النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا: التعفف والترفع عن سؤال الناس
عن حَكِيم بْن حِزَامٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ(1)، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ(2)، بُورِكَ لَهُ فِيهِ(3)، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ(4)، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ(5)، وَاليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى(6))، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أَرْزَأُ(7) أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا،
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعْطِيَهُ العَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، فَقَالَ عمرُ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ(8)، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ.(9)
الدرس الأول: النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا السخاوة في العطاء وعدم البخل، ولا سيما إذا كان في العطاء تأليف القلوب
لقول حكيم -رضي الله عنه-: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: (مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ).(10)
- وكان -صلى الله عليه وسلم- يعطي عطاء يُدهش العقول، فأعطى مرةً رَجُلًا غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فتأثر الرجلُ بكرمه وسخائه فأتي قَوْمَهُ فَقال لهم: (أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ).(11)
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول لبِلَال بن رباح: (أَنْفِقْ يَا بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا).(12)
الدرس الثاني: النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التعفف والترفع عن سؤال الناس
فقد كان النّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُربّي أصحابه - رضوان الله عليهم - على عزّة النّفس والرّفعة والاستغناء عن النّاس، وعدم طلب الحوائج من أحد، حتى إنّه بايع بعض أصحابه على الاستغناء عن النّاس؛ كما في حديث عَوْف بْن مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟) وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟) فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟) قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا) فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ.(13)
وأوصى بذلك كثيرا من أصحابه، كما في حديث ثَوْبَان -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يَضْمَنُ لِي وَاحِدَةً وَأَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا.يَا رَسُولَ اللهِ.قَالَ: لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا).قَالَ: فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيهِ، حَتَّى يَنْزِلَ فَيَأْخُذَهُ).(14)
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنصاري -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي، وَأَوْجِزْ، قَالَ: (إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ).(15)
وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي وَأَوْجَزْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكَ بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ).(16)
- وبيَّن -صلى الله عليه وسلم- ثواب التعفف وعاقبته ترغيبا للنفوس فيه، فعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: (أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ).(17)
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل ربه العفاف لبيان منزلته، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى).(18)
- وهو وصية جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته من بعده، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزِّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ).(19)
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: يا أُخيَّ، مَن استغنى بالله اكتَفَى، ومَن انقطعَ إلى غيره تَعَنَّى، ومَن كان من قليل الدنيا لا يَشبع، لم يُغنه منها كثرةُ ما يَجمع، فعليك منها بالكفاف، وأَلزمْ نفسَك العفاف، وإياك وجمعَ الفضول، فإن حسابَه يَطُول.(20)
وعن سعيد بن المسيب قال: من استغنى بالله افتقر إليه الناس.(21)
- فالتّعفف عن المسألة والتّرفُّع عن سؤال النّاس مطلبٌ شرعيٌّ يربينا عليه رسولنا -صلى الله عليه وسلم-
إِذَا كَانَ بَابُ الذُّلِّ مِنْ جَانِبِ الْغِنَى...سَمَوْتُ إِلَى الْعَلْيَاءِ مِنْ جَانِبِ الْفَقْرِ(22)
- وعلى قدر ما تحتاج إلى الناس على قدر ما ينقص قدرك عندهم وتقل محبتك في قلوبهم
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ).(23)
يقول الشاعر:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً وسَلِ الذي أبوابُهُ لا تحجبُ
اللهُ يغضبُ إن تركت سؤالَه وبنيُّ آدمَ حين يُسألُ يغضبُ
قال ابن تيمية: أعظمُ ما يكونُ العبدُ قدْرا وحُرمةً عند الخلْقِ: إذا لم يَحتجْ إليهم بوجهٍ مِن الوجوه، فإن أحسنتَ إليهم مع الاستغناءِ عنهم: كنتَ أعظمَ ما يكونُ عندهم، ومتى احتجتَ إليهم - ولو في شَربةِ ماء - نَقصَ قدرُك عندهم بقدرِ حاجتِك إليهم.(24)
لاَ يمْلِكُ العَبْدُ مَنحَكَ نِصْفَ خَرْدَلَةٍ إِلاَّ بِأَمْرِ الَّذِي سَوَّاكَ مِنْ طِينِ
فَارْغَبْ إِلى الله مِمَّا في خَزَائِنِهِ فَإِنَّمَا هُوَ بَينَ الكَافِ وَالنُّونِ
أَمَا تَرَى كُلَّ مَنْ تَرْجُو وَتَسْأَلُهُ مِنَ الخَلاَئقِ مِسْكِينَ ابْنَ مِسْكِينِ
- ولا يدخل في ذلك ما يُهدى أو يأتي إلى المرء من عطايا أو هباتٍ دون أن يسألها أو يطلبها،
عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: (خُذْهُ؛ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ(25) وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ وَمَا لاَ(26) فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ(27)).(28)
