفوس المدعوين وأشرح لصدورهم.
قال تعالى{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل: 125]
* وفي قول معاذ -رضي الله عنه- (( وأنا وَاللَّهِ أُحِبُّكَ يا رسول الله )).
- فيه بيان لما كان عليه حال الصحابة -رضي الله عنهم-، من محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- محبة صادقة، فهم الذين ضربوا المثل الأعلى في صدق محبتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإليك هذا المثال، لما أَسَرَ المشركون زيدَ بنَ الدَّثِنَة -رضي الله عنه-، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ. وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ ابْن حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ آمِنَا؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَة تؤذيه، وأنّى جَالِسٌ فِي أَهْلِي. فقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا. (6)
- وفيه بيان لما يجب على كل مسلم من محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أكثر من النفس والمال والأهل. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ). (7)
وعن عَبْد اللَّهِ بْن هِشَامٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: (لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: (الآنَ يَا عُمَرُ). (8)
- وفيه تقرير لسُنَّةٍ علمناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبيانها في حديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ). (9)
فإذا أخبر المسلم أخاه أنه يحبه، فيقل له: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. وذلك لما ورد في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: (أَعْلَمْتَهُ؟ ) قَالَ: لَا، قَالَ: (أَعْلِمْهُ) قَالَ:
فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. (10)
* وفي قوله: (أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاة؟ ).
- فيه بيان لأسلوب من أساليب الدعوة بأن تكون الدعوة في صيغة سؤال، للفت انتباه السامع ليحضر قلبه ويصغي سمعه فيكون ذلك أدعى لتأثره بما يسمعه وأسرع استجابة.
- واختلف أهل العلم في المقصود بدبر الصلاة في هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الدعاء، فقال بعضهم: المقصود به الدعاء بعد الانتهاء والسلام من الصلاة، وهو قول له حظه من النظر والاستدلال، وعليه جمهور أهل العلم، وقال آخرون منهم ابن تيمية وابن القيم: المقصود به آخر الصلاة قبل السلام، وهو قول قوي تؤيده المرجحات الآتية:
الأول: أن الغالب استعمال كلمة الدبر للجزء من الشيء، فدبر الحيوان جزء منه، وكذلك دبر الصلاة.
الثاني: أن ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعله بعد الصلاة لم ينقل فيه دعاء، وإنما نقل الاستغفار والتهليل والتسبيح، وغيره من الأذكار.
الثالث: أن الدعاء داخل العبادة أفضل من الدعاء خارجها. (11)
* وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (( قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي ))
- فيه دليل على ضعف الإنسان وفقره وشدة حاجته لربه جل وعلا، فالموفَّق من وفقه الله، والمخذول من خذَلَه الله عز وجل، لذلك قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (( يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ )). (12)
وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعلنها صريحة واضحة، أنَّ العباد جميعا في أشدِّ الحاجة إلى توفيق الله وإعانته وتسديده، حتى لا يغترَّ أحدٌ بعده -صلى الله عليه وسلم-، بسعيه وجهده وعمله، فعَنِ البَرَاءِ -رضي الله عنه-، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَوْمَ الخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ بن رواحة:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا. . . وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا. . . وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا. . . إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ. (13)
وعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ) قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ( لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا). (14)
قال الراغب الأصفهاني -رحمه الله-:
يجب أن يعلم كل إنسان أنه لا سبيل لأحد إلى شيء من الفضائل إلا بهداية اللَّه تعالى ورحمته، فهو مبدأ الخيرات ومنتهاها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)). وخاطب الناس فقال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )). (15)
وقال تعالى{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] وقال سبحانه{ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]
تبرأ من حولك وقوتك والجأ إلى حوله وقوته واستعن به، وتوجه إليه واطلب منه. . والزم: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله-: تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. (16)
