عدد شعبان 1437هـ
- التفاصيل
- كتب بواسطة: فضيلة الشيخ أحمد سليمان
- المجموعة: عدد شعبان 1437هـ
- الزيارات: 8754
بدايتها استحسان وآخرها اقتتال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد -صلّى الله عليه وسلّم- وبعد.
فإن أمر البدعة خطير وخطرها عظيم وشؤمها على الأمة كبير ،فهي حدث في الدين وافتراق بين المسلمين ومخالفة للدين القويم وتشريع لم يأذن به أحكم الحاكمين فلا عجب أن يتفرع منها كل إضلال وشقاق بين المسلمين.
تبدء باستحسان عمل وقد يكون فيه منفعة ظاهرة للدين وقصد القائم به الزلفى من رب العالمين لكنه بعيد عن الشرع المتين، أو أتى بوصف محدث لعمل أصله ثابت في الدين ، ثم يتولد من هذا العمل اعتقاد نفعه والتقرب بذكره ومعاداة من يعاديه وموالاة من يدانيه، ومع مرور الزمان يصير مذهبا وطريقة في الدين حتى تكون جماعة تشق صفوف المسلمين وترفع عليهم السيف وترى التقرب بدماء المؤمنين
وفي العصر الأول من خير قرن مر على البشرية حدثت بدعة تنبَّه لها الصحابة وبينوا زيفها حتى نكون على بينة مما سيحدث في أزمان الخيانة ونقض المواثيق.
قال عمرو بن سلمة : كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد, فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: بعد لا, فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعا فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته- ولم أر والحمد لله إلا خيرا- قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة, في كل حلقة رجل, وفي أيديهم حصا فيقول: كبروا مائة, فيكبرون مائة, فيقول: هللوا مائة, فيهللون مائة, ويقول: سبحوا مائة, فيسبحون مائة, قال: فماذا قلت لهم قال: ما قلت لهم شيئا انتظار رأيك، وانتظار أمرك, قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم؟!، ثم مضى, ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح, قال: فعدوا سيئاتكم, فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء, ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم, هؤلاء صحابة نبيكم -صلّى الله عليه وسلّم- متوافرون, وهذه ثيابه لم تبل, وآنيته لم تكسر, والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير, قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه, إن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
قال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.(1)
البدأ تسبيح وذكر واجتماع على عمل ظنوه خيرا ولم يدققوا أهو مما سنه رسول الله أم لا، فلم يعرضوا عملهم على الميزان القويم ، بل اتبعوا أهواءهم وساروا خلف طاغوت المصالح الموهومة كحال كل المارقين لا يعظمون الدليل بقدر ما يعظمون أقوالهم ولا يحترمون الرسول كاحترامهم أئمتهم وإن نادوا بحبهم للرسول وصلاتهم عليه لكن الرسول قال لهم : ألا سحقا ألا سحقا .....
ثم كانت النهاية يقاتلون الصحابة ومن كان معهم ويطعنون في كل من لم يوافقهم ، بل كان قتالهم لهم شديدا وبغضهم منهم عنيفا حتى استباحوا الدماء وقتلوا النساء والأطفال ولم يسلم منهم إلا من لم يدخل في الإسلام ، هل وقع في خلد أحد أن هؤلاء المسبحين والمصلين ومن وقف بجوارك في صف واحد وصلى معك في المساجد أن يأتي عليه يوم ليكون أعدى أعدائك ؟! لماذا تغير الحال وافترق الصف وطال! إنها البدعة أم الضلال
قد زين لهؤلاء أعمالهم السيئة فظنوها حسنة، بل هي الدين الحق والقائمون به أهل الصدق فإن قتل إمامهم أحدًا فهو محق
ذكر الشاطبي في كتابه الاعتصام جملة وافرة من أفعال المبتدعة فمن ذلك ما ذكره عن الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ:
أَنَّ عبادة بن قرط غزا مرّة فَمَكَثَ فِي غَزَاتِهِ تِلْكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثم رجع حتى إذا كان قريباً من الأهواز سمع صوت أذان، فقال: والله ما لي عهد بالصلاة مع جماعة الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ زَمَانٍ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْأَذَانِ يُرِيدُ الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ وهم صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا له مَا جَاءَ بِكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ يَا إِخْوَتِي؟ قَالُوا: أَنْتَ أَخُو الشيطان لنقتلك، قال: أما تَرْضَوْنَ مِنِّي بِمَا رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- مني، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ مِنْكَ؟ قَالَ: أتيته وأنا كافر فشهدني أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فخلَّى عَنِّي ـ قَالَ : فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ.(2)
إن محنة المسلمين من المبتدعة عظيمة فكم عانى العلماء منهم وتفرقت الأمة بسوء قصدهم وشمت فينا العدو من صنيعهم ، كلما تقدم أهل السنة خطوة في الدعوة لدين الله ردنا هؤلاء ألف خطوة، وكلما نشر الأخيار سنة أقاموا أمامها البدعة
هم عند العامة علينا محسوبون وفي الحقيقة علينا جائرون ولنا محاربون وفي عرضنا واقعون وعلى عداوتنا قائمون .
فاللهم اهد عبادك إلى اتباع هدي نبيك ومجانبة سخطه ومخالفته، آمين
كتبه
أحمد بن سليمان
---
(1) سنن الدارمي (222).
(1) الاعتصام (3/160)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: اللجنة العلمية
- المجموعة: عدد شعبان 1437هـ
- الزيارات: 11705
شعبان الخير
سبب التسمية
حال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- والسلف في شعبان
ليلة النصف من شعبان
مسائل متعلقة بالشهر
مقدمة: إِنَّ مِنْ رحمة الله بعباده أن يَسَّر لهم مواسم الخيرات والطاعات، وجعل لهم في أيامه نفحات ليتعرض لها العباد، ويرجع العاصون المذنبون لحظيرة الطاعة، ويتوبوا إلى الله - عز وجل -، فتشملهم رحمته، ومغفرتُه، وها نحن قد أَظَلَّتنا مواسم المغفرة، ومواسم الطاعات، وها هي الشهور المباركة تُهِلُّ علينا، وكأنها تَصِيح بنا: أَنْ تَجَهَّزوا فَقَد قَرُبَ مجيء الحبيب!!
فقد دخل شهر شعبان، وهو شهر له خصوصيته عند النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وله تعظيمه الذي ينبغي على المؤمنين أن يُعَظِّموه مثلما عَظَّمه النبي -صلّى الله عليه وسلّم-.
- سبب تسميته شعبان؟
شعْبَان من الشّعب، وَهُوَ الِاجْتِمَاع، سمي بِهِ لِأَنَّهُ يتشعب فِيهِ خير كثير كرمضان، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يتشعبون فِيهِ (أي يتفرقون) إما فِي طلب الْمِيَاه وإما لتشعبهم فِي الغارات وإما لقصد الْمُلُوك والتماس الْعَطِيَّة. (1)
- حال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في شعبان:
عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاُ-، قالت: (( كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ)). (2)
وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاُ-، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: ((يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ )). (3) وفي لفظ: (( كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا )). (4)
قال ابن الْمُبَارَكِ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ. (5)
قال ابن حجر -رحمه الله-: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ. (6)
قال ابن رجب -رحمه الله-: وإنما صيام النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور. (7)
قال الصنعاني -رحمه الله-: في الحديث دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَخُصُّ شَعْبَانَ بِالصَّوْمِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. (8)
الحكمة من كثرة صيامه -صلّى الله عليه وسلّم- في شعبان:
عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: (( ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )). (9)
وقد ذكر منها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في حديث أسامة معنيين:
أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان
وذلك لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام (رجب) وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك. (10)
وفي قوله: (( يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان))
إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.
- وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوب لله عز وجل.
ولهذا المعنى كان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: (( مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرَكُمْ )). (11)
- وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.(12)
وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد:
1- أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لاسيما الصيام فإنه سرٌ بين العبد وربه.
2- أنه أشقُّ على النفوس: وأفضل الأعمال أشقها على النفوس وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها ولهذا المعنى قال رَسُول اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ))، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (( بَلْ مِنْكُمْ )). (13) وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ )). (14)
وقال -صلّى الله عليه وسلّم-: (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )). (15) وفي لفظ: (( الْعِبَادَةُ فِي الْفِتْنَةِ كَالْهِجْرَةِ إِلَيَّ )). (16)
وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه.
3- ومنها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم.
قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس. (17)
الأمر الثاني: أنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله
- ورفع الأعمال إلى رب العالمين: على ثلاثة أنواع:
1- فعَمَل الْعَام يُرْفَع فِي شَعْبَان كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِق الْمَصْدُوق -صلّى الله عليه وسلّم-.
2- وَيُعْرَض عَمَل الْأُسْبُوع يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس كَمَا ثَبَتَ عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنه قال (( تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ )). (18)
3- وَعَمَل الْيَوْم يُرْفَع فِي آخِره قَبْل اللَّيْل وَعَمَل اللَّيْل فِي آخِره قَبْل النَّهَار، عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ )). (19)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: (( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ )). (20)
فأعمال العام كلها تُرفع إلى الله في هذا الشهر، فأحبَّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أن تُرفع الأعمال على أحسن أحوالها حال كونه صائما وذلك ادعى لعظم الثواب، وهو ما يسعى إليه المؤمنون تأسيًا واقتداءً بالنبي -صلّى الله عليه وسلّم-.
الأمر الثالث: أنه بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض
قال ابن رجب -رحمه الله-: وأفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه. (21)
الأمر الرابع: أن صيام شعبان كالتمرين على صيام رمضان
لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. (22)
- حال السلف مع القرآن في شهر شعبان
عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان.
وقال سلمة بن كهيل -رحمه الله-: كان يقال شهر شعبان شهر القراء.
وكان حبيب بن أبي ثابت -رحمه الله- إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء.
وكان عمرو بن قيس الملائي -رحمه الله- إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن.
فيا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها.
- فضل ليلة النصف من شعبان
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ )). (23)
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: (( يَطْلُعُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدْعُوهُ )). (24)
ولنا مع هذه الأحاديث عدة وقفات مهمة:
الوقفة الأولى: أن الله يغفر فيها لكل عباده إلا المشرك:
- فينبغي للمسلم أن يحذر من الشرك بجميع أنواعه صغيره وكبيره ظاهره وباطنه، ولا يأمن على نفسه أن يقع فيه وهو لا يدري، فإذا كان أبو الأنبياء وإمام الحنفاء خليل الرحمن يخشى على نفسه الشرك، بل يخشى على نفسه وعلى بنيه عبادة الأصنام، قال الله تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35] وقد بيَّن إبراهيم -عليه السلام- ما يوجب الخوف من ذلك فقال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } [إبراهيم: 36]
قال إبراهيم التيمي -رحمه الله-: مَنْ يَأْمَنُ مِنَ الْبَلَاءِ بَعْدَ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ. (25)
فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، وبما يخلصه منه، قال تعالى لأحب خلقه إليه: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]
ولما كان الشرك خفيا احتاج العبد أن يستعيذ بالله من الوقوع فيه، عن أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أن النَّبِيّ قَالَ: (( يَا أَبَا بَكْرٍ! لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ)). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ )). قَالَ: (( قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ)). (26)
الوقفة الثانية: خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس
فالله لا يغفر للمتشاحنين ما داموا كذلك، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-، قَالَ: (( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا )). (27)
وقد وصف الله المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر: 10]
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ. (28)
وسيدُ القوم من يصفح ويعفو، فأقِلْ يا عبد الله عثرات إخوانك حتى يقيل الله تعالى عثرتك.
الوقفة الثالثة: حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان
ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في ليلة النصف من شعبان في المساجد وإحياء تلك الليلة فهذا من البدع المنكرة؛ لأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم-، لم يفعلوها ولم يأمروا بها، وهم أحرص منا على الخير، عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ -رحمه الله-، قَالَ: لَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ مَشْيَخَتِنَا وَلَا فُقَهَائِنَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَمْ نُدْرِكْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَرَى لَهَا فَضْلًا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ اللَّيَالِي. (29)
وعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ -رحمه الله-، أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ زِيَادًا النُّمَيْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَجْرُهَا كَأَجْرِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: لَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ وَبِيَدِي عَصًا لَضَرَبْتُهُ بِهَا. (30)
فهذا هو الحق والصواب في هذه الليلة، أنه لا يجوز الاجتماع في المساجد لإحيائها، ولا يجوز تخصيصها بصلاة، ولا تخصيص يومها بصيام، وفي الثابت من الأحاديث في غير هذه الليلة غنية وكفاية لمن أراد الخير وسعى لتحصيله بصدق وإخلاص.
بعض المسائل المتعلقة بهذا الشهر
- قضاء ما عليه من الصيام قبل رمضان
من كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني ولا شيء عليه مع القضاء وإن كان ذلك لغير عذر فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا وهو قول مالك والشافعي وأحمد اتباعا لآثار وردت بذلك وقيل: يقضي ولا إطعام عليه وهو قول أبي حنيفة. (31)
- حكم الصيام إذا انتصف شعبان
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال والخلاصة: أنه يُنهى عن الصيام في النصف الثاني من شعبان إما على سبيل الكراهة أو التحريم، إلا لمن له عادة بالصيام، أو وصل الصيام بما قبل النصف.
والحكمة من هذا النهي أن تتابع الصيام قد يضعف عن صيام رمضان. (32)
- تعمد الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين لمن لم تكن له عادة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: (( لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ)). (33)
وقوله (لا تقدموا رمضان) أي لا تتقدموه ولا تستقبلوه بصوم يوم أو يومين، ففيه التصريح بالنهي عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن لم يصادف عادة له. (34)
- صيام يوم الشك
عن عَمَّار بن ياسر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ -صلّى الله عليه وسلّم-. (35)
قال ابن حجر -رحمه الله-: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ فَيَكُونُ مِنْ قبيل الْمَرْفُوع. (36)
أما لو صامه موافقة لعادته أو قضاء جاز
قال النووي -رحمه الله-: قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ. . . فَإِنْ صَامَهُ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كفارة أجزأه. . . . . لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَصُومَ فِيهِ تَطَوُّعًا لَهُ سَبَبٌ فَالْفَرْضُ أَوْلَى. (37)
---
(1) عمدة القاري (11/ 82).
(2) رواه أبو داود (2431)، والنسائي (2671)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 848).
(3) رواه البخاري (1969) ومسلم (1156)
(4) رواه البخاري (1970) ومسلم (1156)
(5) فتح الباري لابن حجر (4/ 214)
(6) فتح الباري(4/ 215)
(7) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 128)
(8) سبل السلام (1/ 583)
(9) رواه النسائي (2678) وحسنه الألباني في إرواء الغليل(4/ 103)
(10) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 130)
(11) رواه البخاري (566) ومسلم (638) من حديث عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهاُ-.
