ملف العدد
[وسطية أهل السنة]
إن الله تبارك وتعالى قد خلق عباده حنفاء موحدين فلم يزل الشيطان بهم حتى أشركوا مع الله غيره، وتفرقوا واختلفوا حتى كان حالهم قبيل بعثة النبي كما في حديث عِيَاض بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: " أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. . (1)
فلما أرا الله الهداية للناس أرسل نبيه الخاتم على رأس الأمة الخاتمة التي جعل من خصائصها أنها أمة وسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]
ثم قدر الله عز وجل أن يقع التفرق والاختلاف في هذه الأمة، ورغم أن التفرق والاختلاف واقع في المسلمين كونًا فإنه ليس مقصدًا شرعيًا؛ فإن الشارع الحكيم قد أمر بخلافه من الوحدة والاتحاد، ولكن ليس على أي منهج ولا على أية طريقة بل على صحيح الدين وسليم المعتقد.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]
وقال {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32]
وإن الله لما قدر وقوع الخلاف في الأمة فإنه قد هيأ أسباب الحفظ لهذا الدين
1- فحفظ القرآن العظيم من التبديل والتغيير.
2- وحفظ السنة فهيأ لها رجالا ميزوا صحيحها من سقيمها.
3- وحفظ الفهم الصحيح والفئة القائمة عليه وهم أهل السنة وهم الطائفة المنصورة.
عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2)
وقد شاء الله تبارك وتعالى لأهل السنة أن يحملوا لواء هذا الدين وأن يحافظوا على خصيصة هذه الأمة التي هي سبب خيريتها وهي الوسطية؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الفرقة الناجية " أهل السنة " وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل. (3)
وقد كثر الخلط في معنى الوسطية ، وكل طائفة تدعي وسطية تتوافق مع أهوائها ومرادها، فأهل الهوى يريدون وسطية تتناسب مع معتقداتهم ،وأصحاب الفجور يريدون وسطية تبيح فعالهم، وأهل البدع نصبوا أنفسهم على الأمة أنهم أهل الوسطية والاعتدال ووالله إنهم أهل للانحراف، وغيرهم كثير والكل محجوج بمسمى الوسطية الصحيح الذي بينه ربنا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ليس لأحد أن يخرج عن الاصطلاح الصحيح ولا أن يختزل الشرع في قول واصطلاح قبيح .
فمن هم أهل السنة؟ وما هي الوسطية التي يتصفون بها؟
أولا: أهل السنة هم:
1- أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم تلقوا عنه مباشرة أمور الاعتقاد كما تلقوا أمور العبادة، فهم أعرف الخلق بسنة نبيهم وأتبعُ لها ممن جاء بعدهم.
2- التابعون لهم بإحسان، المقتفون آثارهم في كل عصر ومصر، وعلى رأسهم أهل الحديث والأثر، الذين نقلوا إلينا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وميزوا صحيحها من سقيمها، وعملوا بها واعتقدوا ما دلت عليه.
قال ابن حزم: وَأهل السّنة الَّذين نذكرهم أهل الْحق وَمن عداهم فَأهل الْبِدْعَة فَإِنَّهُم الصَّحَابَة -رضي الله عنهم- وكل من سلك نهجهم من خِيَار التَّابِعين رَحْمَة الله عَلَيْهِم ثمَّ أَصْحَاب الحَدِيث وَمن اتبعهم من الْفُقَهَاء جيلاً فجيلاً إِلَى يَوْمنَا هَذَا أَو من اقْتدى بهم من الْعَوام فِي شَرق الأَرْض وغربها رَحْمَة الله عَلَيْهِم. (4)
قال ابن رجب: وَالسُّنَّةُ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ التَّمَسُّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْكَامِلَةُ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ قَدِيمًا لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ إِلَّا عَلَى مَا يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. (5)
وأهل السنة لهم أسماء كثيرة فهم:
1- أهل السنة والجماعة. 2- السلف الصالح. 3- الفرقة الناجية.
4- أهل الحديث والسنة. 5- أهل الأثر. 6- الطائفة المنصورة.
وقد رَمي أعداءُ السنة أهلَ السنة قديمًا وحديثًا بالألقاب الشنيعة والصفات المنفرة كي يصرفوا الناس عن منهجهم وطريقته التي هي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وطريقة السلف الصالح وتابعيهم.