قال الصنعاني -رحمه الله-:
وَفِي إفْرَادِهِ تَعَالَى بِالِاسْتِعَانَةِ فَائِدَتَانِ، فَالْأُولَى أَنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِنَفْسِهِ فِي الطَّاعَاتِ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَا مُعِينَ لَهُ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ أَعَانَهُ اللَّهُ فَهُوَ الْمُعَانُ، وَمَنْ خَذَلَهُ فَهُوَ الْمَخْذُولُ. فَالْعَبْدُ أَحْوَجُ إلَى مَوْلَاهُ فِي طَلَبِ إعَانَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ. (17)
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (( قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ذكرك ))
- هنا سؤال: هل يحتاج الذكر إلى إعانة؟ هل الذكر عملٌ شاق وصعب لهذه الدرجة؟
- فالذكرُ مع سهولته ويسره على كل إنسان صغير وكبير ذكر وأنثى، ومع ما يجلبه من راحة النفوس، وسعة الصدور واطمئنان القلوب، إلا أنك ترى واقع بعض الناس يدل على خلاف ذلك، فتمرُّ الأوقات والساعات والأعمار ثم تجد الحصيلة في غاية الضعف، فما السرُّ في ذلك؟ السرُّ في ذلك ضعف الهمم وقلة الرغبة فيما عند الله، فعلى قدر إقبالك على الله وصدق نيتك وقوة عزيمتك تكون المعونة من الله تعالى
قال ابن القيم -رحمه الله-: المعونة من الله تنزل على الْعباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذَلِك فَالله سُبْحَانَهُ أحكم الْحَاكِمين وَأعلم الْعَالمين يضع التَّوْفِيق فِي موَاضعه اللائقة بِهِ والخذلان فِي موَاضعه اللائقة بِهِ هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم، وَمَا أُتِي من أُتِي إِلَّا من قِبَل إِضَاعَة الشُّكْر وإهمال الافتقار وَالدُّعَاء، وَلَا ظفر من ظفر بِمَشِيئَة الله وعونه إِلَّا بقيامه بالشكر وَصدق الافتقار وَالدُّعَاء، وملاك ذَلِك الصَّبْر فَإِنَّهُ من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الرَّأْس من الْجَسَد فَإِذا قطع الرَّأْس فَلَا بَقَاء للجسد. (18)
فالله هو الموفق، الله هو الذي يصطفى ويختار. . فالسير في الطريق إلى الله مبنى على الاصطفاء والاختيار، فاذا اختارك واصطفاك هيأك، قال الله تعالى في حق يونس عليه السلام { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [القلم: 50]
وكم من إنسان شريف النسب أبعده الله، وكم من إنسان وضيع النسب قربه الله وأدناه، وكل ذلك بعلم وحكمة
قال ابن القيم -رحمه الله-: هبّت عواصف الأقدار فِي بيداء الأكوان فتقلب الْوُجُود وَنجم الْخَيْر فَلَمَّا ركدت الرّيح: إِذا أَبُو طَالب غريق فِي لجة الْهَلَاك، وسلمان على سَاحل السَّلامَة، والوليد بن الْمُغيرَة يقدم قومه فِي التيه، وصهيب قد قدم بقافلة الرّوم، وَالنَّجَاشِي فِي أَرض الْحَبَشَة يَقُول لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، وبلال يُنَادي الصَّلَاة خير من النّوم، وَأَبُو جهل فِي رقدة الْمُخَالفَة. (19)
سبحانك يا الله يا عليم يا حكيم، قربت سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، وأبعدت أبا جهل القرشي، وأبا طالب عمَّ النبي، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23]
قال الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رحمه الله-، عَنِ الْقَدَرِ:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أشأْ. . . وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ. . . فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ. . . وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ. . . وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ(20)
- العبد يحتاج إلى ربه في ردِّ كيد عدوه - وهو الشيطان -
فالشيطان لا يتوقف مكره بالإنسان ليلا ولا نهارا، يأتي الإنسان عن يمينه وعن شماله ومن أمامه ومن خلفه بلا هوادة، ولن يردَّ كيده في نحره إلا مَنْ خلقه ويعلم مكره ووسوسته، لذلك لابد للعبد من اللجوء إلى الله
قال ابن القيم -رحمه الله-: فلا نجاة للعبد من مصائد الشيطان ومكائده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذى هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول في ضمان {إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. (21)
وحكي عَنْ بعض السلف أنه قَالَ لتلميذه: مَا تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قَالَ: أجاهده. قَالَ: فَإِن عاد؟ قَالَ: أجاهده. قَالَ: فَإِن عاد؟ قَالَ: أجاهده. قَالَ: هَذَا يطول، أرأيت إنْ مررتَ بغنمٍ فنبحك كلبُها أَوْ منعك مِن العبور مَا تصنع؟ قَالَ: أكابده وأرده جهدي. قَالَ: هَذَا يطول عليك، ولكن استعن بصاحب الغنم يَكُفُه عنك. (22)
- العبد يحتاج إلى أن يسدده الله في جميع أعماله
كم من إنسان يكدّ ويعمل والله عز وجل معرضٌ عنه، بل كلما اجتهد في عمله ازداد من الله بعداً.
