جذور المشكلة ومنهج الإصلاح
الحمد لله ذي الطول والآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وأصحابه الأتقياء الأنقياء. أما بعد
فإن أمة الإسلام قد ولُدِت فتيَّةً كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا. (1)
وإذا كان السلف الصالح قد عاشوا زمن العافية فإن الأمة قد ضعفت عافيتها، وصرنا إلى زمن نُنكر فيه أكثرَ مما نعرف، منكرات في المعتقدات منكرات في السلوكيات منكرات في الأفكار والغايات بل منكرات في سبل الإصلاح وفي النظر إلى زمن العافية الأولى.
ورغم تنوع مشاريع الإصلاح عبر قرون متطاولة فإنها لم تفلح في تغيير واقع الأمة واستعادة زمن العافية والعزة، والسبب في ذلك جليٌّ كالشمس في رابعة النهار؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقال: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]
ومن هنا فإن أيَّ خطة للإصلاح لابد أن تقوم على الأساس الذي قامت عليه عافية الأمة الأولى فقد أرسل الله نبيه الخاتم في أمة لا تحمل من مقومات السيادة شيئًا وما امتلكت من أسباب الحضارة ناقةً ولا جملًا، بل كان حالها كما قال عمر بن الخطاب: إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ. (2)، أمة قد مزقتها الحروب والعداوات فألف الله بين هذا الشتات وجمع أولئك الفرقاء المتشاكسين {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]
ثم أعز الله أمة الإسلام وفتح الله لها البلاد وقلوب العباد حتى سادت الأمم من حولها، ثم بعد ذلك فُتِح بل كُسِر (3) باب الفتن على الأمة واقتتل المسلمون وظهرت الأهواء والفرق، ومن ثَمَّ ظهرت محاولات الإصلاح ولكن كما قال ابن مسعود: وكم من مريد للخير لن يصيبه. (4)
لقد كان من أوائل محاولات الإصلاح الفاسدة ما فعله أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي حين خرجوا على الخليفة الراشد الثالث ذي النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ذلكم الرجل الذي تستحي منه الملائكة، ولكن ما استحى منه أهل الجهل وأصحاب الهوى.
ثم خرج الخوارج بعد ذلك على الأمة بدعوى الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاستحلوا الدم الحرام وكان من جرائمهم قتل الخليفة الراشد الرابع ابن عم رسول الله علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه زوج سيدة نساء أهل الجنة فاطمة وأبو الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ويا ليتهم ندموا بعد قتله أو تابوا بل قام شاعرهم (5) - قبحه الله- ليمدح أشقاهم عبدَ الرحمن بن ملجم قاتل علي -رضي الله عنه- فيقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكــــــــره حيــــنا فأحســـــبه ... أوفى البرية عنــــــــــــــــــد اللـــه ميـــــــــــزانا (6)
فانظر كيف بلغ الشيطان منهم أن جعلهم يعتقدون أن صلاح الأمة في قتل علي -رضي الله عنه-؟!
ثم إن فريقا من المسلمين ظن أن الإصلاح إنما هو في الفلسفات المستوردة والعلوم العقلية المجردة؛ فترجموا كتب اليونان والهنود والفرس ودرسوها وصنَّفوا فيها، حتى اختلطت مسائل الفلسفة والكلام بعلم العقيدة فماذا كانت النتيجة؟! لقد أدخلوا في عقائد المسلمين من الألفاظ والمسائل والمعاني ما ليس منها، فاضطر أهل العلم للرد عليهم حتى ظن البعض صعوبة علم التوحيد لما أقحم فيها من هذه المسائل.
وهذه شهادة من سلك هذا الطريق وخاض في الفلسفة والكلام حتى النخاع.
قال الرازي:
نهـــــــــايـة إقــــــــــدام العقـــــــــول عقــــــــــــــــــال ... وغاية سـعـــــــــي العالمــــــــــــين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصـــــــــل دنيــــانــــــا أذى ووبــــــــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالــــوا (7)
نقل ابن الجوزي عن الوليد بْن أبان الكرابيسي، أنه لما حضرته الوفاة قَالَ لبنيه :تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا :لا ،قَالَ: فتتهمونني؟ قالوا :لا، قَالَ: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا :نعم ،قَالَ :عليكم بما عَلَيْهِ أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم
وكان أَبُو المعالي الجويني يَقُول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت فِي الذي نهوا عنه كل ذلك فِي طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عَن الكل إِلَى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فَإِن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت عَلَى دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني.