(12) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 131)
(13) رواه ابن نصر في السنة (32) والطبراني (289) من حديث عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 892)
(14) رواه مسلم (145) من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.
(15) رواه مسلم (2948) من حديث معقل بن يسار -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.
(16) مسند أحمد (5/ 27) بإسناد صحيح
(17) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 132)
(18) رواه مسلم (2565) من حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.
(19) رواه مسلم (179)
(20) رواه البخاري (555) ومسلم (632)
(21) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 129)
(22) لطائف المعارف (ص: 135)
(23) رواه ابن ماجه (1390) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 373)
(24) رواه ابن أبي عاصم في السنة (511) والطبراني (590) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 385) و رواه ابن أبي عاصم في السنة (509) عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، ورواه ابن حبان (5665) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.
(25) تفسير الطبري (13/ 687)
(26) رواه البخاري في الأدب المفرد (716) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص: 266)
(27) رواه مسلم (2565)
(28) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 140)
(29) البدع لابن وضاح (2/ 92)
(30) البدع لابن وضاح (2/ 92)
(31) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 134)
(32) موقع الإسلام سؤال وجواب (5/ 3272)
(33) رواه البخاري (1914) ومسلم (1082)
(34) شرح النووي على مسلم (7/ 194)
(35) رواه أبو داود (2334) والترمذي (686) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (7/ 98)
(36) فتح الباري لابن حجر (4/ 120)
(37) المجموع شرح المهذب (6/ 399)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: اللجنة العلمية
- المجموعة: عدد شعبان 1437هـ
- الزيارات: 25291
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا
أقسام الناس في الهموم
حقيقة الدنيا ولذتها وحقيقة الآخرة ولذتها
جزاء الفريقين
أي الهمين نحمله
إن التفاوت بين الناس في اهتماماتهم وأعمالهم ومصائرهم سنة كونية ماضية إلى يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]، وقال {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، وقال {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30]
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يدرك الناس أن الله تعالى خلق الدارين الدنيا والآخرة وجعل بينهما تعلقا وارتباطا، فجعل الدنيا دار عمل واكتساب فهي وسيلة لا تقصد لذاتها، وجعل الآخرة دار جزاء وثواب فهي غاية يُقدِّم العبد في الدنيا ما يكون سببا في نجاته فيها.
أقسام الناس في الهموم
وإذا كان الإنسان لابد له من هم يحمله فإن المتأمل في حال الناس يجدهم أنهم قد انقسموا في هِممهم واهتماماتهم وهمومهم إلى صنفين.
الصنف الأول: صاحب هم دنيوي والصنف الآخر: صاحب هم أخروي
وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذين الصنفين فقال: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة. (1)
1- صاحب هم الدنيا
فأما صاحب الهموم الدنيوية فإنه ذلك الرجل الذي ملكت الدنيا عليه قلبه فلا يفكر إلا فيها ولا يعمل إلا لها ولا يتكلم إلا في شأنها ولا يهتم إلا بأعراضها الزائلة عقارات سيارات شركات مباريات نساء طعام شراب. . . إذا صلى يصلي نقرا وإذا تصدق يتصدق رياء وإذا صام يصوم عادة يقدم رأيه على القرآن ويقدم هواه على السنة والله تعالى يقول: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]
وإن هذا الصنف هو الذي دعا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ.(2)
وصاحب هذا الهم له عقوبات ثلاث
بينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. (3)
العقوبة الأولى: تشتت الشمل فهو مضطرب البال قلق الفكر غير موفق البركة منزوعة من وقته وماله يعيش خادما لدنياه لاهثا وراءها لا يجد طاعة في زوجه ولا برا في ولده لا يشعر بالسعادة وراحة البال وإن كان ذا مال وعيال.
العقوبة الثانية: يخشى الفقر دائما ولا يقنع بما أعطاه الله الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا. (4)
العقوبة الثالثة: أنه دائم الطلب للدنيا وهي دائمة الهروب منه ولا يحصل منها إلا ما كتبه الله له.
2- صاحب هم الآخرة
هو ذلك الذي انشغل بالله عمن سواه يأخذ من الدنيا ما ينفعه في الآخرة يراقب الله في سره وعلانيته يفرح لله ويغضب لله ويسخط لله ويغضب لله، يتمثل الجنة أمامه فيسلك طريقها، ويتمثل النار أمامه فيبحث عن مهرب منها، إذا أراد أن يفعل شيئا نظر هل لله فيه حكم فإذا أذن الله فيه أقدم وإذا نهى الله عنه تراجع وامتنع، يعبد ربه بين الخوف والرجاء دائم التوبة سريع الأوبة.
وهذا الصنف قد أنعم الله عليه بثلاث منح:
المنحة الأولى: يجعل الله غناه في قلبه؛ قال -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ. (5)
فصاحب الهم الأخروي يعيش مرتاح البال هادئ النفس راض بما قسمه الله له صابر على ما أصيب به يعلم أن قدر الله كله خير له، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. (6)
إن غنى النفس عزيز في دنيا الناس، شريف بينهم؛ لأنه قد استعف بغناه عما في أيدي الآخرين، وهذا الصنف من الناس مؤيد من الله فهم أهل توفيق الله تعالى وأهل معيته؛ قال ابن القيم: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه. (7)
المنحة الثانية: أن يجمع الله له شمله، وجمع الشمل: هو الاجتماع بكل ما يعنيه من عموم، يجمع الله على صاحب الهم الأخروي قلبه، وفكره، ومقصده، وأهله، وولده، وقريبه، وصديقه، وماله، وتجارته، ويجمع الله عليه القلوب، ويكتب له القبول، فيجتمع لهذا العبد كل ما يحيط به من أمور الخير جميعا.
عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ. (8)
المنحة الثالثة: مجيء الدنيا له، وهي راغمة، فيأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، ويجعل له ربه من كل أمر يسرا، فيوفق في دنياه، من غير مسألة ولا إشراف نفس.
إن صاحب الهم الأخروي قد كافأه ربه بنظير قصده، فلما جرد همه للآخرة، كفاه الله هم دنياه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
لقد عاش الصحابة الكرام حياة الفقر والحاجة والخوف حتى ظهر هذا الدين وفتحت عليهم الدنيا لكنها كانت في أيديم ولم تكن في قلوبهم؛ روى الإمام مسلم من حديث عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَصْبَحَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا، وَعِنْدَ اللهِ صَغِيرًا، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا، فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا. (9)
وليكن معلوما أن حمل هم الآخرة لا يعني انعزال العبد عن حياة الناس، فيترك إجابة الدعوة، ويهجر زيارة الصديق والقريب، ويتقوقع في صومعته ورهبنته، هذا تصور خاطئ قاصر؛ بل إن صاحب الهم الأخروي، يجتهد في صلة الرحم، وإجابة الدعوة، ومخالطة الناس، والصبر على أذاهم، ويسعى في إصلاح ما فسد؛ لأنه يعلم أن تلك الأعمال درجات وحسنات في ميزانه يوم الآخرة.
حمل هم الآخرة، لا يعني أن يكون صاحبه مكفهر الوجه، دائم العبوس، فهذا قدوتنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أعظم من هم لآخرته، كان يضاحك ويمازح، ويداعب ويلاعب، ولكل مقام مقال، ومن مأثور قوله: تبسمك في وجه أخيك صدقة. (10) (11)
حقيقة الدنيا ولذتها وحقيقة الآخرة ولذتها
حقيقة الحياة الدنيا
1- متاعها قليل وهي سريعة الزوال
قال تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]
قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]
2- وهي دار غرور
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]
3- هي دار عمل ومزرعة للآخرة
قال تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]
4- إيثار الدنيا على الآخرة سبيل الهلاك قال تعالى { فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39]
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)} [محمد: 36].
