وصية نبي الله نوح عليه السلام لولده
((الزم التوحيد والذكر))
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحًا لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنِّي مُوصِيكَ، فَقَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ ، آمُرُكَ باثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،
فَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً، لقَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأُوصِيكَ بِسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ، فَإِنَّهَا صَلاَةُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّركِ وَالْكِبْرِ) ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ الشِّرك قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الْكِبْرُ؟ قَالَ: (أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ، وَتَغْمَصَ النَّاسَ).(1)
أهمية هذه الوصية :
- مما يبرز لنا أهمية هذه الوصية ، أنها وصية نبي ورسول من أولي العزم ، والرسل هم أنصح الناس للناس وأحرصهم على نجاة الخلق ، وأبصرهم بما يرضي الحق جل جلاله
- ولأنها وصية والد شفيق لولده ؛ وحرص الوالد على ولده مركوز في الفِطر والنفوس
- ولأنها وصية مودع للدنيا فيجمع فيها الموصِي لمن يوصيه الخير الذي يعلمه بحذافيره.
- ولأنها جمعت بين أعظم الأوامر وهو توحيد الله وتنزيهه ، وبين أعظم النواهي وهو الشرك وقرينُة الكبْر.
لذلك كان حقيقا بنا أن نقف مع هذه الوصية الغالية وقفات نقتبس منها الدروس ونلتمس العبر.
الوصية الأولى : الوصية بلا إله إلا الله
وذلك في قوله : (آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). يعني آمرك بالتمسك بلا إله إلا الله ، وذلك يقتضي معرفة معناها والعمل بمقتضاها إلى أن يلقى الله تعالى عليها.
لماذا أوصى نوح ولده بلا إله إلا الله ؟
لأنها الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خُلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟. فجواب الأولى بتحقيق " لا إله إلا الله " معرفة وإقرارا وعملا. وجواب الثانية بتحقيق " أن محمدا رسول الله " معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة.(2)
وقال سفيان بن عيينةَ: ما أنعمَ اللَّهُ على عبدٍ من العبادِ نعمةً أعظمُ من أن عرَّفهم "لا إلهَ إلا اللَّهُ.(3)
ولو أردتُ أن أسرد الأحاديث التي وردت في فضلها لضاق المقام جدا ، ولاحتجنا إلى سِفْرٍ كبير ، ولكن الإشارة تكفي اللبيب.
- لا يثقل مع اسم الله شيء
وبيان ذلك في قوله :(لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ). فالسماوات السبع على اتساعها وعظيم سمكها وثقلها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار ، والأرضون السبع على اتساعها وعظيم حجمها ، وكثرة جبالها وبحارها وقفارها ، إلا أنهما لو وضعن في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله.
الله أكبر : أي ثِقَلٍ لهذه الكلمة وأيُّ حَجمٍ لهذه الكلمة حتى ترجح بهذه المخلوقات العظيمة ، ولكنها تستوجب من قائلها علما بمعناها وعملا بمقتضاها ظاهرا وباطنا ، حتى يكون لها هذا الثِّقل وهذا الوزن ، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو -رضي الله عنهما- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ "، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ).(4)
قال ابن تيمية : وليس كلُّ مَن تكلَّم بالشهادتين كان بهذه المنزلة لأن هذا العبد - صاحب البطاقة - كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عَظُمَ قدرُه حتى صار راجحا على هذه السيئات ؛ ومن أجل ذلك صار المُدُّ مِن الصحابة -رضي الله عنهم- أفضلَ مِن مثل جبل أُحدٍ ذهبا مِن غيرهم.(5)
قال ابن القيم : الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، وتأمل حديث البطاقة ..... ومعلوم أن كلَّ مُوَحِدٍ له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكنَّ السرَّ الذي ثقَّل بطاقة ذلك الرجل، هذا الإكسير الكيماوي (المادة الفعالة)، الذي إذا وُضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قَلَبَها ذهبا.(6)
وإذا أردت أن تعرف أثر هذه المادة الفعالة في الأعمال فتأمل حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ).(7)
وتأمل ما قاله أبو بكر بن عياش : ما سبقهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
قال ابن تيمية : والذي وقَرَ في قلب أبي بكر هو اليقين والإيمان ؛ وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول، مؤمنين به مجاهدين معه، إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم.(8)
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول.(9)
- قوة كلمة التوحيد
وبيان ذلك في قوله : (لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ كَانَتْ حَلْقَةً مُبْهَمَةً، قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ).(10)
تأمل قوة هذه الكلمة فلو فرضنا أن السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهن كنَّ حلْقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله ، لكن تحتاج إلى إخلاص وصدق ويقين في قولها ، وانظر إلى القوة الحسية لكلمة التوحيد إذا قالها الموقن المخلص فيها ولها ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟) قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي (إِسْحَاقَ)(11)، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا الَّذِي فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ، إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ).(12)
فتأمل واستشعر مدى قوة هذه الكلمة التي دُكت بها الحصون المنيعة ، من غير ضربٍ بسيف ولا رَمْيٍّ برمح ولا قذفٍ بمدفع ، فهي – والله – أقوى مما ذُكر بكثير ؛ لكن لو خرجت من قلب موقن بها.