ومن الأسماء التي رمي بها أهل السنة: المشبهة - الحشوية - النابتة أو النوابت- المجسمة. . . . . . إلى آخر ذلك من الأسماء المفتراة؛ فما أبعدهم عن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
ثانيا: المفهوم الصحيح للوسطية
إن المفهوم الصحيح للوسطية يدور حول معاني العدالة والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط والغلو والتقصير
وسطية أهل السنة
أولا أهل السنة في مسائل في عقيدهم
إن الخلاف بين أهل السنة وغيرهم إنما هو في الأساس خلاف عقدي لأن العقيدة هي أساس الدين ولبُّه؛ قال ابن رجب: وكثير من العلماء المتأخرين يَخصُّ السنة بما يتعلَّق بالاعتقاد؛ لأنَّها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم. (6)
وقد سلك أهل السنة والجماعة في عقيدتهم المسلك الوسط الذي هو عقيدة النبي صلى الله وأصحابه ومن سار على نهجهم من السلف الصالح قبل ظهور البدع الكلامية وتسرب الفلسفات إلى علم العقيدة، فكان من دلائل وسطيتهم في
1- باب التوحيد: أنهم يؤمنون أن الإيمان بالله: هو الإقرار بربوبيته وإلاهيته يعني الإقرار بأنواع التوحيد الثلاثة واعتقادها والعمل بها وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات فتوحيد الربوبية معناه توحيد الله بأفعاله من الخلق والرزق والإحياء والإماتة وأنه رب كل شيء ومليكه، وتوحيد الألوهية معناه إفراده بأفعال العباد التي يتقربون بها إليه إذا كان مما شرعه الله، كالدعاء والخوف والرجاء والمحبة والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والصلاة والصوم والحج والإنفاق في سبيل الله وكل ما شرعه الله وأمر به لا يشركون مع الله غيره فيه لا ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا غيرهم. وتوحيد الأسماء والصفات معناه: إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات وتنزيه الله عما نزه عنه نفسه أن نزهه عنه رسوله من العيوب والنقائص من غير تمثيل ولا تشبيه ومن غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى/11]. وكما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف/180].
ومن أصول أهل السنَّة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فليس الإيمان قولاً وعملاً دون اعتقاده، لأن هذا إيمان المنافقين، وليس هو مجرد المعرفة بدون قول وعمل لأن هذا إيمان الكافرين الجاحدين. قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل/14].
2- وسطية أهل السنة في حكم مرتكب الكبيرة بين الخوارج والمرجئة
مذهب أهل السنَّة في حكم مرتكب الكبيرة وسط بين الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة وبين المرجئة الذين يقولون هو مؤمن كامل الإيمان ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
ويعتقد أهل السنة أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، فهو في الدنيا مؤمن ناقص الإيمان، وفي الآخرة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ويعتقدون أن أهل الكبائر من الأمة لا يخلدون في النار -إذا ماتوا موحدين- وإن لم يكونوا تائبين؟ فهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم بفضله وإن شاء عذبهم بعدله.
3- أهل السنة لا يكفرون مخالفيهم لمجرد أن المخالف يكفرهم
يقول شيخ الإسلام: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى. (7)
فيعتقد أهل السنة أن التكفير من الأحكام الشرعية التي لا تثبت إلا بالكتاب والسنة ولا يصار إليها بمجرد الظن والهوى، فهذا من أعظم القول على الله بلا علم، وقد قال رب العزة: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وقال ابن القيم: وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في إذنه كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم. (8)
ثانيا: وسطية أهل السنة في مصدرية التلقي
يقتصر أهل السنة في تلقي دينهم ومنهجهم على كتاب الله عز وجل وعلى ما صَحَّ من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان خبر آحاد طالما صحت نسبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيعملون به في العقائد والأحكام وفي شتى فروع الدين.
واقتصار أهل السنة في تلقيهم على الوحي كتابا وسنة يقوم على ركائز مهمة:
الركيزة الأولى: اعتقاد كمال المنهج الإسلامي وعدم حاجته للمناهج البشرية، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ قال شيخ الإسلام: وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الدِّينَ كَامِلٌ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ. (9)
الركيزة الثانية: وجوب الطاعة المطلقة والتسليم المطلق لله ورسوله
التسليم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا وباطنًا فلا يعارضون شيئا من الكتاب أو السنة الصحيحة بقياس ولا ذوق ولا كشفٍ مزعوم ولا قول شيخ أو إمام أو غير ذلك.
