الصيـامُ أسـرارٌ وآثـارٌ
إن في شهر رمضان عطاءات ربانية وافرة ودروسًا عظيمة توجب لمن استقام فيه على طريق الله وعمل الصالحات ولم يضيع أوقاته فيه، السير الصحيح على الصراط المستقيم، والعزم على المجاهدة الحقة للشيطان الرجيم، فيخرج مَن كان حاله في هذا الشهر منه نقيًا تقيًا معه زاد يكفيه أن يتزود به طوال عامه، فيكون بذلك قد حقق المقصد الأرشد من الصيام الذي أخبر به ربنا تبارك وتعالى والذي من أجله فرض الله عز وجل على عباده فريضة الصيام، فقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
فالصيام من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردًا فردًا إذ منها يتكون المجتمع(1).
وفي قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }، بيان للحكمة التي من أجلها شرع الله الصيام وكتبه على عباده، فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه. فالصوم وصلةٌ إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات(2).
وإن تشريعات الإسلام التي شرعها الله جل وعلا إلى عباده تتضمن أسرارًا لا تتناهى، ومقاصد عالية لا تُجارى، وما برح الناسُ في كل عصر يرون من فوائد التشريع ما يتفق مع تفكيرهم، ومصالحهم.
وهذا دليل على أن وراء هذا التشريع ربًّا حكيمًا، أحسن كل شيء خَلْقَهُ ثم هدى(3).
الصوم وسرُ الانقطاع عن المباحات والملذات:
في الصوم يمتنع المرء عن الطعام والشراب والملذات وكل ما أحل الله له أكثر من نصف اليوم وما ذلك إلا لحِكَم عُظمى منها:
1-تقديم رضا الله على رضا النفس:
فالصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيا بتركها ثوابه، ولذلك أضاف الله عز وجل الصوم لنفسه من بين سائر الأعمال وكفى بذلك شرفًا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي والصوم جنة"(4).
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله عز وجل وهو يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصوم بأن يكون هو الذي يتولى جزاءه؛ لأن الصوم ليس يظهر من ابن آدم بلسان، ولا فعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن حركة المطعم والمشرب، يقول: فأنا أتولى جزاءه على ما أحب من التضعيف، وليس على كتاب كتب له، وكذلك أيضًا: أن الأعمال كلها لا يكون إلا بالحركات، إلا الصوم خاصة، فإنما هي بالنية التي قد خفيت على الناس، فإذا نواها فكيف يكون ههنا رياء؟ هذا عندي وجه الحديث والله أعلم(5).
وقوله "الصوم لي": سائر العبادات لله تعالى ووجه التخصيص به هو أنه لم يعبد أحد غير الله به إذ لم تعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام بخلاف السجود والصدقة ونحوهما(6).
ولذا قال الإمام أحمد: " ليس في الصوم رياء "(7).
2-تعويد النفس على الصبر:
فالصبر كما قال الحسن: "كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده"(8).
وقال أبو على الدقاق: "فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}"(9).
وما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وقد وعد الله الصابرين بأنه معهم، وجمع للصابرين أمورًا لم يجمعها لغيرهم فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(10).
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]
فلا حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه معين على كل الأمور(11).
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر "(12).
فثواب الصَّبْر لَيْسَ لَهُ حِسَاب يعلم من كثرته، وفي تفسير قَول اللَّه تبَارك و تَعَالَى {السَّائِحُوْنَ} قيل هم: الصائمون: والصَّائِم بِمَنْزِلَة السائح لَيْسَ يتلذذ بِشَيْء(13).
3- يورث الانكسار والإنابة والخوف من الله:
ففي الصيام تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وترويض النفس وتعويدها على استشعار لذة الانكسار والإنابة بين يدي الله عز وجل، والافتقار إليه فلا يليق بالعبد المؤمن إلا الفقر، والفقر وصف ذاتي في كل إنسان لازم له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]
قال البيضاوي: "ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول"(14).
وهكذا يكون حال المؤمنين، قال الحسن البصري: " المؤمنون قوم ذُلُلٌ، ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، والله ما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحاء القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والله ما أحزنهم حزن الناس، ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة، أبكاهم الخوف من النار، وإنه من لم يتعز بعزاء الله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم، أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه "(15).
4-تذكير بالنعم:
وفي الصوم إحساس بمقدار نعمة الطعام والشراب والاستمتاع عندما يحرم منها ونفسه تائقة إليها، فيكون شكره عليها بالإطعام المتمثل في كثرة الصدقات في فترة الصيام.