- القناعة كنز وفلاح
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ).(29)
وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ).(30)
- اليد العليا خير من اليد السفلى
عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى(31)، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ(32) يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ(33) يُغْنِهِ اللَّهُ).(34)
الدرس الثالث: النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعونا إلى التكسب لنحفظ ماء وجوهنا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ).(35)
عن أَبي أُمَامَةَ الباهلي -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ(36)، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ(37)، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى).(38)
الدرس الرابع: النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذرنا من الإلحاف (39) في المسألة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَيَكْرَهُ الْبُؤْسَ وَالتَّبَاؤُسَ، وَيُبْغِضُ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ وَيُحِبُّ الْحَيِيَّ الْعَفِيفَ الْمُتَعَفِّفَ).(40)
- الترهيب من المسألة تكثرا
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صَاحِبُ المُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ، فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ القِيَامَةِ).(41)
عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ).(42)
- لا يفتح العبد على نفسه باب مسألة إلا فتح عليه باب فقر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لاَ يَفْتَحُ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ، يَأْخُذُ الرَّجُلُ حَبْلَهُ فَيَعْمِدُ إِلَى الْجَبَلِ، فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْكُلُ بِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ مُعْطًى أَوْ مَمْنُوعًا).(43)
وعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً).(44)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ فِي غَيْرِ فَاقَةٍ نَزَلَتْ بِهِ أَوْ عِيَالٍ لَا يُطِيقُهُمْ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِوَجْهٍ لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ).وفي لفظ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ فَتْحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ مِنْ غَيْرِ فَاقَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، أَوْ عِيَالٍ لَا يُطِيقُهُمْ، فَتْحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَاقَةٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).(45)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ).(46)
قال القاضي عياض: معناه أنه يُعاقب بالنار.ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن الذي يأخذه يصير جمرا يُكوى به كما ثبت في مانع الزكاة.(47)
وعَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَأَلَ مِنْ غَيْرِ فَقْرٍ، فَكَأَنَّمَا يَأْكُلُ الْجَمْرَ).(48)
وعن عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَر -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ).(49)
قال القاضي عياض: قيل معناه أنه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله.وقيل: هو على ظاهره فيُحشر ووجهه عظمٌ لا لحمَ عليه، عقوبة له وعلامة له بذنبه حين طلب وسأل بوجهه.(50)
وعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَةً وَهُوَ عَنْهَا غَنِيٌّ كَانَتْ شَيْنًا(51) فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).(52)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ(53)).(54)
وعَنْ سَمُرَةَ بن جندب -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الْمَسَائِلُ كُدُوحٌ يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا).(55)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ
لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ).(56)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللهِ، لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ).(57)
الدرس الأخير: رجالٌ صَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللهَ عليه
حقا والله؛ إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه....هذا حَكِيمٌ -رضي الله عنه- يعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا! وفعلا تُثبِتُ الأيام أن حكيما لم يسأل أحدا شيئا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى في أقل الأشياء فرضي الله عنه وعن سائر الصحابة، عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كَيْفَ أَنْتَ، وَجُوعًا يُصِيبُ النَّاسَ، حَتَّى تَأْتِيَ مَسْجِدَكَ فَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى فِرَاشِكَ، وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِلَى َسْجِدِكَ؟)
قَالَ: قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالْعِفَّةِ).(58)
قال سفيا ابن عيينة: دخل هشام بن عبد الملك الكعبةَ، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سلْنِي حاجتك.قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره؛ فلما خرجا، قال: الآن فسلني حاجتك.فقال له سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا.قال: والله ما سألتُ الدنيا مَن يملكها، فكيف أسألها مَن لا يملكها.(59)
وصدق اللهُ إذ يقول: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ} [البقرة: 273]
--
(1) كالفاكهة الخضرة في المنظر الحلوة في المذاق ولذلك ترغبُه النفوس وتميل إليه وتحرص عليه.