وإن الذم الوارد في حق الدنيا ليس راجعا لذاتها وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة على غير منهج الله ورسوله من كفر وشرك، وبدع وضلال، وسرقة وظلم، وقتل وفساد ونحو ذلك مما لا يحبه الله ولا رسوله.
فالدنيا لها حالتان:
- تارة تكون فتنة تلهي صاحبها عن الله والدار الآخرة فهي مذمومة.
- وتارة تكون زاداً إلى الآخرة، وعوناً للإنسان للاستقامة على الدين، فهي بهذا نعمة محمودة، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.
لذة الدنيا
لذات الدنيا ثلاثة أقسام
أحدها: لذة تعقب ألما أعظم منها، أو تفوت لذة أكبر منها، وهذه لذات العصاة الغافلين على اختلاف طبقاتهم كالمتلذذين بالزنا وشرب الخمر والسرقة ونحوهم، وهم الذين يقال لهم يوم القيامة {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]
الثانية: لذة لا تعقب ألما في الآخرة ولكن الانهماك بها يفوت تبوأ المنازل العالية ويشغل عن تحصيل الأجر وهي لذات الغافلين المباحة التي لا يستعينون بها على الخير ولا يحتسبون بها ثوابا عند الله فهي خالية من نية العبادة ومعناها كالتوسع في المآكل والمشارب والمراكب والمنازل والسفر والسياحة وما شابه ذلك مما ليس فيه ضرر ولا ارتكاب محرم.
الثالثة: لذة يثاب العبد عليها، وهي لذة خواص المؤمنين الذين يتمتعون بها على وجه القيام بواجب النفس وعلى وجه الاستعانة بها على طاعة الله، وعلى وجه الانكفاف بها عن معاصي الله.
وبهذه المقاصد الجليلة تكون من قسم الطاعات، وهي التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا. (12) ومن حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ. (13)
فبين في الحديث أن التمتع بهذه الشهوات على وجه الحمد لله والاعتراف بفضله وقصد الانكفاف بها عن الحرام أجر وثواب عند الله؛ فلله الحمد على منته. (14)
حقيقة الآخرة ولذتها
1- الآخرة هي الحياة الحقيقية وهي دار البقاء، قال تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، وقال { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24]
2- نعيمها دائم لا ينقطع {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]
3- لذة الآخرة تختلف عن لذات الدنيا
أ- فهي لذة صافية {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 15]
ب- وهي لذة لا تبلغها التصورات ولا التخيلات؛ قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]
جـ - وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى وجهه سبحانه:
عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ. (15)
وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ"(16)
لذة دائمة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35]
جزاء الفريقين
لقد ذكر الله تعالى جزاء طلاب الدنيا وطلاب الآخرة في أوجز عبارة وأعجز أسلوب فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]
قال ابن كثير: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ } أي: عمل الآخرة { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده، ونكثر نماءه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله {َ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا، وليس له إلى الآخرة همة ألبتة بالكلية، حرمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة. (17)
أي الهمين نحمله
إن نصوص الشرع قد تظاهرت على تصحيح المفاهيم وبيان حقيقة الدنيا وقدرها وحقيقة الآخرة وقدرها وإلى أيتهما يصرف الناس هممهم وعزائهم.
قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77]
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]
وقال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]
ولقد ربي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على حمل هم الآخرة وعدم التعلق بزينة الحياة الدنيا أو الإعجاب بها أو التأسف على فواتها وقد دل على ذلك جمل من الأحاديث النبوية منها:
- دخل عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه الشريف فقال له: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا. (18)
- ولما أصاب كان المسلمون يحفرون الخندق فأصابهم البرد والجوع والنصب فلما رأى النبي ما بهم ذكرهم يرجون الآخرة لا الدنيا؛ عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الخَنْدَقِ، فَإِذَا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ وَالجُوعِ، قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا. . . عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا (19)
- وعن البَرَاءِ بْنَ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، بِثَوْبٍ مِنْ حَرِيرٍ فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهِ وَلِينِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. (20)
وبعد هذا كله يبقى أن نسأل أنفسنا ما هو الهم الأول الذي يسيطر على حياتنا، وهو الهم الذي يسميه النبي -صلى الله عليه وسلم- الهم الأكبر، وذلك في قوله: وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا.(21)
هل هذا الهم من هموم الدنيا أم من هموم الآخرة؟ حاول أن تكتب الهموم التي تهمك في ورقة، وانظر أهمها لديك، وأكثرها شغلاً لبالك، ثم انظر كم من هذه الهموم للدنيا وكم منها للآخرة،
من أراد أن يعرف الهم الأكبر الذي يشغله فلينظر في أحواله:
- ما الذي يفكر فيه قبل نومه أو في صلاته؟ - ما الذي يفرحه ويحزنه؟
- وما الذي يغضبه؟ - ما هي أمنياته؟
- وبماذا يدعو الله في سجوده؟ - وما الذي يراه في منامه وأحلامه؟
- ما الأمر الذي يؤثر تأثيراً مباشراً في قراراته كاختيار الزوجة ومكان السكن، هل هو الجمال وإيجار الشقة أم الدين والجوار من المسجد؟ وهكذا. . .
إن التبصر في ذلك كله يدلك على الهم الأول أو الأكبر في حياتك، فتعرف حينذاك أنك ممن أهمته دنياه أو أخراه. . (22)
---
(1) أخرجه ابن ماجه: (4105)، وأحمد في المسند (21630)، وقال الألباني: صحيح، انظر السلسلة الصحيحة: 1/ 760، برقم: 404.
(2) أخرجه البخاري (2887).
(3) أخرجه ابن ماجه: (4105)، وأحمد في المسند (21630)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6510)
(4) أخرجه الترمذي (3502).
(5) أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051)
(6) أخرجه مسلم (2999)
(7) الفوائد لابن القيم (ص: 84)
(8) أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637)
(9) أخرجه مسلم (2967)
(10) أخرج البخاري في الأدب المفرد (891)، والترمذي (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2908)
(11) انظر: هم الآخرة وهموم الدنيا، الشيخ إبراهيم بن صالح العجلان
(12) أخرجه مسلم (2734)
(13) أخرجه مسلم ( 1006 ).
(14) انظر مجموع الفوائد لابن سعدي (ص: 234)
(15) أخرجه مسلم (181)
(16) أخرجه النسائي (1304)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1301)
(17) تفسير ابن كثير (7/ 198)
(18) أخرجه البخاري (2468)
(19) أخرجه البخاري (2834)، ومسلم (1805) مختصرا
(20) أخرجه البخاري (3249)
(21) أخرجه الترمذي (3502)
(22) انظر حياتنا بين هموم الدنيا والآخرة د. منقذ بن محمود السقار
- التفاصيل
- كتب بواسطة: اللجنة العلمية
- المجموعة: عدد شعبان 1437هـ
- الزيارات: 20963
مُحقرات الذنوب
معنى المحقرات التحذير منها بعض صورها
نظرة المؤمن للذنوب وأخيرا هل من توبة؟
من المتقرر عند أهل الحق والعرفان أنه كلَّما قوي الإيمان في قلب العبد، استعظم معصية سيِّده ومولاه، فكان ذلك سياجا قويا وحصنا منيعا بينه وبين الذنوب صغيرها وكبيرها، وكلَّما ضعُفَ الإيمان في قلب العبد، هانت عليه المعصية، ورآها أمرًا هيِّنًا، وعندئذٍ يفتح عليه الشيطان باب المحقرات، فما يزال به حتى يورده موارد الهلكات، التي توجب له سخطَ ربِّ الأرض والسماوات، فما يفيق من غفلته إلا بعدما انقضى العمر وفات، وحينها يدعو بالثبور والويلات، إلا من تداركه ربه برحمته فتاب من الزلات، وترك الذنوب صغيرها وكبيرها وانشغل بعمل الصالحات.