وإذا استشعر الغني وذاق مرارة وألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، ومن هنا كانت السمة البارزة للصيام هي المواساة والصدقات وعمل البر، وكانت شعيرة يوم العيد هي زكاة الفطر للتوسعة على الفقراء، وهي بمثابة امتحان للصائم بعد الدروس الطويلة التي تلقاها في شهر رمضان(16).
أسرار الأسحار
رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في السحور وأمر به لما فيه من الفوائد التي تعود على المرء من أكله، من ذلك التقَوِّي بها على صيام النهار ومثل ذلك كثير، وفي الحديث عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " إِنَّ السَّحُورَ بَرَكَةٌ أَعْطَاكُمُوهَا اللهُ فَلَا تَدَعُوهَا "(17).
وفي الحديث في كتاب الله عن الصيام ذكر ربنا تبارك وتعالى آية الدعاء ورغب عباده في دعائه ورجائه، فقال جل شأنه بعدما تحدث عن فرض الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
فذكر ربنا تبارك وتعالى في وسط سياق الآيات التي تتحدث عن الصوم، لفتة عجيبة إلى أهمية الدعاء وفضله، والإرشاد إلى الاجتهاد فيه، وإن الليل موطن تَنَزلُ الرحمات، ونزول رب الأرض والسماوات، فعلى المؤمن اغتنامه بالطاعات، والإكثار من القربات، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى
السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهِ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ "(18).
وعَنْ جَابِرٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ(19).
وفي الحديث تنبيه على أن آخر الليل للصلاة والدعاء والاستغفار وغيرها من الطاعات أفضل من أوله(20).
سر الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس
شرع الله لعباده الصيام وحدده بحدود واضحة فجعل للشهر بداية ونهاية ومعروفة لجميع الناس، وكذلك اليوم جعل الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وما ذلك إلا للتيسير على العباد وفي ذلك من الأسرار الكثير والكثير، ومن جملة ذلك:
-تعليمًا وتعويدًا لأتباع دين الإسلام على تنظيم أوقاتهم، فترى الناس على اختلاف طبقاتهم وعلى اختلاف ألوانهم وأحسابهم وأنسابهم كلهم ينتظرون ساعة الفطر، لا يمكن لأحد أن يسبق ذلك ولو للحظة واحدة أو يتقدمها، فالكل منهم ينتظر نداء التوحيد الله أكبر، وفي ذلك رد على الذين يتبجحون ويزعمون ويدعون أن أهل الدنيا من الغرب وغيرهم على نظام ويطبقونه، وعندنا بفضل الله من أنظمة العبادة وترتيبها وجمالها وجلالها ما تعجز البشرية جمعاء عنها(21).
-وحدة صفوف الأمة الإسلامية فربها واحدٌ، ونبيها واحدٌ، والكل يصوم في شهر وتوقيت واحد وهذا من كمال دين الله عز وجل، وانظر إلى الفُرقة والشتات التي يتعاطاها من على غير دين الإسلام، وصدق الله إذ يقول: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]
أسرار الاعتكاف
والاعتكاف سنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو لزومُ مسجدٍ على وجهِ القربةِ من شخص مخصوص بصفة مخصوصة.
فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق و كلما قويت المعرفة بالله و المحبة له و الأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش و هو يقول: أنا جليس من ذكرني(22).
وقد بين ابن القيم السر والحكمة من مشروعية الاعتكاف ومقصوده فقال: "شرع الله لعباده الاعتكاف الذى مقصودُه وروحُه عُكوفُ القلب على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبالُ عليه فى محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كُلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكُر فى تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة فى القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم، شُرِع الاعتكاف فى أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان"(23).
ولكي يكون الاعتكاف كاملًا مقبولًا بإذن الله لابد من مراعاة بعض الأمور:
-استحضار النية الصالحة.
-استشعارُ الحكمة والمقصود من الاعتكاف.
-المحافظةُ على الأعمال الصالحة والإكثار منها ليلًا ونهارًا من سنن وأذكار مطلقة ومقيَّدة
- وبالجملة فليحرص المعتكف على تطبيق السنَّة، والحرص على كل قربة، والبعد عن كل ما يفسد اعتكافه، أو ينقص ثوابه، حتى يحصل الفائدة والمقصد من الاعتكاف(24).