وقال أَبُو الوفاء ابن عقيل لبعض أصحابه أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض فَإِن رضيت أن تكون مثلهم فكن وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بَكْر وعمر فبئس مَا رأيت، قَالَ وَقَدْ أفضى الكلام بأهله إِلَى الشكوك وكثير منهم إِلَى الإلحاد تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين (8)
ثم تطاولت الأزمان وتقدم الغرب على المسلمين في مجال الحضارة المادية فطلب المسلمون الإصلاح في بعث شبابهم إلى بلاد الغرب لينقلوا إلينا علومهم لينهض المسلمون من كبوتهم ويستيقظوا من ثباتهم، ولكن الحقيقة أن الكثير ممن ذهب إلى الغرب لم يأتِ بعلوم الغرب النافعة لإصلاح واقع المسلمين بل أتوا بأفكارهم الهدامة من علمانية أو ليبرالية وغير ذلك ليوفر هؤلاء المبتعثون على أعداء الإسلام الجهد والطاقة في حرب الإسلام من داخله وعلى أيدي أبنائه.
وإذا كانت هذه هي جذور المشكلة فكيف يكون الإصلاح؟
إن نية الإصلاح وحدها لا تكفي لتحقيقه بل لابد أن يسلك المصلح المسلك الشرعي في إصلاحه؛ وقمة النماذج في ذلك أنبياء الله ورسله حيث كان الإصلاح مقصود دعوتهم؛ وقد جاء منهج الرسل في الإصلاح ملخصًا في قصة شعيب عليه السلام؛ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
الأساس الأول: وضوح المنهج بأن يكون منهج الإصلاح والقائم به على بيِّنة من الله وأن يكون المنهج قائم على الأصول الصافية من العقيدة الصحيحة والأحكام الثابتة.
وإذا كان القائم بالإصلاح على بينة من الله فلا يضره من خالفه، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]
الأساس الثاني: موافقة الشرع قولا وفعلا
قال ابن كثير: يقول لهم أرأيتم يا قوم: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة فيما أدعو إليه، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} قيل: أراد النبوة. وقيل: أراد الرزق الحلال، ويحتمل الأمرين. (9)
فمنهج الأنبياء قائم على الاتباع وليس على الهوى والابتداع ، من أجل ذلك فينبغي للقائم بالإصلاح أن يكون قدوة بفعله قبل قوله؛ وهذا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}؛ قال الثوري أي: لا أنهاكم عن شيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، كما قال قتادة في قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركبه. (10)
الأساس الثالث: تجريد النية والتوكل على الله
إن تجريد النية ركن من أركان الإصلاح ومن ثم فإن القائمين بالإصلاح يصبرون على ما يلقون من أذى لابد منه :{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]
وتجريد النية يستلزم الإذعان للحق والرجوع إليه وقبوله ممن قاله كائنا من كان.
الأساس الرابع: اعتقاد أن التوفيق للإصلاح بيد الله وحده
إن القيام بالإصلاح مهمة شاقة ولا ينبغي لمن تصدى لها أن يركن إلى قدراته وطاقاته فقط بل لابد أن يعلم أن الهداية والتوفيق بيد الله وحده، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
وأخيرًا يبقى هذا الوعد الرباني قائمًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]
والحمد لله أولًا وآخرًا.
---
(1) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (1844)
(2) صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك (207)، وصححه الألباني في الصحيحة (1/ 118)
(3) انظر قول عمر لحذيفة عن باب الفتن: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر ، أخرجه البخاري (525).
(4) أخرجه الدارمي (204)، وصحح إسناده الألباني في الصحيحة (5/ 12).
(5) هو عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي البصري، [ت: 81هـ] كان أولا من أهل السنة والجماعة، فتزوج امرأة من الخوارج حسنة جميلة جدا فأحبها، وكان هو دميم الشكل، فأراد أن يردها إلى السنة فأبت، فارتد معها إلى مذهبها. تاريخ الإسلام للذهبي (2/ 981) ،البداية والنهاية (12/ 352).
(6) تاريخ الإسلام (2/ 374)
(7) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 244)
(8) تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 77)
(9) تفسير ابن كثير (4/ 344)
(10) تفسير ابن كثير (4/ 344)