معنى محقرات الذنوب
محقرات الذنوب هي ما لا يبالي المرء به من الذنوب الصغائر.
قال المناوي -رحمه الله-: (محقرات الذنوب) أي صغائرها لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها.
إنها محقرات الذنوب
التي حذَّر الله تعالى منها عبادَه أشدَّ تحذير وزجر عنها أعظم زجر لمن تأمل كلام ربه، فقال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
جزع بعض السلف عند الموت فقيل له في ذلك فقال: إني أخاف ذنبًا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. (1)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ )). (2)
إنها محقرات الذنوب
التي حذَّر منها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ الناس إليه الصديقة بنت الصديق، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا )). (3) ومصداق ذلك في قوله تعالى{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 8]
فالصغير والكبير من الذنوب يقيد في كتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]
إنها محقرات الذنوب
التي حذَّر منها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه الأخيار وجميعَ أمته، وأخبر أنها ما اجتمعت على عبد إلا أوردته المهالك، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ)). وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلاً: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاَةٍ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا )). (4)
قال المناوي في شرحه المثل المضروب في الحديث:
يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تكفر أهلكت ولم يذكر الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها فأنذرهم مما قد لا يكترثون به. (5)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ )). (6)
قال أبو عبد الرحمن الحبلى: مثل الذى يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقاه سبُعٌ فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحْلُ إبلٍ فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى، ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه، وكذلك الذى يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات.
وسبب كون صغار الذنوب ومحقراتها مهلكة لسببين:
الأول: الإصرار. الثاني: الاستصغار.
أما الأول: وهو الإصرار وهو المداومة على الذنب حتى يصير كبيرا عند الله تعالى
قَالَ ابن بَطَّالٍ -رحمه الله-: الْمُحَقَّرَاتُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ كِبَارًا مَعَ الْإِصْرَارِ. (7)
فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِن الذنب لذلك قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ.
الثاني: الاستصغار وهو الاستهانة بها واحتقارها الذي يؤدي إلى كبرها وعظمها عند الله.
قال بِلَال بْن سَعْدٍ -رحمه الله-: لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رحمه الله-: بِقَدْرِ مَا يَصْغَرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَكَ يَصْغَرُ عِنْدَ اللَّهِ. (8)
الذنوب جراحات ورُبَّ جرح وقع في مقتل، وليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح
وقال أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: إن الله يغفر الكبائر فلا تيأسوا، ويعذب على الصغائر فلا تغتروا. (9)
إنها محقرات الذنوب
التي حملت مَن قبلنا على ترك دينهم والانسلاخ من عقيدتهم، قيل لحُذَيْفَةَ بن اليمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: أفِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ. (10)
إنها محقرات الذنوب
التي ترضي الشيطان وتسعده وهي مطلبه من أهل الصلاة ومأربه، فعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )). (11)
فالعبد إذا نظر إلى المعاصي التي تدخل تحت حدِّ الصغائر لا الكبائر، فربَّما استسهل الوقوع فيها! أو اعتمد فيها على عفو الله تعالى، فلا يلبث إلا أن يجد أثرها في اجتماعها المدمِّر؛ كالسَّيل العرم، لو جزَّأته لوجدتَّه نُقَطًا!.
فمن نظر للذنوب على أنَّها أوساخٌ، توقَّاها وتجنَّبها ولو كانت صغارًا، فالوسخ يُؤثِّر ولو كان قليلًا، فإذا تراكم سوَّد الثياب.
لا تحقرن من الذنوب أقلها. . . إن القليل إلى القليل كثير(12)
إياك إياك ومحقرات الذنوب
قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: يَا مَغرُورًا بِالأَمَانيِّ، لُعِنَ إِبلِيسُ وَأُهبِطَ مِن مَنزِلِ العِزِّ بِتَركِ سَجدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ بها، وَأُخرِجَ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ بِلُقمَةٍ تَنَاوَلَهَا، وَحُجِبَ القَاتِلُ عَنهَا بَعدَ أَن رَآهَا عِيَانًا بِمَلءِ كَفٍّ مِن دَمٍ، وَأُمِرَ بِقَتلِ الزَّاني أَشنَعَ القِتلاتِ بِإِيلاجِ قَدرَ الأَنمُلَةِ فِيمَا لا يَحِلُّ، وَأُمِرَ بِإِيسَاعِ الظَّهرِ سِيَاطًا بِكَلِمَةِ قَذفٍ أَو بِقَطرَةٍ مِن مُسكِرٍ، وَأَبَانَ عُضوًا مِن أَعضَائِكَ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ، فَلا تَأمَنْهُ أَن يَحبِسَكَ في النَّارِ بِمَعصِيَةٍ وَاحِدَةٍ مِن مَعَاصِيهِ (( وَلا يَخَافُ عُقبَاهَا )). (13)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أَنَّهُ قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لِمَا تَأْمَنُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَلِمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ؟ ، وَقِلَّةُ حَيَائِك مِنْ مَلَكِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ، وَفَرَحُك بِالذَّنْبِ إذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَحُزْنُك عَلَى الذَّنْبِ إذَا فَاتَك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ، وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ. (14)
أنواع المحقرات التي يتهاون بها الناس
- التهاون بالكلمة
- رُبَّ كلمة لو مُزجت بماء البحر لكدرته وغيرته وقائلها لا يعبأ بها
- عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: (( لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ )). (15)
قال المناوي -رحمه الله-: معناه هذه غيبة منتنة لو كانت مما يمزج بالبحر مع عظمه لغيرته فكيف بغيره.
وقال النووي -رحمه الله-: هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها وما أعلم شيئا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ. (16)
فذكر معايب الناس التي يكرهونها مما يتساهل به البعض ولا يشعرون بالإثم وهو من كبائر الذنوب ويكفى ذماً لها وتحذيرا منها قول ربنا تبارك وتعالى { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12].