(2) بغير إلحاح في السؤال ولا طمع ولا حرص ولا إكراه أو إحراج للمعطي.
(3) كَثُر ونَما وكان رزقا حلالا يشعر بلذته.
(4) بإلحاح في السؤال وتطلع لما في أيدي غيره وشدة حرصه على تحصيله مع إكراه المعطي وإحراجه.
(5) لا يقنع بما يأتيه وأصبح كمن أصيب بمرض الجوع الكاذب الذي كلما ازداد أكلا ازداد جوعا فكلما جمع من المال شيئا ازداد رغبة في غيره وازداد شحا وبخلا بما في يده وحرصا عليه.
(6) (اليد العليا) التي تعطي وتنفق. (واليد السفلى) التي تأخذ.
(7) لا أُنقص مال أحدٍ بالطلب والمعنى لا آخذ.
(8) ما أُخذ من الكفار مِن غير قتال.
(9) رواه البخاري (1472) ومسلم(1035)
(10) رواه البخاري (1469) ومسلم (1053)
(11) رواه مسلم (2312) من حديث أنس -رضي الله عنه-
(12) رواه البزار (1366) والطبراني (1098) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 316)
(13) رواه مسلم (1043)
(14) رواه أحمد (5/ 279) وابن ماجه (1837) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 497)
(15) رواه ابن ماجه (4171) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 190)
(16) رواه الروياني (1538) والحاكم (4/ 362) وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 504)
(17) رواه مسلم (2865)
(18) رواه مسلم (2721)
(19) رواه الطبراني في الأوسط (4278) والحاكم في المستدرك (4/ 360) وحسنه الألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة (2/ 485)
(20) أدب الدنيا والدين (ص: 218)
(21) صفة الصفوة (1/ 346)
(22) العزلة للخطابي (ص: 29)
(23) رواه ابن ماجه (4102) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 220)
(24) مجموع الفتاوى (1/ 39)
(25) أي غير متطلع إليه ولا طامع فيه
(26) والذي لم يأتك على هذه الصفة
(27) فاتركه ولا تتعلق نفسك به
(28) رواه البخاري (1473) ومسلم (1045)
(29) رواه مسلم (1054)
(30) رواه الترمذي (2349) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 729)
(31) معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيا بما بقي معه
(32) يطلب العفة وهي الكف عن الحرام وعن سؤال الناس.
(33) يطلب الغنى من الله تعالى لا من الناس
(34) رواه البخاري (1427) ومسلم (1034)
(35) رواه مسلم (1042)
(36) معناه إن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه وإن أمسكته فهو شر لك.
(37)يعني ابدأ بالنفقة على من تجب عليك نفقتهم أولا.
(38) رواه مسلم (1036)
(39) الْإِلْحَاف فِي اللُّغَة هُوَ الْإِلْحَاح فِي الْمَسْأَلَة. عون المعبود (5/ 34)
(40) رواه البيهقي في شعب الإيمان (8/ 264) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 310)
(41) رواه البخاري (2842) ومسلم (1052)
(42) رواه البخاري (2408) ومسلم (593)
(43) رواه أحمد (2/ 418) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 96)
(44) رواه مسلم (110)
(45) رواه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 168) وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 487)
(46) رواه مسلم (1041)
(47) شرح النووي على مسلم (7/ 131)
(48) رواه أحمد (4/ 165) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1077)
(49) رواه البخاري (1474) ومسلم (1040)
(50) شرح النووي على مسلم (7/ 130)
(51) الشَّيْن: العَيْب، والنَّقِيصَة، والقُبْح.
(52) رواه أحمد (5/ 281) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 488)
(53) قال الخطابي: الخموش هي الخدوش، يقال: خمشتِ المرأةُ وجهَها إذا خدشتْه بظفر أو حديدة أو نحوها، والكدوح: الآثار من الخدوش والعض ونحوه، والخمش أبلغ في معناه من الخدش، وهو أبلغ من الكدح، إذ الخمش في الوجه، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد.
(54) رواه أبو داود (1626) والترمذي (650) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1077)
(55) رواه أبو داود (1639) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1135)
(56) رواه الترمذي (2326) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 279)
(57) رواه مسلم (1038)
(58) رواه ابن ماجه (3958) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (8/ 458)
(59) سير أعلام النبلاء (4/ 466)