بل مستندهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
قال شيخ الإسلام: فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي -صلى الله عليه وسلم- وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلاماً يفرقون به بين الأمة. (10) يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون.
الركيزة الثالثة: طريقتهم في العلم هي النقل والعقل تابع للنقل وليس مقدمًا عليه
يؤمن أهل السنة بأن وظيفة العقل فيما ورد به الشرع كتابًا أو سنة، هو فهمه والتسليم له، ولا يثبت قدمٌ على الإسلام إلا بذلك، وقد جاءت نصوص كثيرة توجب اتباعَ الكتاب والسنة، وتحذر من التقديم بين يدي الله ورسوله برأي أو اقتراح يصادم ما ورد فيهما(11)، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] وقال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، وقال جل جلاله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
يقول أبو المظفر السمعاني: وَإِذا ثَبت أَنا أمرنَا بالاتباع والتمسك بأثر النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- وَلُزُوم مَا شرعة لنا من الدّين وَالسّنة وَلَا طَرِيق لنا إِلَى الْوُصُول إِلَى هَذَا إِلَّا بِالنَّقْلِ والْحَدِيث بمتابعة الْأَخْبَار الَّتِي رَوَاهَا الثِّقَات والعدول من هَذِه الْأمة عَن رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- وَعَن الصَّحَابَة وَمن بعده. (12)
الركيزة الرابعة: تقديم فهم الصحابة والسلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة
يعتقد أهل السنة أن المرجع في فهم الكتاب والسنة هو النصوص التي تبينها، وفهم السلف الصالح ومن سار على منهجهم.
قال ابن قدامة (ت: 620هـ) في بيان وجوب اتِّباع الصحابة: الْبَاب الثَّانِي فِي بَيَان وجوب اتباعهم والحث على لُزُوم مَذْهَبهم وسلوك سبيلهم وَبَيَان ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة وأقوال الْأَئِمَّة
وَأما الْكتاب فَقَوْل الله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} [النِّسَاء 115] فتوعد على اتِّبَاع غير سبيلهم بِعَذَاب جَهَنَّم ووعد متبعهم بالرضوان وَالْجنَّة فَقَالَ تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رضي الله عنهم وَرَضوا عَنهُ} [التَّوْبَة 100] فوعد المتبعين لَهُم بِإِحْسَان بِمَا وعدهم بِهِ من رضوانه وجنته والفوز الْعَظِيم. (13)
وقال ابن عبد الهادي ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه، وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده، وإنما ننبه عليه بعض التنبيه. (14)
ثالثا: وسطية أهل السنة في الحكم على الناس
إن منهج أهل السنة والجماعة قائم على الحكم على الناس بالعدل والإنصاف فلا يبخسون أحدًا حقه، وهم ويضعون الأخطاء في حجمها الحقيقي فلا يتساهلون في عظيمها ولا يعظِّمون حقيرها وما كان عن غير قصد وعمد، وهم قد أخذوا هذا المنهج من نصوص الكتاب والسنة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
قال الطبري: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، لِيَكُنْ مِنْ أَخْلَاقِكُمْ وَصِفَاتِكُمُ الْقِيَامُ لِلَّهِ، شُهَدَاءَ بِالْعَدْلِ فِي أَوْلِيَائِكُمْ وَأَعْدَائِكُمْ، وَلَا تَجُورُوا فِي أَحْكَامِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، فَتُجَاوِزُوا مَا حَدَّدْتُ لَكُمْ فِي أَعْدَائِكُمْ لِعَدَاوَتِهِمْ لَكُمْ، وَلَا تَقْصُرُوا فِيمَا حَدَّدْتُ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِي وَحُدُودِي فِي أَوْلِيَائِكُمْ لِوَلَايَتِهِمْ. . (15)
وأخرج البخاري في صحيحه قصة الحديبية ومسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، وفيها: وَسَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ حَلْ فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا خَلَأَتْ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ. . (16)
وقد ذكر الحافظ ابن حجر من فقه هذا الحديث: جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها. (17)
ولما أرسل حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ أناسا مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ َسَلَّمَ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. (18)
فلا يتكلم أهل السنة في أحد إلا بعلم؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميـة: والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع. (19)
رابعا: وسطية أهل السنة في الصحابة وآل البيت والأولياء
1- وسطية أهل السنة في آل البيت
يعتقد أهل السنة وجوب محبة آل بيت رسول الله -ومنهم أزواجه-ويتولونهم ويرقبون فيهم وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي. (20)
وهم في محبتهم لآل بيت رسول الله وسط بين غلو الروافض وجفاء النواصب، ومع محبتهم لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يغالون في محبتهم ولا يعتقدون فيهم العصمة ولا في أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يصرفون لهم أي نوع من العبادة كالدعاء أو الخوف والرجاء أو غير ذلك، ولا يعتقدون فيهم الضر والنفع؛ قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف/188].