- ورُبَّ كلمة تُعرِّض قائلها للعذاب وهو لا يدري
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ )). (17)
- ورُبَّ كلمة أوبقت دنيا قائلها وآخرته
عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لَا يَزَالُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى ذَنْبٍ، فَيَقُولُ: يَا هَذَا أَقْصِرْ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، حَتَّى وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَبَدًا، قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا؟ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْظُرَ عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ )). ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. (18)
- ومن المحقرات النميمة
ومما يستهين به الناس من الذنوب النميمة: عن حُذَيْفَة بن اليمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ )). (19)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».(20)
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ -رحمه الله-: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. (21)
- ومن المحقرات إسبال الثياب للرجال
إسبال الثياب يستسهله البعض لأنهم ألفوه ويظنونه من الصغائر وهو من المهلكات وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ )). (22)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )). قَالَ: فَقَالها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (( الْمُسْبِلُ { إِزَارَهُ }، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ )). (23)
- ومن المحقرات خروج المرأة من بيتها مستعطرة
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ)). (24)
- ومن المحقرات مصافحة الرجال للنساء غير المحارم
عن مَعْقِل بْن يَسَارٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ)). (25)
- ومن المحقرات التفريط في صلاة الجمعة بغير عذر
فالتفريط في صلاة الجمعة وتركها كسلا أو نوما من غير عذر من المهلكات والكثير من المسلمين لا يدري، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَ مِرَارٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ)). (26)
نظر المؤمن إلى الذنوب
لما علم الصالحون السابقون بخطر الذنب صغر أو كبر فروا من ذلك؛ بل كانوا يرون فعل الصغيرة كبيرة، فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقَاتِ. قَالَ البخاري: يَعْنِي بِذَلِكَ المُهْلِكَاتِ.(27) وقد بوَّب البخاريُّ على هذا الأثر بقوله: باب ما يُتَّقى من محقَّرات الذُّنوب
فالأمر خطير جداً يستحق الوقوف عنده كثيراً والتفكير فيه طويلاً، ذلك أن المؤمن يحاسب نفسه ويرى عظم ما ارتكب من خطأ، فعن عبدالله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قال: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ". (28)
قَالَ ابن بَطَّالٍ -رحمه الله-: يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ عَظِيمَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُعَذِّبُ عَلَى الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (29)
بل كلما زاد تعظيم الخالق في النفوس رأى المؤمن ما ليس ذنبا ذنبا مهلكا فهذا ثابت بن قيس بن شماس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، خطيب الأنصار كان من عادته أنه يرفع صوته أثناء الكلام فلما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فجَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ اشْتَكَى؟ » قَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ». (30)
فالجزاء من جنس العمل خاف الله في الدنيا خوفاً أقعده عن الخروج من بيته فجازاه الله بالأمن من هذا الخوف في الدنيا قبل الآخرة.
وهذا مثال آخر لتعظيم الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم-، لحرمات الله، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: (( يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ))، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-. (31)
قال النووي -رحمه الله-: فِيهِ الْمُبَالَغَة فِي اِمْتِثَال أَمْر رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، وَاجْتِنَاب نَهْيه وَعَدَم التَّرَخُّص فِيهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الضَّعِيفَة. (32)
- سهام الذنوب مسمومة تمرض القلوب وربما تميتها
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ )). {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. (33)
قال ابن القيم -رحمه الله-: وَالذُّنُوبُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ السُّمُومِ، إِنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أَضْعَفَتْهُ، وَلَا بُدَّ وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ، قَالَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ -رحمه الله-:
رَأَيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ. . . وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ. . . وَخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيَانُهَا(34)
- وأخيرا: كل بني آدم خطاء وخيرهم من سارع بالتوبة
من طبيعة الخلق أن يذنبوا ويخطئوا ويقصروا فكل بني آدم خطاء وخيرهم من يسارع إلى التوبة، فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )). (35)
من الذي ما أساء قط. . . ومن له الحسنى فقط
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)). (36)
وأبواب التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها، أو ما لم يغرغر العبد وتبلع الروح الحلقوم والأدلة على ذلك واضحة لا تحتاج إلى بيان.
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً. . . فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلا مُحْسِنٌ. . . فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو الْمُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا. . . فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمن ذَا يرحم
مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلا الرَّجَا. . . وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ(37)
---
(1) شرح القسطلاني (9/ 282)
(2) رواه البخاري (2365) ومسلم (2242)
(3) رواه أحمد (6/ 70) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 521)
(4) رواه أحمد (1/ 402) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 523)
(5) فيض القدير (3/ 127)
(6) رواه أحمد (5/ 331) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 744)
(7) فتح الباري لابن حجر (11/ 330)
(8) الداء والدواء (ص: 51)
(9) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 203)
(10) الداء والدواء (ص: 50)
(11) رواه مسلم (2812)
(12) مواعظ الصحابة لعمر المقبل (ص: 258)
(13) الفوائد لابن القيم (ص: 63)
(14) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 20)
(15) رواه أبو داود (4875) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 914)
(16) فيض القدير (5/ 411)
(17) رواه البخاري (6478)
(18) رواه أحمد (2/ 323) وأبو داود (4901) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 821)
(19) رواه البخاري (6056) ومسلم (105)
(20) رواه البخاري (218) ومسلم (292)
(21) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 37)
(22) رواه البخاري (5787).
(23) رواه مسلم (106)
(24) رواه أبو داود (4173) والنسائي (9361) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 525)
(25) رواه الطبراني (486) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 900)
(26) رواه أحمد (3/ 332) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1058)
(27) رواه البخاري (6492)
(28) رواه البخاري (6308).
(29) فتح الباري لابن حجر (11/ 106)
(30) رواه البخاري (4846) ومسلم (119) من حديث أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-.
(31) رواه مسلم (2090 )
(32) شرح النووي على مسلم (14/ 65)
(33) رواه أحمد (2/ 297) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 343)
(34) زاد المعاد (4/ 186)
(35) رواه الترمذي (2499) وابن ماجه (4251) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 831)
(36) رواه مسلم (2749)
(37) الثبات عند الممات لابن الجوزي (ص: 167)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: اللجنة العلمية
- المجموعة: عدد شعبان 1437هـ
- الزيارات: 12691
رمضان واستعداد الفائزين
مقدمة أهمية الاستعداد كيف نستعد لرمضان
مقدمة: يتفاوت الناس في وضع برامجهم في مواسم العبادة والخير على أصناف عدة:
1) فمنهم من يلجأ إلى عملية الكتابة المنظمة لما سيقوم به بصورة واضحة منسقة مع زمن الموسم المراد استغلاله.
2) ومنهم من يضع لنفسه تصورا في عقله وفكره لما سوف يقوم به.
3) وآخرون يتركون العملية للوقت، أي يقومون بما يتيسر لهم في وقته بدون تخطيط مسبق.
أما الصنف الثالث فغالباً ما يفوتهم الشهر بغير استغلال، ولا يتنبهون لما هم فيه إلا بعد انقضاء الشهر المبارك، ويفوز بالشهر من وضحت له الأهداف التي ينبغي أن يعمل من أجل تحقيقها في هذا الشهر. (1)
أهمية الاستعداد:
- هو دأب الصالحين وطريق المفلحين الفائزين فتشبه بهم تكن معهم.
- فرقٌ كبير بين من دخل عليه رمضان ليحصد الحسنات وبين من دخل عليه رمضان وهو يجاهد نفسه على الطاعات.
- شهر رمضان وجبة دسمة من الطاعات قد تؤدي إلى التخمة الروحية إن لم توافق شهية قوية وهذا مشاهد في واقع الناس.
- الاستعداد الجيد درعٌ يقي المسلم من الملل والفتور أثناء السباق في شهر رمضان.
- كلما كانت الثمرة أعظم كان الثبات بعد رمضان أطول وما ذلك إلا ثمرة الاستعداد الجيد.
كيف نستعد لشهر رمضان؟
اجلس جلسة تفكر وهدوء مع ورقة وقلم لتعرف ( كيف تستعد لشهر رمضان ).
وهذه مجرد أطروحات ومقترحات ممن يرجو لك الفوز بالخيرات:
الخطوة الأولى: الاستعداد النفسي
ويكون ذلك بأمور مهمة منها:
- تعظيم شهر رمضان ومعرفة قدره
قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]
فقد كان السلف رحمهم الله بعد رمضان مباشرة يدعون الله أن يتقبله منهم ستة أشهر ثم في الست أشهر الباقية يدعونه أن يُبلغهم رمضان القادم فانظر لمدى استشعارهم لمكانة رمضان وأيامه الغالية. . .