كم من وجوه خاشعة وقع على قصص أعمالها {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}. لطائف المعارف لابن رجب (ص: 340)
قال تعالى{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104]
وقال تعالى{ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } [التوبة: 53]
وانظر إلى حال الخوارج ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، في وصفهم، كما في حديث أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، عن الخوارج: ( يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ). (23)
لذلك فالعبد في حاجة إلى أن يلجأ إلى ربه حتى يسدده في جميع أعماله، عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (قُلِ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ، بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ، سَدَادَ السَّهْمِ). (24)
وصدق القائل:
إذا لمْ يكنْ عونٌ من اللهِ للفتى. . . فأكثرُ ما يجني عليه اجتهادُهُ
فبدون توفيق الله سبحانه وتعالى للإنسان أول ما يجني عليه هو اجتهاده وعقله الذي حرم من التوفيق وابتلي بالخذلان.
- العبد يحتاج إلى أن يثبته الله على دينه حتى يلقاه
فكم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما همَّ أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق. . . . ، الخلقُ كلُّهم تحت هذا الخطر، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
قال بعضهم: ما العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. (25)
قال الله تعالى لنبيه وخيرته من خلقه {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } [الإسراء: 74]
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعلمنا كيف يتبرأُ أحدنا من حوله وقوته ويظهر ضعفَ نفسه لربه وخالقه، كما في حديث أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قال: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-،: (( يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ )).(26)
وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ). (27)
وسئلتْ أمٌّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-: مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: (يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ). (28)
فما أحوجنا أن نستعين بربنا وخالقنا في جميع أمورنا لأننا حقا ضعفاء، لأننا حقا لا نستطيع أن نحرك مثقال ذرة من مكانها، إلا بعون الله وقوته ومشيئته.
---
(1) رواه أبو داود (1522) وأحمد (5/ 244)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1320)
(2) رواه أحمد (3/ 184) وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 228) واللفظ له وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 216)
(3) رواه أبو نعيم في الحلية (1/ 229) وقال الألباني في الصحيحة (3/ 83): هذا مرسل صحيح
(4) رواه مسلم (537)
(5) رواه مسلم(1855)
(6) سيرة ابن هشام (2/ 172)
(7) رواه البخاري (14)
(8) رواه البخاري (6632)
(9) رواه أبو داود (5124) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1396)
(10) رواه أبو داود (5125) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 1397)
(11) فتاوى الشبكة الإسلامية (10/ 1565)
(12) رواه مسلم (2577)
(13) رواه البخاري (3034) ومسلم (1803)
(14) رواه البخاري (5673) ومسلم (2816)
(15) الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 119)
(16) مدارج السالكين (1/ 100)
(17) سبل السلام (2/ 648)
(18) الفوائد لابن القيم (ص: 97)
(19) الفوائد لابن القيم (ص: 40)
(20) ديوان الإمام الشافعي (ص: 107)
(21) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 5)
(22) تلبيس إبليس (ص: 35)
(23) رواه البخاري (3610) ومسلم (1064)
(24) رواه مسلم (2725)
(25) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 340)
(26) رواه النسائي (10330) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1013)
(27) رواه الترمذي (2140) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 37)
(28) رواه الترمذي (3522) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 871)