سلسلة الأساليب النبوية
في
(الدعوة والوعظ والتربية والتعليم ومعالجة الأخطاء)
أولا: وقفات مع بعض الأساليب النبوية في التربية والتعليم
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها معلم أو مربٍّ في أي زمانٍ ومكان؛ فما من حالة يمر بها المربي أو المعلم إلا ويجدها نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريباً منها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- الفقر والغنى، والأمن والخوف، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، عاش اليتم والعزوبة والزوجية والأبوة. . فكان يتعامل مع كل مرحلة وكل حالة بما يناسبها.
ولقد ساس النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب، ودعاهم وعلَّمهم وأحسن تربيتهم؛ مع قسوة قلوبهم وخشونة أخلاقهم، وجفاء طباعهم وتنافر أمزجتهم، لقد كان حال العرب كما وصفهم جعفر بن أبي طالب ـ -رضي الله عنه- ـ بقوله: "كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف. . "(1)
فاحتمل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هم فيه من جفاء، وصبر منهم على الأذى، حتى كانوا خير أمـة بعد أن لم يكن لهم قيمة ولا وزن {وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
إن المتأمل في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه للأمة وتربيته لها، وإن الإحاطة بكل ذلك قد لا يكون ممكناً ولا مناسباً في مثل هذه العجالة، ولكني أقف مع بعض هذه الأساليب النبوية التي أرى الحاجة ماسة إلى التنبيه عليها:
■ أولاً: الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال:
أحياناً نتعامل مع المتعلم والمدعو والمتربي على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، ولذا نرى أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب والحفاوة وحسن الاستقبال، بل قد نعتبر مجرد قبولنا له كافياً في الإكرام، وربما يشعر الأب والمربي والداعية أياً كان أن الحق له؛ فهو يطالب المتربي به. والحقيقة أن للأب والمربي حقاً كبيراً، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرف الولد والمتربي والمدعو بذلك ويغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.
ولقد كان من يقابل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لأول وهلة يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه.
جاء صفوان بن عسال ـ -رضي الله عنه- ـ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "مرحباً بطالب العلم؛ إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب…(2)"، كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ في بعض الأحيان يأتـي الطالب ليشـارك في حلقة قـرآن أو منشط خيري فيقابـل بشــيء مــن البـرود (. . لا بأس، اجلس مع زملائك. . ) دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بعارضة من الشروط المشددة (شروط القبول) والتي ربما جعلته يعود أدراجه. إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية ربما جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد ذا أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس.
– وعن أبي رفاعة ـ -رضي الله عنه- ـ قال: "انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله! رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله ( وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديداً. قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها(3).
عجيب والله! يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم! أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب! ! هل نستطيع نحن المعلمين أو المربين أن نقوم عن وجبة الإفطار ـ في المدرسة مثلاً ـ لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟
– ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباساً خاصاً وخطيباً يخطب بين يديه إشعاراً منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى(4). . "، ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية"(5). إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية.
■ ثانياً: الرفق والرحمة وحسن التأني:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
لقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الرفق سبباً من أسباب الكمال والنجاح؛ فعن عائشة ـ -رضي الله عنها- ـ قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه"(6). وفي حديث جرير بن عبد الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حُرِمَ الرفق حُرِمَ الخير"(7).
على هذه القاعدة العظيمة في التعامل (الرفق والرحمة) كان تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه؛ فعن أبي هريرة ـ رضي اله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالـد أُعَلِّمُكُم؛ فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها…"(8)، فتأمل كيف ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب اللطيف في التعليم، وكم سيكون له من أثر في نفس السامع. . ! !
وعن مالك بن الحويرث ـ -رضي الله عنه- ـ قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيماً رفيقاً؛ فلما ظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم". . الحديث. إن هذه الرحمة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء الشباب فيها التوجيه إلى ضرورة مراعاة طبائع النفوس، الشيء الذي قد يغفل عنه بعض المربين بحجة (الجدية والحزم) فربما كلفوا النفوس ما لا تطيق، وحَمَلوها على ما يسبب لها الانقطاع.