فعلى المسلم أولاً أن يعظم شهر رمضان وأن يقدره حق قدره، ولِمَا لا وقد عظَّمه الله تعالى وعظمه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعظَّمه المؤمنون، ويكفي أن تعرف أن الله تعالى اختصَّ هذا الشهر بإنزال كتبه على رسله لهداية الناس ونجاتهم، فعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (( نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ، لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ)). (2)
- ( اجلس بنا نعش رمضان ) هذا شعار ما قبل رمضان وهو عبارة عن جلسة إيمانية مع من تحب من أهل الفضل والعلم والعمل الصالح تتذاكر معهم كيف تعيش رمضان كما ينبغي فهذه الجلسة الإيمانية تحدث أثراً طيباً في القلب للتهيئة الرمضانية.
- تهيئة الزوجة والأولاد لهذا الشهر الكريم من خلال الحوار والمناقشة في كيفية الاستعداد لهذا الضيف الكريم.
- معرفة الثمرات العظيمة التي يجنيها المسلم من الاجتهاد في الطاعة خلال شهر رمضان.
مثل: مغفرة الذنوب، العتق من النار، مضاعفة الحسنات، رفع الدرجات، الانتصار على النفس والشيطان، الشعور بلذة الطاعة، الشعور بمعية الله، حياة القلب وصلاح النفس،. . . . . . . . . وغير ذلك كثير
فمعرفتك لهذه الفضائل وغيرها يعطيك دافعاً نفسياً للاستعداد له.
- ويتم ذلك من خلال المطالعة الإيمانية: وهي عبارة عن قراءة بعض كتب الرقائق المختصة بهذا الشهر الكريم لكي تتهيأ النفس لهذا الشهر بعاطفة إيمانية مرتفعة.
- اقرأ كتاب لطائف المعارف ( باب وظائف شهر رمضان ) وكتاب ( أسرار المحبين في رمضان ) وسوف تجد النتيجة بإذن الله.
- معرفة حجم الخسارة لمن أهمل وضيَّع في شهر رمضان
إِذَا الرَّوْضُ أَمْسَى مُجْدِبًا فِي رَبِيعِهِ. . . فَفِي أَيِّ حِينٍ يَسْتَنِيرُ وَيَخْصُبُ
من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح، من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَقَى الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقَى الدَّرَجَةَ الْأُولَى قَالَ: (( آمِينَ)). ثُمَّ رَقَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: (( آمِينَ)). . ثُمَّ رَقَى الثَّالِثَةَ: فَقَالَ: (( آمِينَ)). فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَمِعْنَاكَ تَقُولُ: "آمِينَ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: (( لَمَّا رَقِيتُ الدَّرَجَةَ الْأُولَى جَاءَنِي جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قال: شقي عبد ذكرتَ عنه وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: آمِينَ)). (3) من رُحم في رمضان فهو المرحوم ومن حرم خيره فهو المحروم ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.
أتى رمضانُ مزرعة العباد. . . لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولا وفعلا. . . وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوبَ وما سقاها. . . تأوَّه نادما يومَ الحصاد(4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ )). (5)
وفي حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ )). (6)
مرَّ الْحسنُ الْبَصْرِيّ -رحمه الله- بِقوم يَضْحَكُونَ فَوقف عَلَيْهِم وَقَالَ: إِن الله تَعَالَى قد جعل شهر رَمَضَان مضمارا لخلقه يَسْتَبقُونَ فِيهِ بِطَاعَتِهِ فَسبق أَقوام ففازوا وتخلف أَقوام فخابوا، فالعجب للضاحك اللاعب فِي الْيَوْم الَّذِي فَازَ فِيهِ المسارعون وخاب فِيهِ الباطلون أما وَالله لَو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. (7)
- تحديد الأهداف بدقة
ماذا تريد من رمضان؟ وما هي الثمرة المرجوة؟
ولكن قبل تحديد الأهداف تعلَّم كيف تحدد أهدافك، فليس الثَّرَىَ كَالثُّرَيَّا، هذا هو رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، الغلام الصغير صاحب الأهداف السامية قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (( سَلْ )) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: (( أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ )) قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (( فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ )). (8)
واعلم أنَّ قيمةَ كلِّ إنسان ما يطلب فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه فإن الدنيا دنية وأدنى منها من يطلبها وهي خسيسة وأخسُّ منها من يخطبها. (9)
- استحضار النوايا الصالحة
تدبر هذا الحديث الذي رواه أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-،: (( قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا، فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا )). (10)
وتأمل هذا الكلام الماتع لمَالِك بْن دِينَارٍ -رحمه الله-، قال: إِنَّ الْأَبْرَارَ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِأَعْمَالِ الْفُجُورِ، وَاللَّهُ يَرَى هُمُومَكُمْ فَانْظُرُوا مَا هُمُومُكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. (11)
ومن النيات المطلوبة في هذا الشهر:
1- نية ختم القرآن لعدة مرات مع التدبر.
2- نية التوبة الصادقة من جميع الذنوب السالفة.
3- أن يكون هذا الشهر بداية انطلاقة للخير والعمل الصالح وإلى نلقى الله بإذن الله.
4- نية كسب أكبر قدر ممكن من الحسنات في هذا الشهر ففيه تضاعف الأجور والثواب.
5- نية تصحيح السلوك والخلق والمعاملة الحسنة لجميع الناس.
6- نية العمل لهذا الدين ونشره بين الناس مستغلاً روحانية هذا الشهر.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: إِن هَمَمْت فبادر وَإِن عزمت فثابر وَاعْلَم أَنه لَا يدْرك المفاخر من رَضِي بالصف الآخر. قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز -رحمه الله-: إنَّ لي نفسا تواقة لم تزل تتوق إِلَى الْإِمَارَة فَلَمَّا نلتها تاقت إِلَى الْخلَافَة فَلَمَّا نلتها تاقت إِلَى الْجنَّة. (12)
- إعداد جدول عملي مكتوب
بعدما حددتَ الأهدافَ الساميةَ واستحضرتَ النوايا الصالحة، لابد من تقييد ذلك في سطور حتى لا يُنسى وتراه أمامك دائما وتطالب به النفس وتحاسبها على التقصير.
الخطوة الثانية: التدريب العملي
اجعل شهر شعبان – أو ما بقي منه - معسكرا للتدريب على الطاعات التي تريد أن تقوم بها في رمضان وكذلك المعاصي التي تريد أن تتخلص منها، ويكون بعدة أمور:
- التخلية قبل التحلية
تخيل أنك تنتظر ضيفا عزيزا عليك يزورك في بيتك، ووجدت البيت متسخًا. هل تزين البيت قبل أن تنظفه؟ أم تعْمد أولا إلى تنظيفه قبل أي شيء؟
إذًا: تخلَّصْ ما استعطت من ذنوبك قبل أن يحل عليك الضيف الكريم، وحاسب نفسك على ما اقترفته من ذنوب منذ رمضان الماضي. . فلا تدخل رمضان الجديد إلا وقد تبت من ذنوب العام. . نقِّ قلبك ونظفه مما شابه من شهوات وشبهات. . . تُب إلى الله من: النظر الحرام، من سماع ما يغضب الله، وتذكر أن الله تعالى يغار، وغيرته أن تُنتهك محارمه.