- وقال الله تعالى عن نبيه يونس عليه لما كان في ظلمات بطن الحوت وظلمات البحر وظلمات الليل : {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88].
فانظر كيف اخترقت هذه الكلمة كل هذه الحجب والموانع وصعدت لتشفع لقائلها عند الله فيأتيه الفرج سريعا ، لذلك أمرنا بها نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتدت الأمور وادلهمت الخطوب ، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلَاءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا رَبَّهُ فَفَرَّجَ عَنْهُ؟) قَالَ: فَقَالُوا: بَلَى، قَالَ: (دُعَاءُ ذِي النُّونِ، قَالَ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}).(13)
الوصية الثانية : الوصية بسبحان الله وبحمده
قال (أُوصِيكَ بِسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ) وأصل التسبيح : التنزيه والتقديس والتبرية من النقائص ، سبحتُه تسبيحا وسبحانا ، ومعنى سبحان الله : تنزيهه عن كل ما لا يليق بجنابه العلي ، وهو مصدر لفعل مُقَدَّر : أي أبريء الله من كل سوء براءة. والواو في (وبحمده) تحتمل أن تكون:
1- للحال ، والتقدير: أسبح الله تعالى تسبيحاً وأنا متلبسٌ بحمده.
2- ويحتمل أن تكون للعطف، والتقدير: أسبح الله تعالى تسبيحاً وأتلبسُ بحمده.
3- ويحتمل أن تكون زائدة والتقدير: أسبح الله تعالى تسبيحاً مقروناً بحمده.(14)
لماذا قرن التسبيح بالتحميد ؟
قال ابن تيمية : لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يحمد عليها.(15)
والمعنى : أي أنزّه الله عن جميع النقائص مع إثباتي له جميع الكمالات.
لماذا كانت الوصية بــــ (سبحان الله وبحمده) ؟
ذكر نوح عليه السلام لولده سببين لذلك فقال (فَإِنَّهَا صَلاَةُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ)
- السبب الأول : سبحان الله وبحمده صلاة كل شيء
فكل شيء في هذا الكون الفسيح يصلي ويسجد لله ويسبح بحمد الله على الهيئة التي يعلمها الله.
قال ابن تيمية -رحمه الله- : عند كلامه على قول الله تعالى { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] ومعلومٌ أنَّ سجودَ كلِّ شيء بحسَبِه ليس سجود هذه المخلوقات وضع جباهها على الأرض ... فالسجود اسم جنس، وهو كمال الخضوع لله.(16)
والصلاة إنما سميت تسبيحا لاشتمالها على التسبيح ... فالمصلي إذا حمد ربه في القيام أو في القيام والقعود وسبح في الركوع والسجود؛ فقد جمع التسبيح والحمد فسبح بحمد ربه فالصلاة تسبيح بحمد ربه.(17)
وقال تعالى :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]
قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه يسبحه من في السموات والأرض، أي: من الملائكة والأناسي، والجان والحيوان، حتى الجماد، كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]
وقوله: {والطير صافات} أي: في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه، وهو يعلمُ ما هي فاعلة؛ ولهذا قال: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} أي: كلٌ قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، عز وجل.(18)
- السبب الثاني : أن سبحان الله وبحمده من أعظم أسباب الرزق
لأن الرزق بيد الله تعالى وحده ، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وسبحان الله وبحمده من أعظم الطاعات وأجل القربات ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : (إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلاَ يَحْمِلْكُمَ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ فَإِنَّهُ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَ الله إِلاَّ بِطَاعَتِهِ).(19)
وهذا الحديث غصة في حلوق الذين يستعجلون الرزق بمعصية الله وما ذلك إلا بسبب جهلهم وسوء ظنهم بربهم الذي تكفل برزق كل المخلوقات صغيرها وكبيرها قال تعالى :{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]
وقال تعالى :{ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } العنكبوت: 60] فالرزق بيد الله تعالى ولا ينال إلا بطاعته ، بل إن العبد ليحرم الرزق بسبب ذنوبه
- وتأمل حال الطير التي لا تحمل رزقها ولا تخزن شيئا في أعشاشها ، لا تخرج لطلب الرزق في الصباح إلا بعدما تبدأ يومها بذكر الله والتسبيح لذلك لا ترجع إلا ممتلئة البطون ، عن عُمرَ بْن الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: أنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا).(20)