وتتأكد الحاجة إلى الرفق والرحمة عند وقوع الخطأ غير المتعمد؛ لأن النفوس أحياناً قد يستثيرها الخطأ فتنسى التعامل معه بالرحمة والرفق، وتميل بقوةٍ إلى الردع والتأديب؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن(9).
وعن أنس ـ -رضي الله عنه- ـ قال: جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذَنوب من ماء فأُهريق عليه"(10)، وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله ـ عزَّ وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن".
تأمل هذا الموقف لو وقع في مسجد حيِّك، لو أن ـ رضيعاً ـ بال في مصلى النساء فكم ستتابع على أمه كلمات التعنيف وربما السب، وسيكون ذلك حديث جماعة المسجد، وأهل الحي أياماً.
إن التعامل بالرفق والرحمة يورث النفس نوعاً من الطمأنينة والهدوء، ويجعل تَفَهُّم المشكلة والتعامل معها أكثر نجاحاً وتحقيقاً للأهداف بخلاف ما لو صَحِب ذلك نوعٌ من التوتر.
■ ثالثاً: الثناء والتشجيع:
الثناء والتشجيع وتسليط الضوء على مكامن الكمال في النفس البشرية والإشادة بها منهج نبوي كريم، يراد منه بعث النفس على الزيادة، وإثارة النفوس الأخرى نحو الإبداع والمنافسة، وهو مشروط بأن يكون حقاً، وأن يُؤمَن جانب الممدوح، وأن يكون بالقدر الذي يحقق الهدف.
– عن أبي هريرة ـ -رضي الله عنه- ـ قال: يا رسول الله! مَنْ أسعد الناس يوم القيامة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِـمَا رأيت من حرصك على الحديث…. "(11).
– وعن حذيفة ـ -رضي الله عنه- ـ قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله! ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح(12) (وفي رواية) فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: هذا أمين هذه الأمة(13).
– وعن أُبي بن كعب ـ -رضي الله عنه- ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] قال: فضرب صدري، وقال: لِيَهْنَ لك يا أبا المنذر العلم"(14).
انظر كم في هذه الأحاديث من تشجيع واهتمام ومزيد رعاية وعناية.
كم يبعث التشجيع في نفس المتعلم من حب للعلم، وكم يساعد في تسارع خطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرة التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عن الثناء عند كل نجاح وتفوق.
والثناء والتشجيع قد يستفاد منه في تدعيم سلوك معين أو التوجيه إلى عمل مهم يحسن اكتسابه.
– في حديث ابن عمر ـ -رضي الله عنهما- ـ في الرؤيا التي رآها فقصها على أخته حفصة ـ -رضي الله عنها- ـ فقصتها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل". فيا ترى ما أثر ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابن عمر ـ -رضي الله عنه-؟ (قال سالم: فـكان عبد الله، بعـد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلاً)(15).
إن كثيراً من القدرات، وكثيراً من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور، بل ربما يموتون وتمــوت مواهبهــم وقدراتهـم؛ لأنهـم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء، أو يرفعهم بعبارة تشجيع.
إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهـد المجتهـد منهـم فحسب، بل إننا نحــرك نفــوســاً ربمــا لا يحركها أسلوب آخر……. ! !
---
(1) مسند أحمد (1740) وقال محققوه: إسناده حسن.
(2) المعجم الكبير للطبراني (7347) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (71): حسن.
(3) مسلم (876).
(4) البخاري (53)، مسلم (24).
(5) البخاري (4388).
(6) مسلم (2593).
(7) مسلم (2592).
(8) أبو داود (8)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (6): حسن.
(9) مسلم (537).
(10) البخاري (221).
(11) البخاري (99).
(12) مسلم (2420).
(13) مسلم (2419).
(14) أبو داود (1460) وقال الألباني في صحيح أبي داود (1460): صحيح.
(15) البخاري (3738 و3739).