وإياك أن تُسوِّف التوبة، وأن يغرّك حلم الله وستره؛ فإن الله تعالى يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
- واحرص أن تكون نظرتك عند تقدير الذنوب نظرة مؤمن يخاف ذنوبه صغيرها وكبيرها، كما قال عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ: بِهِ هَكَذَا، فَطَارَ.(13)
وتذكر قول: بِلَال بْن سَعْدٍ -رحمه الله-: لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ.
وَقَول الْفُضَيْل بْن عِيَاضٍ -رحمه الله-: بِقَدْرِ مَا يَصْغَرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَكَ يَصْغَرُ عِنْدَ اللَّهِ. (14)
- انبذ البطالة والبطالين
فانبذ البطالة لأنها لا تليق بالرجال، وتخلَّص من صحبة البطالين الذين لا يعملون لدنيا ولا دين، وقد أمر الله خير الخلق -صلى الله عليه وسلم- بصحبة المجدّين في السير إلى الله وترك الغافلين فقال عز من قائل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] وقال عز وجل: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]
وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ )). (15)
- وابحث عن ذوي الهمم والمروءات
كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ -رحمه الله-، يَتَخَطَّى حِلَقَ قَوْمِهِ حَتَّى يَأْتِيَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ فَيَجْلِسَ عِنْدَهُ، ويقول: إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ إِلَى مَنْ يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ. (16)
وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة. (17)
- ولتكن نظرتك للطاعات نظرة تعظيم وإجلال، لا تحقير وإقلال، واستمع لنصيحة حبيبك -صلى الله عليه وسلم- لأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ )). (18)
فأنت لا تدري أي حسنة يثقل بها ميزانك.
- وليكن شوقك للسباق في ميادين الطاعة كشوق أَنَس بْن النَّضْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، حين قَالَ لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. (19)
قال ابن القيم -رحمه الله-: لَقَدْ حَرَّكَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ وَإِلَى دَارِ السَّلَامِ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ، وَالْهِمَمَ الْعَالِيَةَ، وَأَسْمَعَ مُنَادِي الْإِيمَانِ مَنْ كَانَتْ لَهُ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ، وَأَسْمَعَ اللَّهُ مَنْ كَانَ حَيًّا، فَهَزَّهُ السَّمَاعُ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ، وَحَدَا بِهِ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ، فَمَا حَطَّتْ بِهِ رِحَالُهُ إِلَّا بِدَارِ الْقَرَارِ.(20)
وَإِذا كَانَت النُّفُوس كبارًا. . . تعبت فِي مرادها الْأَجْسَام
ولتكن همتك همة رجال حتى تصل إلى ما وصل إليه الرجال
وقال وهيب بن الورد -رحمه الله-: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
وقال الشيخ محمد بن عثمان التركستاني: ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه.
وقال غيره: لو أن رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب. (21)
قال ابن القيم -رحمه الله-: الْهِمَمُ الْعَالِيَةُ هِيَ الَّتِي لَا تَقِفُ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَا تُعَرِّجُ فِي سَفَرِهَا عَلَى شَيْءٍ سِوَاهُ. وَأَعْلَى الْهِمَمِ: مَا تَعَلَّقَ بِالْعَلِيِّ الْأَعْلَى. (22)
وقال أحد الحكماء: ينال الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية. (23)
قال ابن الجوزي-رحمه الله-: مَنْ كَدَّ كَدَّ العبيد تَنَعَّمَ تَنَعُّمَ الْأَحْرَار،،، شجرُ المكاره يُثمر المكارم،،، إِن لم تكنْ أسدا فِي الْعَزْم وَلَا غزالا فِي السَّبق فَلَا تتثعلب. (24)
- وإذا حدثتك نفسك: متى الراحة؟
فقل لها كما قال الأول: عند أو ل قدم نضعها في الجنة إن شاء الله.
قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة.(25)
قيل للربيع بن خثيم -رحمه الله-: لو أرحت نفسك؟ قال: راحتها أريد. (26)
- الاستراحة الحقيقية تحت شجرة طوبي
قال ابن القيم -رحمه الله-: لَيْسَ لِلْعَابِدِين مُسْتَرَاحِ إِلا تَحْتَ شَجَرَةَ طُوبَى. وَلا لِلْمُحِبِّينَ قَرَارٌ إِلا يَوْمَ الْمَزِيد فَمَثِّلْ لِقَلْبِكَ الاسْتِرَاحَة تَحْتَ شَجَرة طُوبَى يَهُنْ عَلَيْكَ النصب والتعب، وَاسْتَحْضِر يَومَ الْمَزِيد يَهُنْ عَلَيْكَ مَا تَتَحَمَّلُ مِنْ أَجْلِهِ. (27)
على قدر أهل الْعَزْم تَأتي العزائم. . . وَتَأْتِي على قدر الْكِرَام المكارم
- إحياء الطاعات المهجورة والعبادات الغائبة
لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القران، ليحصل التأهب لتلقي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
وهي كثيرة ومنها على سبيل المثال:
- المداومة على الدعاء قبل مجيء رمضان
اللهم بلغنا رمضان
قال معلى بن الفضل -رحمه الله-: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير-رحمه الله- كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا. (28)
- صم شيئاً من شعبان
فهو كالتمرين على صيام رمضان وهو الاستعداد العملي لهذا الشهر،
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الشَّهْرِ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ. (29)
- عود نفسك من الآن على قيام الليل.
- تعود على السخاء وأكثر من الصدقة.
- بادر بصلة رحمك، واحذر أشد الحذر من قطعها.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه-، قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ )). (30)
- فرّغ قلبك للانشغال بالله دون سواه
- تغلب على العادات
عوِّد النفس من الآن: قلة الطعام، قلة النوم، قلة الكلام
- عوِّد نفسك على المكوث في المسجد فترات أطول بعد الصلاة تحضيرا للاعتكاف في رمضان.
- ابتعد رويدًا رويدًا عن جلسات السمر وإضاعة الوقت وقاطع التلفاز وجميع الملهيات
- أكثر من قراءة القرآن وراجع حفظك استعدادا لشهر القرآن
فاللهم بلغنا رمضان وبارك لنا في أيامه وليليه
---
(1) برنامجك في رمضان (ص: 3)
(2) رواه أحمد (4/ 107) والطبراني في الأوسط (3740) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/ 104)
(3) رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه لغيره الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص: 240)
(4) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148)
(5) رواه النسائي (2106) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 72)
(6) رواه ابن ماجه (1644) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 447)
(7) بستان الواعظين ورياض السامعين (ص: 233 )
(8) رواه مسلم (489)
(9) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 245)
(10) رواه مسلم (129)
(11) الهم والحزن لابن أبي الدنيا (ص: 76)
(12) المدهش (ص: 228)
(13) رواه البخاري (6308) وأحمد (1/ 383)
(14) الداء والدواء (ص: 51)
(15) رواه الترمذي (2378) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 664)
(16) حلية الأولياء (3/ 138)
(17) إحياء علوم الدين (2/ 176)
(18) رواه مسلم (2626)
(19) رواه البخاري (2805)
(20) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 68)
(21) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 244)
(22) مدارج السالكين(2/ 444)
(23) الذريعة الى مكارم الشريعة (ص: 112)
(24) المدهش (ص: 229)
(25) طبقات الحنابلة (1/ 293)
(26) بغية الطلب (8/ 3572)
(27) بدائع الفوائد (3/ 218)
(28) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148)
(29) رواه البخاري (1969) ومسلم (782)
(30) رواه ابن ماجه (1334) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1298)