سر إخفاء ليلة القدر
إنما سميت ليلة القدر بذلك الاسم لعظيم شرفها وفضلها، وعميم خيرها، وكيف لا؟! وقد شهدت هذه الليلة نزول أعظم الكتب، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]
لكنّ حكمة الله اقتضت أن يخفى توقيت هذه الليلة عن عباده ليبلوهم أيهم أحسن عملا، قال البغوي: " أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعًا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذرًا من قيامها، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة "(25).
وقال الشيخ ابن عثيمين: وإنما أبهمها الله تعالى لفائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليالي من أجل أن يدركها، والمتكاسل يكسل أن يقوم عشر ليالي من أجل ليلة واحدة.
الفائدة الثانية: كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال، لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب(26).
أسرار في وداع شهر رمضان
وفي ذلك إشعار بأن لكل شيء نهاية وكما أن شهر رمضان قد انتهى فكذا الأعمار تذهب وتنتهي، فالله عز وجل كتب لنفسه البقاء وكتب على غيره الفناء كما قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]
فلابد لكل واحد أن يقف وقفة مع نفسه في آخر الشهر الكريم فيسأل نفسه أكان فيه من المقبولين الفائزين الرابحين أم كان فيه من المبطلين الخاسرين؟! ، قال الحسن البصري: " إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون"! (27).
لقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من ردِه وهؤلاء الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61](28).
روي عن علي -رضي الله عنه-، قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل(29).
وعن فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ أنه قال: " لَأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27](30).
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم- يعني السلف- يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا(31).
هكذا كان فقهُ السلف وهمُهم وشغلُهم الشاغل وفهمُهم، فكم من مغرور بعمله وليس له فيه من الأجر شيء، وكم من مغتر ومعجب بصيامه وقيامه وليس له من ذلك حسنة.
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن من علامات قبول الطاعة أن توفق لغيرها من الطاعات، والطاعة نعمة لا بد أن توصل بالشكر، فلولا هداية الله عز وجل وتوفيقه ما تيسرت العبادة والطاعة لأحد من الناس ولذا قال الله عز وجل بعد ما ذكر من سعة تيسيره على عباده: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، قال أبو جعفر الطبري: يعني "ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم"(32).
ويقول ابن رجب الحنبلي كلامًا ماتعًا في وداع شهر رمضان: " يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كلما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق"(33).
---
(1) التحرير والتنوير لابن عاشور(2/ 154).
(2) وانظر تفسير البغوي (1/ 196)، تفسير السعدي (ص: 86).
(3) دروس رمضان الشيخ محمد إبراهيم الحمد (ص: 93) بتصرف.
(4) أخرجه البخاري(7492)، ومسلم(2763).
(5) انظر غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 325)، وشعب الإيمان للبيهقي(3310).
(6) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري لشمس الدين الكرماني(25/ 186)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني(36/ 171).
(7) وانظر الجامع لعلوم الإمام أحمد - الفقه (7/ 462)، وشرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصيام (2/ 600).
(8) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم(ص: 95).
(9) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم(ص: 47).
(10) وانظر كتاب "شهر رمضان شهر الهدى والفرقان " لعلي الشحود(ص: 21).
(11) تفسير السعدي (ص: 720).
(12) أخرجه البخاري(1469).
(13) غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 326) بتصرف.
(14) فتح الباري لابن حجر (4/ 117).
(15) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (397).
(16) تفسير السعدي (ص: 86)، وكتاب "شهر رمضان شهر الهدى والفرقان" لعلى نايف الشحود(ص: 1) بتصرف.
(17) أخرجه أحمد في مسنده(23142)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (2516).
(18) أخرجه النسائي في الكبرى(10248)، صحيح الجامع الصغير (3243).
(19) أخرجه مسلم (166).
(20) شرح النووي على مسلم (6/ 37).
(21) دروس عمدة الفقه لمحمد المختار الشنقيطي (3/ 288) بتصرف.
(22) لطائف المعارف فيما المواسم العام من الوظائف لابن رجب (ص: 207).
(23) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم(2/ 87).
(24) دروس رمضان الشيخ محمد إبراهيم الحمد(ص: 172) بتصرف.
(25) تفسير البغوي (8/ 490)، ومفاتيح الغيب للفخر الرازي(32/ 28) بتصرف.
(26) "قبسات من هدي النبي في رمضان" لناصر آل متعب(ص: 51).
(27) لطائف المعارف فيما المواسم العام من الوظائف لابن رجب(ص: 232).
(28) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 209).
(29) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم(1/ 75).
(30) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (2/ 19).
(31) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 209).
(32) تفسير الطبري(3/ 479).
(33) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 217).