قال ابن رجب : هذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] ولو أن الناس حققوا التوكل على الله بقلوبهم، لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير.(21)
وذكر ابن القيم ضمن فوائد الذكر أنه يجلب الرزق.(22)
ولا تنحصر فضائل (سبحان الله وبحمده) فيما ذُكر وإليك بعض ما ورد من الأحاديث في بيان فضلها :
- بعض فضائل سبحان الله وبحمده
- أحب الكلام إلى الله ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ، فَقَالَ: (إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ: مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ).(23)
- أحب إلى الله من إنفاق الذهب والفضة ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ هَالَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُنْفَقَانِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).(24)
- سبب لمغفرة الذنوب ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ).(25)
- سبب لمحبة الرحمن وتثقيل الميزان ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ).(26)
- أهلها أهل السبق وعلو الدرجات ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : (مَنْ قَالَ: حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ).(27)
- قاعدة : قوة تأثير (سبحان الله وبحمده) وكثرة ثوابها متوقفة على مواطأة القلب للسان حال الذكر ؛ قال ابن القيم : كلُّ قولٍ رَتَبَ الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام ... وليس هذا مرتبا على مجرد قول اللسان.(28)
وقال -رحمه الله- أيضا : وأفضل الذّكر وأنفعُه ما وَاطَأَ فِيهِ القلبُ اللِّسَانَ وكان مِن الأَذكار النَّبويّة وشهد الذاكرُ مَعَانِيه ومقاصدَه.(29) وهذه من القواعد المفيدة جدا لكي تحصل لنا ثمرات الذكر.
---
(1) رواه أحمد (2/ 170) والبخاري في الأدب المفرد (548) والطبراني (13655) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 259)
(2) زاد المعاد (1/ 36)
(3) تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 274)
(4) رواه أحمد (2/ 213) والترمذي (2639) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 262)
(5) مختصر الفتاوى المصرية (ص: 261)
(6) مدارج السالكين (1/ 340)
(7) رواه أحمد (2/ 379) والنسائي (5/ 59) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 528)
(8) مجموع الفتاوى (2/ 385) ومنهاج السنة النبوية (6/ 223)
(9) مدارج السالكين (3/ 138)
(10) معنى حلقة مبهمة: مغلقة إغلاقا محكما غير معلومة المدخل والطرف؛ ومعنى: قَصَمَتْهُنَّ: قال ابن الأثير:القَصْم: كَسْر الشَّيْءِ وإبانَته، حتى يَنْفَصِلَ بَعضُه مِنْ بَعضٍ. النهاية في غريب الحديث (4/ 74)
(11) قال القاضي عياض: كذا هو في جميع أصول صحيح مسلم من بني إسحاق قال: وقال بعضهم المعروف المحفوظ (من بني إسماعيل) وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه لأنه إنما أراد العرب وهذه المدينة هي القسطنطينية. شرح النووي على مسلم (18/ 43)
(12) رواه مسلم (2920)
(13) رواه أحمد (1/ 170) وابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة (ص: 48) واللفظ له، والحاكم (1/ 685) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 325)
(14) راجع عون المعبود (1/ 231) وحاشية السندي على سنن ابن ماجه (2/ 423)
(15) قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات (ص: 31)
(16) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 354)
(17) قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات (ص: 55 - 56) باختصار
(18) تفسير ابن كثير ت سلامة (6/ 72)
(19) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 27) وله شاهد من حديث ابن مسعود وجابر وحذيفة وغيرهم ~، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: أقل أحواله أن يكون حسنا (6/ 866)
(20) رواه أحمد (1/ 30) والترمذي (2344) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/ 620)
(21) جامع العلوم والحكم (2/ 496 - 502) باختصار
(22) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 41)
(23) رواه مسلم (2731)
(24) رواه الطبراني (7795) وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (ص: 57) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 228)
(25) رواه البخاري (6405) ومسلم (2691)
(26) رواه البخاري (6406) ومسلم (2694)
(27) رواه مسلم (2692)
(28) مدارج السالكين (1/ 340)
(29) الفوائد لابن القيم (ص: 192)