2- وسطية أهل السنة في الصحابة
مذهب أهل السنة والجماعة فيهم وسط بين طرفيها الإفراط والتفريط وسط بين المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى ما لا يليق إلا بالله أو برسله وبين المفرِّطين الجافين الذين ينقصونهم ويسبونهم فهم وسط بين الغلاة والجفاة يحبونهم جميعا وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون ولا يقصرون بهم عما يليق بهم فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم وقلوبهم عامرة بحبهم وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد والإصابة وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم ولهم من الله المغفرة والرضوان، وكتب أهل السنة مملوء ببيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق هؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر -صلى الله عليه وسلم- و-رضي الله عنهم- أجمعين. (21)
قال الطحاوي -رحمه الله-: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
وعلق ابن أي العز على هذا الكلام فقال: يشير الشيخ إلى الرد على الروافض والنواصب. (22)
3- وسطية أهل السنة في الأولياء
يعتقد أهل السنة أن الأولياء هم أهل التقوى والإيمان، المستقيمون على الحق، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن والسنة؛ قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]
ويقر أهل السنة بكرامات الأولياء موقفهم من الكرامة وسط بين إنكار الجافين، وتوسع الغالين.
قال الطحاوي -رحمه الله-: ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم.(23)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة. (24)
خاتمة (بشرى لأهل السنة)
لقد بشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببقاء وظهور أهل السنة الذين هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة؛ عن المُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: لاَ يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ. (25)
وإذا نظرنا إلى المحن التي ابتلي بها أهل السنة والابتلاءات التي تعرض لها أهل الحق لرأينا كيف أخرجهم الله منها كالذهب لا تزيده النار إلا نقاء وبريقا، ولعلمنا يقينا صدق هذا المنهج الذي جعل الله من خصائصه أنه منهج ظاهر عليه نور من الله؛ وصدق أبو المظفر السمعاني(26) إذ يقول: إن على الْحق نورا وَلَا يبصر نور الْحق إِلَّا من حشي قلبه بِالنورِ(27) {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]
والحمد لله أولًا وآخرًا
---
(1) أخرجه مسلم (2865)
(2) أخرجه مسلم من حديث جابر (156)
(3) مجموع الفتاوى (3/ 370)
(4) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 90)
(5) جامع العلوم والحكم (2/ 120)
(6) جامع العلوم والحكم (2/120).
(7) الرد على البكري (ص: 260)
(8) الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم (ص: 58)
(9) منهاج السنة النبوية (6/ 411)
(10) درء تعارض العقل والنقل (1/ 272)
(11) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 26)
(12) الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 4).
(13) ذم التأويل لابن قدامة (ص: 28)
(14) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص: 318)
(15) تفسير الطبري (8/ 222)
(16) أخرجه البخاري (2731)
(17) فتح الباري لابن حجر (5/ 335)
(18) جزء من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا، أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494)
(19) (منهاج السنة النبوية 4/337. )
(20) أخرجه مسلم (2408).
(21) انظر: عقيدة أهل السنة في الصحابة لعبد المحسن العباد (ص: 16- 17)
(22) شرح الطحاوية (ص: 467)
(23) شرح العقيدة الطحاوية (ص: 494)
(24) مجموع الفتاوى (3/ 156)
(25) أخرجه البخاري (3640) واللفظ له، ومسلم (1920)
(26) هو: أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى: 489هـ)
(27) الانتصار لأصحاب الحديث للسمعاني (ص: 2)